بدأت مصر كلها تدخل في مرحلة الجد الدستوري، بمعني أن ما كان نوعا من المناوشات السياسية، ونوعا من الإعلانات الصحفية بهدف الدعاية أو الإحراج، قد بدأ الآن يتحول إلي نصوص، وقريبا فإن النصوص سوف تتحول إلي مسودات، والمسودات سوف تصبح مشروعات وثائق، والوثائق سوف تصبح مطروحة للتصويت والتصديق. كانت البداية كما نعلم جميعا عندما انتهي الموسم السياسي الكبير لعام 2005، ورغم ما كان فيه من " حراك " سياسي فإنه انتهي علي جميع الجبهات بدرجات من عدم الرضي، فلا كان الحزب الوطني الديمقراطي راضيا عما حصل عليه فعليا _ أي قبل انضمام المستقلين _ في الانتخابات التشريعية، ولا كانت جماعة الإخوان المسلمين راضية عما حصلت عليه لأنها تعتقد بحقها في الحصول علي ما هو أكثر، ولا كانت بقية الأحزاب الأخري راضية عما حصلت عليه بالفعل أثناء الانتخابات. ولأول مرة فإن عدم الرضاء لدي الجميع تحول إلي سلسلة من المناقشات والحوارات الداخلية، التي صاحبتها انقسامات عميقة، وبعضها كان سلميا أما بعضها الآخر فقد كان عنيفا. كل ذلك قد صار وراءنا الآن، أو علي الأقل جزءا غير قليل منه، وأصبح علي الجميع أن ينفضوا عن كاهلهم نتائج مرحلة سبقت ويفتحوا الأبواب لمرحلة جديدة بعد أن تم استطلاع رأي الجميع في مجلسي الشعب والشوري حول الإصلاحات الدستورية القادمة. هذه الإصلاحات سوف تكون أكثر شمولا من المحاولة المحدودة لتعديل المادة 76 من الدستور خلال العام الماضي والتي وصلت للأسف إلي آفاق مسدودة حتي بات ضروريا إجراء التعديل علي التعديل. وخلال الأسابيع القليلة الماضية وضح أن هناك مدرستين تسيران في اتجاه الإصلاحات الدستورية، وأولاها مدرسة الحزب الوطني الديمقراطي والتي تنطلق من برنامج الرئيس مبارك المعروف خلال الحملة الانتخابية الرئاسية، وهو برنامج يقوم علي الحفاظ علي هيكل الدستور الحالي، ثم بعد ذلك يقوم أفقيا بتعديل المواد القائمة الخاصة لإعادة توزيع السلطات مرة أخري بحيث تزيد سلطات رئيس الوزراء ومجلس الشعب والأقاليم خصما من الأوضاع الحالية، مع عدد من التعديلات الضرورية التي تسمح بتغيير قانون مباشرة الحقوق السياسية _ الانتخاب _ وسن قانون لمقاومة الإرهاب حتي يمكن وقف حالة الطواريء. والمدرسة الثانية جاءت من جماعة الإخوان المسلمين في البرلمان، وقلدتها بقية الأحزاب الرسمية الأخري، حينما ركزت وثائقهم الإصلاحية علي المواد الخاصة بالإصلاح السياسي التي تجعل البلاد تقترب من نظام الجمهورية البرلمانية حيث يتم تقييد سلطات رئيس الجمهورية وتوسيع سلطات البرلمان. وبشكل عام فإن ما ورد في إصلاحات الإخوان والتجمع وغيرهم من الأحزاب عكست الأفكار السائدة في المجتمع المدني المصري خلال الشهور الماضية، وقامت علي نوع من اقتطاع رأسي من قلب الدستور للمواد الخاصة برئيس الجمهورية لكي يقوم ويدور حولها الإصلاح. ولكن المدهش في الموضوع، وسواء كان التعديل رأسيا أم أفقيا، أن الكل أجمع علي قبول صيغة جزئية للإصلاح، والأخطر من ذلك أنه أصبح مقبولا نوعا من الترقيع للوثيقة الدستورية، مع القبول بنوع من التلفيق الفلسفي بين التعديلات المقترحة والركائز التي يقوم عليها الدستور الحالي. والحقيقة أن أحدا لم يكن مشغولا داخل الحزب الوطني الديمقراطي بمسألة الاتساق الفلسفي هذه، وسواء كان النظام السياسي يقوم علي تحالف قوي الشعب العاملة، أو يقوم علي فكرة التعددية الحزبية والفكرية، فإن التعديلات المقترحة لن تشغل بالها بهذه التناقضات البسيطة إما لأنها غير مهمة عند العلاقة مع المواد العملية والإجرائية للدستور، أو أنها لم تكن مهمة في يوم من الأيام، ولا داعي لإعطائها أهمية في وقتنا الحالي لم تكن موجودة من قبل. ولكن المشكلة ليست موجودة في الحزب الوطني الديموقراطي وحده، فكل ما يهم بقية الأحزاب هو تقييد سلطة رئيس الجمهورية والتأكد من إمكانية التداول السلمي للسلطة خلال فترات محددة للمنصب العام. وكل ذلك في الحقيقة لا غبار عليه، ولكن المشكلة في ذلك هو أن بقية الدستور تعبر عن دولة تدخلية عميقة التدخل في حياة المواطنين لها فلسفة اقتصادية واجتماعية تقوم علي دولة مهيمنة ومسيطرة علي كل جوانب الحياة الاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية والسلوكية للمواطنين. ولم يحدث في التاريخ من قبل أن كان هناك في العالم مثل هذه الدولة ثم كانت دولة ديموقراطية في نفس الوقت لان السيطرة والهيمنة لا تتجزأ. وتحل الأحزاب هذه القضية بالحديث عن دور الدولة في التجربة الآسيوية ثم بعد ذلك عما يعد نوعا من عودة الدولة التدخلية _ الاشتراكية _ في أمريكا الجنوبية. وكلا المقولتين لا تستندان إلي أساس من الناحية التاريخية ومن ناحية التجربة العملية فهناك فارق ضخم بين دور الدولة كمنظم وحارس ومنفذ للقوانين _ وهذا وارد في التجربتين الآسيوية والاشتراكية الديموقراطية- والدولة التدخلية التي تسيطر علي التعليم والإعلام والاتصال والأخلاق والإنتاج والاستهلاك، بل وحتي التوفيق في حالة المرأة _ كما ينص الدستور المصري _ بين عملها وأسرتها. مثل هذه الحالة من الانفصام ما بين فكرة التعديلات والفلسفة الكلية للدستور تحتاج إلي تفسير خاصة وأنه لن يمض وقت طويل حتي نبدأ مرة أخري في العودة إلي النقطة التي بدأنا منها التعديلات الدستورية. فالمرجح أن كافة القوي السياسية مذعورة من فكرة التغيير الشامل، وهو بالنسبة لها نوع من المغامرة نحو المجهول، خاصة وان كل طائفة منها لديها مجموعة من أقداس الأقداس التي لا تريد لأحد الاقتراب منها. فالحزب الوطني الديموقراطي لا يريد للتغيرات أن تكون من العمق بحيث تحدث هزة عميقة في النظام السياسي الذي دان له خلال العقدين الماضيين وجعله بطريقة سحرية قادرا علي الحفاظ علي أغلبية " مريحة " مهما كانت الطريقة التي تتم بها الانتخابات. وجماعة الإخوان المسلمين تريد للمادة الثانية من الدستور أن تبقي وتتمدد من الناحية السياسية لكي تصبح هي الدستور كله حتي تطغي عليه تماما فتكون القضية هي الفتوي بما جاء في صحيح الشريعة وليس تشريع القوانين بما يتسق مع الأصول الدستورية. وبالطبع فإن الأحزاب الناصرية واليسارية في العموم لديها مشروعها الخاص بالدولة التدخلية وهي لا تري تناقضا بين لعناتها للدولة صباح مساء ومطالباتهم بضرورة التمسك بالقطاع العام مهما كان فشله وتوسيع البيروقراطية مهما كانت سطوتها. وما تبقي بعد ذلك لا يزيد عن جماعة ليبرالية الصغيرة مدركة لحقيقة العلاقة بين فلسفة الدستور ونصوصه، وهي راغبة فعلا في تغيير جوهري، ولكنها تري أن اعتبارات السياسية العملية تحتم القبول بما هو ممكن الآن، لأنه كما يقال فإن عصفورا في خيرا من عشرة عصافير علي شجرة الزمن التي لا يعرف أحد عما إذا كانت موجودة أم لا. ونتيجة ذلك كله أن الجمع المصري كله يمينا ويسارا لا يريد الخوض كثيرا في أصول المسائل ويكتفي بفروعها؛ ولا عجب إذا أننا ربما نكون بصدد تجربة لا تختلف كثيرا عما جري في العام الماضي عند تعديل المادة 76 من الدستور، ولكن الاختلاف سوف يكون أن التجربة هذه المرة سوف تكون أكثر عمقا واتساعا !!.