يبدو أن أرض الكنانة علي موعد مع صيف بالغ السخونة، فما بين فتن طائفية كقطع الليل البهيم، وتراجع في مستوي الأداء الاقتصادي، ثم احتدام المواجهة بين الدولة من جهة وكل من القضاة والصحفيين ودعاة الإصلاح من جهة أخري بجريرة تفاقم التأزم في الموقف السياسي واتجاه مشروع الإصلاح والتغيير علي نحو تدريجي نحو الأفول، ازداد المشهد السياسي والثقافي المصري اشتعالا في أعقاب إصدارالقضاء المصري لحكم مثير للجدل يقضي بحق المصريين من معتنقي المذهب البهائي في كتابة كلمة "بهائي" في الخانة الخاصة بالديانة داخل بطاقة الهوية، وهو الحكم الذي قوبل برفض عارم من قبل المصريين، ليس فقط علي المستوي الشعبي ولكن أيضا علي مستوي معظم الدوائر الرسمية، ابتداء بالمؤسسة الدينية الإسلامية التي أبدت اندهاشها لصدور مثل هذا الحكم وعبرت عن رفضها المطلق لمضمونه ولمنطوقه، الذي من شأنه أن يسبغ الاعتراف القانوني بهذا المذهب، لا سيما وأن هناك إجماعا داخل كافة أفرع وأجهزة تلك المؤسسة علي التبرؤ من البهائية واعتبارها اتجاها فكريا مشوها لا يمت بأية صلة للإسلام، وهو الإجماع الذي صدر بناء عليه قرار الرئيس الراحل جمال عبدالناصر بحظر البهائية في مصر. غير أن الجديد والمثير في هذا الصدد، كان رفض وزارة الداخلية تنفيذ حكم المحكمة، الذي يلزم إدارة السجل المدني التابعة لها بكتابة صفة "بهائي" في خانة الديانة ببطاقات هوية الأشخاص المتمسكين ببهائيتهم، بل وإعلانها الشروع في الطعن بهذا الحكم. وفي خضم الغضب المصري البالغ المصاحب لتجدد الحديث حول قضية البهائية والبهائيين في الإسلام عموما وفي مصر علي وجه الخصوص، ظهرت علي استحياء دعوات خافتة للتهوين من شأن تلك المسألة ووضعها فيما اعتبر نصابها الحقيقي المتمثل في التعاطي معها من منظور حرية الاعتقاد سواء كانت البهائية دينا سماويا أو مذهبا دينيا إلهيا، شأنها في ذلك شأن المذاهب الإسلامية والمسيحية واليهودية، والتي تتسع أرض الكنانة لمعظمها، أو حتي كانت توجها فكريا يدخل في عداد الأديان الوضعية غير الإلهية، وهو الطرح الذي اعتبره البعض بداية توجه رسمي للمزايدة علي قضية حرية الاعتقاد في مصر وتوصيل رسالة لمن يعنيهم الأمر في الخارج بأن حرية الأديان في مصر تتسع للجميع سواء كانوا أقباطا أو حتي بهائيين. بيد أن بيت القصيد في تصوري يتجاوز مسألة حرية الاعتقاد من عدمها خصوصا في ظل الظرف السياسي والثقافي بالغ الحساسية والخطورة، الذي يعصف ببلادنا هذه الأيام، وتفجرت مجددا في سياقه حادثة أتباع المذهب البهائي في مصر، الأمر الذي يعرج بتلك الحادثة من حدود النطاقين الديني والثقافي إلي آفاق الاعتبارات الأمنية والسياسية المعقدة. ذلك أن حادثة البهائيين المصريين من شأنها أن تتحول إلي "قضية" أو"مسألة" إذا ما تمكن أصحابها من استقطاب عناصر خارجية والاستقواء بها بغية انتزاع ما يرتأونه حقوقا أصيلة تضمن لهم حرية ممارسة شعائر وطقوس مذهبهم الديني المغاير في مجتمع رافض دونما منغصات أو عراقيل، ومن ثم يمكن لهذا الحدث أن يتحول إلي أزمة حقيقية تضاف إلي سلسلة الأزمات التي تدهم المصريين، ما لم يتم احتواؤها من خلال معالجتها من جذورها بحكمة وشجاعة. فبمجرد أن يدلف المتغير الخارجي في معادلة الخلافات الداخلية، لاسيما الإثنية منها، تغدو السبل ممهدة أمام سياسات الأديان التي ترمي بدورها إلي تسييس القضايا المتصلة بالدين وحرية الاعتقاد وتوظيفها لخدمة أهداف وغايات سياسية أبعد مدي . وكم هي متربصة بعض دوائر السياسة والأمن داخل الولاياتالمتحدة بمثل هذه القضايا التي غالبا ما تتخذ منها ذريعة للتدخل في شئون الدول وممارسة الضغوط علي الحكومات بغية ابتزازها سياسيا، مستظلة بقانون الحريات الدينيةالذي سبق وأن أصدره وأقره الكونجرس الأمريكي في العام 1998، والذي يتسني للإدارة الأمريكية بمقتضاه التدخل في شئون أية دولة غير ديمقراطية لمناصرة الأقليات الدينية المضطهدة فيها، وحالة ما إذا تمكن النافخون في نيران الفتنة من تصوير البهائيين في مصر علي أنهم أقلية دينية مضطهدة، سواء قل عددهم أو كثر، فإنهم بذلك سيتحولون من مجرد حدث ديني أو ثقافي عارض إلي أزمة طائفية ذات أبعاد سياسية وأمنية تمثل تهديدا مباشرا للأمن القومي المصري، كما تلقي بظلالها علي نقاء الإسلام وسماحته وتشق عصا الطاعة والوحدة بين صفوف المسلمين. ولعل في واقعة إمامة الدكتورة آمنة ودود، وهي امراة أمريكية ذات أصول أفريقية لكنها مسلمة شيعية تعتنق المذهب البهائي وتعمل أستاذة للدراسات الاسلامية بجامعة الكومنولث في فيرجينيا وتدعو إلي مساواة المرأة للرجل في كل شيء، لتجمع نسائي ورجالي في صلاة الجمعة يوم 18 مارس من العام الماضي بمبني مجاور لكاتيدرائية سان جون بمدينة مانهاتن الأمريكية، ما يدفع باتجاه تعزيز تلك المخاوف. فمثل هذه الواقعة، التي أثارت جدلا حامي الوطيس في كافة الأوساط الإسلامية، قد تمت تحت سمع وبصر السلطات الأمريكية وجاءت تتويجا لمسيرة طويلة من الدعم الأمريكي الرسمي لآمنة ودود وأفكارها وللقائمين علي تلك المبادرة من أتباع المذهب البهائي داخل الولاياتالمتحدة، بدءا من توفير قاعة لصلاة تأم فيها امرأة الرجال والنساء جنبا إلي جنب داخل مبني كاتدرائية بعد أن رفضت المساجد الأمريكية السماح بهذا العمل الدخيل علي تعاليم الدين الإسلامي، مرورا بتوفير الحماية والوجود الأمني المكثف لضمان إتمام الصلاة علي الوجه الأكمل بلا أية منغصات من جانب الرافضين لتلك البدعة، وانتهاءّ بالتغطية الاعلامية الهائلة التي صاحبت الواقعة ونقلتها إلي كافة أرجاء المعمورة بالصوت والصورة والتعليق. ولم يكن هذا الدعم الرسمي الأمريكي الملحوظ لآمنة ودود التي تسعي للترويج للمذهب البهائي في أمريكا والتبشير به عالميا عبر كتبها ومحاضراتها التي تجوب بها أرجاء المعمورة، وليد اليوم وإنما يعود لسنوات طويلة مضت، ولربما ياتي ضمن استراتيجية أمريكية محددة ترمي إلي دعم وتنشيط الحركات الإسلامية الأمريكيةالجديدة الموغلة في العلمانية والشطط الديني كيما تحارب وتقوض من خلالها المنظمات الإسلامية السنية التقليدية المحافظة، التي كانت وراء أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، حيث عمدت السلطات الأمريكية منذ تلك الأحداث المأساوية إلي محاصرة الإسلام الأمريكي السني المتشدد والمناويء لسياساتها، التي يعتبرها مناهضة للإسلام والمسلمين وظهيرا لإسرائيل والصهيونية العالمية، وذلك من خلال دعم تأسيس الحركات الإسلامية الإصلاحية التي تتبني أفكارا دخيلة علي الشريعة مثل إباحة الاجهاض، زواج المثليين جنسيا، والعلاقات الجنسية غير المشروعة، ومساواة الرجل بالمرأة في كل شيء بما في ذلك الإمامة في الصلاة للرجال والنساء. ومن أبرز تلك المنظمات والحركات منظمة "صحوة الاسلام" و"جولة حرية المرأة"، و"اتحاد المسلمين التقدميين بأمريكا الشمالية"، وهي منظمات منحتها السلطات الأمريكية تراخيص التأسيس وتصاريح مزاولة النشاط بل والدعم المالي والإعلامي مقدما في الوقت الذي درجت علي التفنن في عرقلة نشاط المنظمات والجمعيات الإسلامية السنية المحافظة وتشديد الرقابة والقيود عليها،خصوصا في أعقاب أحداث سبتمبرالأسود. يمكن القول إذن أن ثمة اتجاها من داخل الإسلام يقوده أنصار المذهب البهائي وتدعمه دوائر سياسية ودينية غربية، يرنو بدوره إلي تأسيس مذهب إسلامي تقدمي جديد علي الطريقة اللوثرية يتضمن قيما ومباديء أقرب ما تكون للمذهب البروتستانتي المسيحي المغرق في العلمانية والمادية، وذلك في إطار ما يشبه حركة إصلاح ديني داخل الاسلام علي غرار تلك التي اجتاحت المسيحية الغربية إبان القرن السادس عشر علي أيدي كل من مارتن لوثر في ألمانيا وكالفن في سويسرا، الأمرالذي ينذر، كونه بات واقعا، بتداعيات كارثية تطال كافة بلاد المسلمين وتفوق في وطأتها تلك التي أطبقت علي أوروبا المسيحية خلال الحروب الدينية التي تلت المخاض العسير والدامي لما كان يسمي بعملية الإصلاح الديني. وهنا، يعن الإصلاح بوصفه ملاذا لراغبي الخلاص من هكذا مآل، حيث يظل حريا بالمصريين إعادة الروح لمشروعهم الإصلاحي الذي يحتضركيما تلتئم جروحهم وتخبو نيران الفتنة التي استوطنت ديارهم، كما يبقي علي المسلمين كافة أن يشمروا عن سواعد الجد ويباغتوا دعاة الفتنة بحركة إصلاحية جادة ورشيدة تعيد للإسلام تسامحه إزاء الآخر وسماحته مع أهله ومعتنقيه حتي لاتضيق عليهم تعاليمه بما رحبت فيضطرون للارتماء في أحضان البدع والأباطيل التي تتزيا برداء الإصلاح والعصرنة وتستظل بأوهام التحرروالحداثة.