في غمرة الاتجاهات الجديدة للثورة علي الموروث الديني، والدينيوي.. بما تطالعنا يوميا وعلي مدار الساعة.. ميديا الإعلام.. بالسادة المتشابكين.. من أساتذة.. ودكاترة.. ومشايخ.. وساسة.. ودعاة.. ومن كل الطوائف والمذاهب والأحزاب.. علينا طالعين.. ومن كل الفئات "عدا العمال والفلاحين" علينا بالمحاضرات نازلين.. وللواقع محللين.. ولبرنامج الرئيس معارضين.. وبدون حلول يتركوننا في الطريق تائهين.. واللي يفرس الحليم.. انهم بجميع الأسلحة عن وجهة نظرهم مدافعين.. ونسوا أن هناك أصولا اسمها الحوار مع الآخرين.. وفيه اعتراف واعتذار في قاموس البني آدمين.. لكن للأسف كان ردهم.. وباستعراض إحنا بس ومفيش آخرين.. وبالصوت العالي زاعمين.. أن الحقيقة ملك اليمين..! يا سبحان الله.. الكل.. ملك الحقيقة المطلقة.. فكيف نتلاقي؟ قضايا كثيرة.. وآراء وفتاوي عشوائية.. عديدة متلاحقة وسريعة.. صح خطأ.. لا وقت حتي للتفكير! وتتسع المتاهة مع تتابع الكوارث، والأزمات، وهجوم المختلين.. ومن خلال مواجهات غير مدروسة بسلسلة من التخبط والسلوكيات الغربية.. وبدون نتيجة تتركنا في حيرة وقلق.. مع شعور طاغ.. أن هناك شيئا ما.. خطأ..!! ونحن مطالبون بتقديم رؤي الإصلاح السياسي والديني والاقتصادي والاجتماعي.. والنتيجة الاجتراء علي الاجتهاد ومن ثم الفتوي.. واختلط الحابل بالنابل.. وأصابتنا الفوضي، وكثرت الفتن.. حتي طالت أعمدة الأمان في المجتمع.. القضاء.. الداخلية.. والمؤسسة الدينية والتعليمية.. إلخ. وعن دور الإعلام في تصعيد سخونة الأزمات..نري البعض يطالب الأمن برفع يده عن المواطنين يوم الخميس 18 مايو يوم محاكمة المستشار هشام البسطويسي والمستشار محمود مكي لأنه سيوافق يوم وصول أكثر من 1300 شخصية عالمية إلي شرم الشيخ.. لحضور مؤتمر دافوس شرم الشيخ الاقتصادي وأري أنه كان يجب بدلا من مطالبة الأمن بالتخلي عن دوره!! أن يطلب من الحركات مثل كفاية، وشايفينكو وباقي التيارات اللي عايزة جنازة وتشبع فيها لطم.." أن يكون عندهم شوية انتماء وحس وطني.. ويلتزموا بالحفاظ علي أمن ومصلحة مصر وعدم الخروج للتظاهر في هذا اليوم حتي لو كان هناك موافقة رسمية بالمسيرة. وفي وسط هذا الخضم.. والتفكير في البحث عن حل.. حضرني الإمام..؟! الإمام الذي اعتلي المنبر.. ونادي بكلمة الإصلاح.. والتجديد المستنير في عصرنا الحديث.. لتمتد يدي إلي المكتبة وافتح كنوز صاحب "رسالة التوحيدش، و"الإسلام والنصرانية بين العلم والمدنية" أنه الشيخ محمد عبده رائد الإصلاح والدعوة إلي التجديد. وأبدأ بنص هذه الوثيقة بالسجل رقم 2 من سجلات دار الإفتاء المصرية، المرسوم الصادر من الخديو عباس حلمي بتارخ 24 من المحرم سنة 1317ه يونيو 1899م ونصه "فضيلة حضرة الشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية" بناء علي ما هو معهود من حضرتكم من العامية، وكمال الدراية، فقد وجهنا لعهدتكم وظيفة إفتاء الديار المصرية، فأصدرنا أمرنا هذا لفضيلتكم للمعلومية والقيام بمهام هذه الوظيفة". ثم تتابع بعد ذلك، تعيين المفتين باسم: مفتي الديار المصرية، بقرار من رئيس الدولة، إلي أن قامت ثورة 23 يوليو سنة 1952، فصار المفتي الرسمي للدولة، يعين بقرار من رئيس الجمهورية، وتحت اسم مفتي جمهورية مصر العربية" ويكون بدرجة "وزير". وقد ظلت دار الإفتاء المصرية منذ إنشائها، تنتقل من مكان إلي آخر حتي استقر بها المقام في المبني الحالي الخاص بها، بحديقة الخالدين بالدراسة بالقاهرة. وقد افتتحها رسميا الرئيس محمد حسني مبارك، في الثاني عشر من شهر ربيع الأول سنة 1412ه الموافق الحادي والعشرين من شهر سبتمبر سنة 1991م وقد ترك لنا الشيخ 944 فتوي خلال 6 سنوات في موضوعات متنوعة ومختلفة 80% منها يتعلق بمشكلات خاصة بالحياة المالية والاقتصادية وقضاياها.. لماذا الشيخ محمد عبده؟ كان يجمع الشيخان جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده.. هدف مشترك هو الغيرة علي الإسلام.. لكنهما اختلفا في الوسيلة.. حيث رأي الشيخ الأفغاني أن يجمع شتات المسلمين عن طريق السياسة تحت ظل دولة إسلامية واحدة.. وقد بذل الجهد والمسعي وانقطع عن العالم من أجل هذا.. ولكنه لم يوفق لأسباب طبيعية.. أما الشيخ محمد عبده الذي كان رفيقا للأفغاني فقد علم أن جمع كلمة المسلمين ورفع شأنهم من طريق السياسة صعب تحقيقه.. فسعي إلي جمع كلمة المسلمين عن طريق التعليم والتهذيب.. وحتي يستطيعوا مجاراة الأمم المتقدمة.. لابد من تنقية الدين من الشوائب التي طالته علي مر العصور بسبب اختلاف الأغراض والتمسك بالعرض وترك الجوهر.. ويعتبر الشيخ محمد عبده أول من جاهر أن الإسلام بحاجة إلي الإصلاح. وقد انقسم المسلمون إلي فئتين: فئة تري بقاء القديم علي قدمه حيث إن الاختلاط ومجاراة أهل التمدن الحديث يضعف عصبية الإسلام ويبعث علي تشتيت عناصره فيستحيل جمعها في ظل دولة واحدة.. وهم حزب المحافظين.. وأري أن الشيخ حسن البنا أخذ نهج الأفغاني.. وأن الإخوان المسلمين اتبعوه عن طريق إقحام السياسة في الدين.. وخلط الدين بالسياسة.. وإصرارهم علي ذلك.. برغم أن تجربة الأفغاني لم يكتب لها النجاح. وفئة تري حل القيود القديمة وإطلاق حرية الفكر والرجوع إلي الصحيح من قواعد الدين ونبذ ما خالطه من الاعتقادات الداخلية.. وتحكيم العقل والاجتهاد في جميع القضايا بالمشاهدة والاختبار ومواءمة ومطابقة التطور والعمران مع احكام العقل وأصول الدين.. وهذه المدرسة لها مريدوها.. أذكر منهم: عبدالرحمن الكواكبي والعقاد ود. محمد حسين هيكل مؤلف "حياة محمد" والشيخ محمد عبدالرازق والشيخ الغزالي.. ومن المصادفات الغريبة أن يكون الأستاذ جمال البنا من مريدي هذه المدرسة التنويرية علي عكس أخيه الشيخ حسن البنا مؤسس جماعة الإخوان. ومن أقوال الأستاذ جمال البنا في حل أزمة الاحتقانات الطائفية "ضرورة تعميق الإيمان بحرية العقيدة".. ويري كاتب المقال أن نهضة الأمم تعتمد علي ضرورة فك الاشتباك العنصري والطائفي.. وأن مفتاح إسعاد البشرية هو احترام كل إنسان للآخر. وقد سعي الشيخ محمد عبده بنشر فتاويه المتعلقة بالربا ولبس القبعة ونحو ذلك مما يقرب المسلمين من الأمم الأخري ويسهل أسباب التجارة.. وقد أطلق لفكرة الحرية في تفسير القرآن علي ما يوافق روح العصر فيجعل أقواله وآراءه فيه موافقة لقواعد العلم الصحيح المبني علي منهج تأويل النص الديني.. وكانت له اهتماماته في الإصلاح المؤسساتي وجهوده في إصلاح القضاء، والمحاكم الشرعية، ورؤيته في إصلاح الأزهر والتعليم.. وإسهاماته في مجال العمل الأهلي بإنشاء مدارس أهلية وتأسيس بعض جمعيات العمل الأهلي مثل جمعية التقريب بين الأديان، وجمعية إحياء الكتب العربية. وقد اعتراني شعور بالتفاؤل وأنا أشاهد الإعلامي جمال عنايت وهو يحاور المفكر المستنير دكتور أحمد كمال أبو المجد نائب رئيس المجلس القومي لحقوق الإنسان وكان الموضوع الرئيسي للحوار.. هل أغلق باب الاجتهاد؟ حيث قدم الأستاذ جمال عنايت أن من حق الناس أن يجتهدوا بل من واجبهم أن يجتهدوا.. فالاجتهاد بمعناه الحرفي بذل الجهد العقلي في إطار المصادر الشرعية لاستخلاص أحكام يلتزم بها الناس في عباداتهم ومعاملاتهم.. وهذا المعني يحتاج إنسان له جودة استنباط وله بصيرة بواقع الناس بحيث يستطيع أن يوائم بين هذاالواقع وحكم التشريع.. وأن هناك أصولا ثابتة لا جدال فيها في الدين أي قضايا ملزمة.. لكنا نحن المسلمين نجتهد في فروع الأحكام القديمة بعيدا عن الأصول الثابتة.. لكن مع الدافع المعاصر هناك قضايا يجب فيها الاجتهاد عميقا كالعلم التجريبي والاقتصاد الإسلامي وعلاقة الإسلام بالسياسة.. فباب الاجتهاد مفتوح.. فتحه الله ورسوله ولا يملك أحد إغلاق باب فتحه الله ورسوله. وهل للاجتهاد ضوابط وشروط؟ وقد أجاب الشيخ جمال قطب: ضوابط الاجتهاد حتي يسمي المجتهد مجتهدا ويسمي الطبيب معالجا.. لابد أن يكون له غاية يصل إليها، فأنا لا استطيع أن أقول هذا الطبيب إلا إذا كان يستهدف شفاء المريض.. فلا يمكن أن يكون فلان من الناس مجتهدا إلا أن يستهدف تحقيق الغاية.. فما غاية الدين الذين يستهدف الاجتهاد لابد أن ينتهي إلي غاية توحيد الله بمعني التقرب إلي الله بكيفية معينة؟ وقد علق الدكتور محمد المسير قائلا: إن الحكم علي الشيء فرع عن تصوره.. ما لم أتصور المسألة المعروضة علي.. ولم أفهم وقائعها المادية التي يحياها الناس.. فلن أستطيع أن أصل فيها إلي حكم شرعي صحيح.. أما قضايا السياسة فقد أصبحت متشعبة وتحتاج إلي فقه إسلامي سياسي يتلاءم مع مقتضيات العصر مع الاحتفاظ علي الجوهر الأساسي وهو أن الإسلام حريص علي العدل والشوري وهذا لا يتحقق إلا بالاجتهاد واجتهاد كبير.. انطلاقا مما طرأ علي الواقع الإسلامي المعاصر من تغير وتطور علي سائر مناحي الحياة وجب علينا أن نجتهد وأن يواكب اجتهادنا كل نواحي ومجالات الحياة المختلفة. ورأي الدكتور أحمد كمال أبو المجد.. أن التشديد في الفتوي غير مطلوب.. فيجب الأخذ بالأيسر وليس بالأحوط.. والاجتهاد في الدين أصعب شوية من الاجتهاد في الأمور الدينيوية.. فمطلوب من المجتهد معرفته وبصفة خاصة بعلوم القرآن وعلوم السنة وقواعد الاستنباط اللي هي أصول الفقه.. من لا يعرف هذا معرفته كافية لا يصلح أن يكون مجتهدا.. لأن المجتهد بيدي الناس رأي وبيطابق أحكام الشرع علي أوضاع الناس.. فهي مهمة كبيرة.. ولزم التركيز لأننا سنجد عندنا علماء شرعيين ولكن مش نصيين.. لازم يعرف علل الأحكام ومقاصد الشريعة الكبري والقواعد الفقهية التي قررها العلماء علي امتداد الزمان.. ولازم يعرف عصره.. وأنا دائما أضرب مث بالدكتور القرضاوي.. قبل أن يخرج إلي الدنيا ويتحول من داعية إلي فقيه مجتهد لم تكن أراؤه بهذا القدر من النضج والإفادة للأمة.. ولكن لم لما رأي الناس وظروفهم وأحوالهم وصل أن كتب في فقه الميسر.. دفعه إلي هذا أن الناس في عناء، وعنت وأن يفتي بالأيسر وليس بالأحوط.. فالنهاردة معرفة الواقع شرط لا يستغني عنه في أي مسألة.. فنحن نطبق النص علي واقع متغير. بارك الله في مفكرينا المستنيرين.. ورحم الله الشيخ محمد عبده.. فبرغم مرور مائة وواحد سنة علي وفاته.. فمنهجه في الإصلاح وعديد من فتواه تتلاءمش مع واقع الحال اليوم