عندما نتكلم عن نظام عالمي (أو نسق عالمي World Order) فنحن نشير في الحقيقة إلي منظومة القوي المؤثرة علي النظام الدولي في تطوره وأمنه واستقراره. بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية بالتحديد اختفت قوي كثيرة وظهر مكانها قوي أخري بقدرات وخصائص وأيديولوجيات مختلفة، وأُطلق علي النظام العالمي السائد في ذلك الوقت "النظام ثنائي القطبية" انعكاسا لاعتماده في الأساس علي قوتين عالميتين: الاتحاد السوفيتي والولاياتالمتحدة. الشئ الجديد الذي برز مع النظام ثنائي القطبية هو الأممالمتحدة ومجلس الأمن، وأصبح ميثاق الأممالمتحدة مرجعا للقانون الدولي في شئون الحرب والسلام، وعمل الميثاق نظريا علي الأقل علي إعلاء سيادة الدولة وتأكيد حرمة الاعتداء عليها والتدخل في شئونها، لكن ذلك لم يمنع من أن يكون المحدد الأول للتطورات الدولية هو طبيعة التوازن بين الاتحاد السوفيتي والولاياتالمتحدة. المشاهد الأخيرة في تلك الحقبة كانت سقوط شاه إيران بفعل الثورة الإسلامية بقيادة آية الله الخميني، وخروج الاتحاد السوفيتي من أفغانستان تحت ضغط قوي الجهاد الإسلامي المدعوم من دول إسلامية وبمباركة الولاياتالمتحدةالأمريكية، ثم سقوط حائط برلين وانتهاء الحرب الباردة. وفي تلك الفترة من تاريخ العالم لم تكن أوروبا قوة دولية مؤثرة في الأحداث، بل كانت تقبع تحت حماية الولاياتالمتحدة وحلف الناتو، أما الصين فقد كانت مشغولة بصراعاتها الداخلية. بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وتفكك معسكره في 1989، ظهر نظام عالمي جديد "أحادي القطبية" تنفرد فيه الولاياتالمتحدة بقوة الحل والعقد في النظام الدولي، أما باقي القوي فجلست علي حافة العالم تتفرج وتسهم بمشاركات فرعية لكن غير مؤثرة. مثل "فتوة" الحي في قصص نجيب محفوظ امتحنت الولاياتالمتحدة في ثورة إيران، وحرب الخليج ضد صدام حسين، وفي البوسنة وكوسوفو. ولم تكن الأممالمتحدة غائبة في تلك الفترة عن معترك السياسة الدولية، لكن حركتها المؤثرة كانت مربوطة بمجال القوة العالمي الذي احتلت الولاياتالمتحدة فيه مكانة القوة العظمي الوحيدة علي مستوي العالم. علي يد القوة الأمريكية تحققت عملية إعادة تشكيل أوروبا الشرقية وتأهيلها للاندماج في المعسكر الغربي، وخلف أمريكا ركضت الإرادة الأوروبية والأممالمتحدة. ومع نهاية رئاسة كلينتون كانت الأدبيات الأمريكية تتحدث عن قوة أمريكية وحيدة علي المسرح العالمي، مستعدة لخوض حربين في وقت واحد ضد قوي أصغر منها، لأن الساحة الدولية كانت خالية من قوة دولية واحدة علي نفس مقاس الولاياتالمتحدة. لكن الأمور سارت في مسار مختلف عما توقعته الولاياتالمتحدة. والأمر يعود إلي إرهاصات قديمة لم يلحظها أحد في حينها من أول استيلاء الثورة الإيرانية علي مقاليد الحكم في طهران في نهاية السبعينات، ثم خروج الاتحاد السوفيتي من أفغانستان علي يد المجاهدين المسلمين قرب نهاية الثمانينات. لقد كانت هناك قوة جديدة تتشكل علي المسرح الدولي بدون أن يشعر أحد بها تتحرك من الشرق إلي الغرب خطوة خطوة وببطء ولكن بثقة، وبتخطيط محكم لكنه مرن يقوم علي ملء الفراغات، متجاهلة الدول تماما ومركزة علي الأفراد والجماعات والمؤسسات الصغيرة، ومستغلة للمشكلات الدولية والمحلية لمضاعفة عدد مريديها والمتعاطفين معها. ومن البداية كان هدف هذه القوة عالميا أي بناء قوة عالمية منافسة تحتل مكانا في نظام القوة العالمي وتشكله لصالحها بعد أن تتغلب علي قوة الولاياتالمتحدة، وتحط من قدر التحالف الغربي، وتنال من هيبة وقدرة كل الدول التي تسير في ركاب هذا التحالف. البداية كانت واحدة تقريبا في مصر والسعودية ودول الخليج والمغرب واليمن وتركيا وباكستانوأفغانستان إلي المحيط الهادي كمنصة للانطلاق، مع خلق وجود متقدم في أوروبا وكندا والولاياتالمتحدةالأمريكية وأمريكا اللاتينية. أتذكر في تلك الفترة ظهور الشيخ الشعراوي، وعملية نشر الحجاب، والفنانات المعتزلات، واختراق النقابات والأندية الرياضية والمساجد والزوايا والجامعات. ويجب الاعتراف بأن العملية قد حققت نجاحا باهرا في مصر وفي معظم الدول العربية والإسلامية وتزامنت مع نشر الرعب عن طريق العمليات الإرهابية. وفي أقل من عشرين سنة تقريبا أصبح الحجاب فوق رؤوس معظم النساء في مصر، وانتشر بنفس المعدل تقريبا في معظم الدول المجاورة، وتطور حاليا ليدخل مرحلة جديدة هي مرحلة النقاب الذي ينتشر بمعدلات عالية في كل المناطق تقريبا الغنية منها والفقيرة. ولا يوجد قهر مباشر علي النساء وراء هذه النتيجة، ولكن عمل دءوب مبرمج محدد الهدف، لكنه عند مرحلة معينة لا يتورع عن القتل إذا وجد مقاومة، كما حدث مؤخرا في تركيا عندما قتل متطرف مسلم قاضيا تركياً في قضية منع سيدة من ارتداء الحجاب. التدشين العالمي الحقيقي لتلك القوة العالمية الجديدة كان في 11 سبتمبر 2001. عملية عسكرية عالمية متكاملة بكل المقاييس، عابرة للمحيطات والجنسيات، بها حجم هائل من الإبداع والتجديد يجعلها مختلفة تماما عن الفكر الدولي الكلاسيكي في استخدام القوة والمناورة بها، والأهم من ذلك كله وضع تعريف جديد لمعني النصر في المعركة يختلف عن معني النصر في المعارك التقليدية. وبرغم أن البعض ينظر إلي 11 سبتمبر بوصفه البداية إلا أن الحدث كان كاشفا ومفسرا لسلسلة طويلة من مراحل بناء تلك القوة في الماضي بكل عناصرها الأساسية من أول القيادة والسيطرة، إلي التسليح والتمويل والمخابرات والاستطلاع والتدريب والتعاون والتحالف، مرورا بخطط الإعلام والإعلان بكل الطرق والوسائل الممكنة. ولا تعني الأممالمتحدة لهذه القوة شيئا، وكذلك مجلس الأمن، أو أية مؤسسات دولية أخري..علي الأقل حتي الآن. هذه القراءة الأولية لبداية صعود قوة عالمية جديدة يؤيدها سجل طويل من العمليات العسكرية والسياسية والإيديولوجية الموجهة والتي لا يتسع المجال لذكرها كلها الآن لكن يمكن الرجوع إليها بسهولة وربطها معا والوصول إلي يقين أننا أمام عمل استراتيجي هائل ومعقد. ليس من أهداف هذه المقالة التطرق لجوانب الخير والشر في تلك القوة العالمية المرتكزة في الأساس علي فكر إسلامي له طريقته الخاصة في تفسير تعاليم الإسلام وفي استخدام القوة، ولكن البحث في مدي عالمية هذه القوة ومدي قدرتها علي تحدي نسق القوة الأحادي الذي تحتكره الولاياتالمتحدة بحكم قوتها العسكرية والاقتصادية الهائلة. قد يساعدنا في إثبات عالمية تلك القوة تذكر بعض المحطات المهمة لها مثل اغتيال الرئيس السادات، وتدمير السفارة المصرية في باكستان، وتدمير سفارتين لأمريكا في إفريقيا، ومدمرة في البحر الأحمر، وعملية مدريد ولندن والدار البيضاء وعمان، وعشرات العمليات في موسكو والشيشان وفي جنوب الصين وتايلاند وإندونيسيا..إلخ ولم يقتصر نشاط هذه القوة العسكري علي البر بل وصل إلي البحر في العديد من العمليات حتي أن مكافحة الإرهاب البحري أصبح علي نفس درجة مكافحة الإرهاب البري والجوي. ونتيجة للوجود العالمي لهذه القوة علي مستوي الإدراك والفعل، لم يعد يتم الإعداد لأية مناسبة دولية كبري أو صغري، من أول الدورات الأولمبية إلي مؤتمرات القمة السياسية، إلا ويتم التجهيز لحمايتها بواسطة قوات برية وبحرية وجوية ومن الدفاع الجوي، وأحيانا يُستدعي حلف الناتو للقيام بمثل هذه المهام الذي لم يكن في مخيلة أحد أن يتولاها مثل هذا الحلف الكبير كما حدث في أولمبياد أثينا. تمر هذه القوة حاليا بمرحلة تحول جديد بعد أن تأكد الاعتقاد علي نطاق واسع بأنها قوة حقيقية موجودة وليست خيالية. التحول الأول يتجلي في انتقال هذه القوة من موقع المعارضة إلي كرسي الحكم. ويقوم هذا الافتراض علي وجود علاقة ما وثيقة بين التنظيمات السياسية الإسلامية المعروفة والموجودة علي الساحة الدولية مثل الإخوان المسلمين وحماس والجهاد والنظام الإيراني من جهة وبين الجماعات الأخري غير المعروفة الممارسة للعنف وهي بالمئات الآن ولها آلاف المواقع علي شبكة الإنترنت. ويعتقد البعض أن ذلك يمثل تراجعا في مسار هذه القوة، ويراها آخرون أنه الامتداد المنطقي لمشروعها طويل المدي للسيطرة علي العالم والوقوف في وجه الولاياتالمتحدة. أما التحول الثاني وهو الأهم، ويتمثل في سعي هذه القوة لامتلاك أسلحة للدمار الشامل حتي ترقي إلي مستوي التحدي العالمي، وقد تكون الخطوة الإيرانية للتمكن من التكنولوجيا النووية تعبيرا عن ذلك التحول. وفي كل الأحوال لا يمكن إلغاء التفكير في احتمال وصول ما تملكه طهران إلي جماعات مثل حماس والجهاد وحزب الله، وهو موضوع لن يقتصر علي البعد النووي بل قد يمتد إلي الكيماوي والبيولوجي. خلفية الأوضاع الدولية كلها تصب في صالح نمو هذه القوة الجديدة، من أول تأثيرات العولمة إلي الصراع العربي الإسرائيلي، إلي غياب الحسم الغربي في أفغانستان والعراق، إلي اختلاف القوي التقليدية الدولية في توصيفها لما يحدث أمامها من تطورات. روسيا والصين مترددة خائفة، وأوروبا لا تريد التورط مع الولاياتالمتحدة مرة أخري لكنها مرعوبة من امتلاك إيران للسلاح النووي. لكن في النهاية وبمجرد امتلاك إيران للسلاح النووي سوف يتأكد أن العالم في طريقه إلي نظام عالمي جديد، يحتاج إلي مفاهيم مختلفة لتعريفه، وتحديد معني التوازن بين أطرافه، والأكثر احتمالا التورط في مرحلة طويلة من الصدام لا يُستبعد فيها استخدام السلاح النووي، وهو ما بدأ الأطراف علي الجانبين الحديث عنه بصوت عال، والتهديد به بدون مواربة