محيط - شيرين صبحي فى النصف الثانى من القرن العشرين ازداد حجم الطبقة الوسطى فى الأقطار العربية نتيجة الاستقلال وما استتبعه من اصلاحات سياسية واقتصادية وإصلاحات اجتماعية واتساع نطاق عمليات التحديث والتطور السريع للنظام التعليمى فى معظم البلدان العربية خلال الخمسينات والستينات والسبعينات مما أعطى دفعة كبيرة لنمو الفئات المتوسطة بشكل لم يسبق له مثيل فى التاريخ العربى الحديث . ويعود هذا التطور فى دور الطبقي الوسطي ووضعها بالمجتمع، كما يري عبد الغفار شكر، إلى عاملين أولهما ارتباطها بجهاز الدولة والجيش والخدمات الحديثة، والعامل الثانى هو تعليمها وثقافتها، ومن ثم تشكيلها نخبة واعية تحظى بالاحترام والكلمة المسموعة من الجماهير الأمية والفقيرة والتقليدية. وخلال الفترة من الخمسينات حتى الثمانينات ساهمت الطبقة المتوسطة في تحديث المجتمع وتقدمه، وطرحت رؤى فكرية تدعو لمواصلة التأكيد علي قيم الاستقلال الوطنى والعدالة الاجتماعية والديمقراطية وساندت المشروع القومى الذى طرحته ثورة 23 يوليو بقيادة جمال عبد الناصر ليس فى مصر وحدها بل في الوطن العربى بأكمله. ومع تطبيق سياسة الانفتاح فى السبعينات وسياسة التكيف الهيكلى فى الثمانينات، اختلف وضع الطبقة الوسطى ، فلم يعد التعليم مجانيا وتخلت الدولة عن سياسات الدعم وعن توظيف الخريجين، وطبقت برامج لخصخصة القطاع العام فاستغنت عن أعداد كبيرة من العاملين به، وارتفعت أسعار السلع والخدمات الأساسية، واتسعت الفوارق بين الدخول بشكل كبير وتشكلت فئات رأسمالية جديدة. ومفهوم الطبقة الوسطى كما يوضح الدكتور محمد الرميحي، هو مفهوم اجتماعي اقتصادي ثقافي استمدته الثقافة العربية من خلال احتكاكها بالثقافة الغربية الحديثة، وهو مفهوم يراد به، إن تحقق على الأرض في أي مجتمع، أن ينتج استقراراً سياسياً وتطوراً اقتصادياً وانفتاحاً ثقافياً. ويبين غسان الامام أن الطبقة الوسطى تعرضت إلى ظلم كبير، فقد اعتبرتها الماركسية شريحة من شرائح الطبقة البورجوازية المستغلة التي لا بد من القضاء عليها بالثورة الدموية، لصالح سيادة الطبقة العاملة. ثم تعرضت إلى ظلم أكبر في المجتمع العربي والإسلامي بعد الاستقلال عن الاستعمار الأوروبي، من خلال الطبقة الجديدة التي استولت على السلطة السياسية. ويري الباحث حسن ابراهيم أحمد أن الطبقة الوسطى على درجة من الوعي تؤهلها للتفكير بمصير الوطن وهمومه , وارتباطاتها على الأغلب محصورة في الداخل ، ولديها من وطنيتها وثقافتها حصانة عدم الانجرار خلف مخططات خارجية , وهي بحسها الوطني وكتلتها الضخمة، كانت الرافعة الأساسية للتحرر وقيادة الحراك الاجتماعيي والنضالي ضد قوى الخارج، واجمالا فقد حملت على عاتقها في الكثير من بلدان العالم مسؤولية بناء الدولة والوطن . أوضح أيضا أن هذه الطبقة لم تعد كما كانت , فبعضها التحق عبر عمليات غير نظيفة " سمسره , فساد " بالطبقة البرجوازية ذات الهم المبتعد عن قضايا الوطن لانشغالها الشديد بثرواتها واستثماراتها , وأكثريتها همشت وجوعت وأنهكت الى حد الفقر والعوز , والتحقت بالطبقة الفقيرة , حتى لو بقي بعضها مسلحاً بفكر وثقافة مهمشين . وما تبقى منها خائر القوى لا يقوى على الحراك ولا يشكل رافعة وطنية . ويرجع الكاتب مرزوق الحلبي غياب الفئات الوسطى في المجتمعات العربية إلى قصور البنية الاقتصادية في الدول العربية الكبيرة والعجز عن إحداث حركة تمدين حقيقية تُفكك البُنى والمؤسسات الطبيعية وتُضعف أنساقها وتنشئ تعددا في المجتمع لا سيما في مستوى مراكز القوة، التي ظلّت محصورة في الولاء للدولة أو للمؤسسة الطبيعية اللتين قد تتطابقان في المشاريع أو تتصارعان عليها. وهذا ما ترك الفرصة مواتية للسلطة لفرض هيمنتها على الشعب بكل ما أوتيت من وسائل، أو للمؤسسات الطبيعية لحشد أعضائها في مواجهة السلطة لتنتهي إما بحرب أو بعناق. في البلدان العربية ليست مصر وحدها في الجزائر والمشرق العربي، استمرت استعارة شعارات الاشتراكية الماركسية عن المساواة والعدل الاجتماعي لتغطية التدمير المنظم للطبقة الوسطى، واحتكار السلطة والمال، كما يقول الكاتب غسان الامام. أما في مصر أيام حكم السادات، والسودان أثناء نميري والترابي، واندونيسيا في حكم سوهارتو، فقد تم إلهاء طبقة البروليتاريا الجديدة بآيديولوجيات جديدة غيبية تعد بالرفاهية في الآخرة. ولم تحدث الانقلابات العسكرية أو التحولات الديمقراطية في اندونيسيا وباكستان وبنغلاديش والسودان، تغييراً يذكر في بنية النخبة البورجوازية الحاكمة التي ظلت تتعامل مع المحكومين بنظام سلطوي بيروقراطي. وهكذا استمر تهميش الطبقة الوسطى واختصارها وإفقارها ودفعها نحو القاع الاجتماعي، لتصبح هي أيضاً بروليتاريا فقيرة ساعية دائماً للرزق والخبز. تراجع وانكماش تشير بعض التحليلات بأن الطبقة الوسطى في العالم الثالث، تعيش أزمة قد تفضي إلى التراجع والانكماش. ويرجع ذلك إلي التقدم التكنولوجي المعاصر والسياسات الليبرالية الجديدة وإجراءات الخصخصة. ففي دراسة منشورة للمجالس القومية المتخصصة المصرية، نشرها "الأهرام الاقتصادي" أكدت " أن الطبقة الوسطي خاصة فئتيها الوسطي والدنيا تواجه تدهورا في أوضاعها مما أدى بأعداد كبيرة منها إلى تغير مواقعهم الاجتماعية وحققت هبوطا إلى الطبقات الدنيا قياسا بمستوى دخولهم وعدم كفاية هذه الدخول لإشباع احتياجاتهم الأساسية ". وتعد العراق من الدول التي فقدت الكثير نتيجة وهن طبقتها الوسطى، وذلك بعد دخوله الحرب مع إيران الأمر الذي أدي لتوقف نمو هذه الطبقة. ثم اجتياح الكويت وما ترتب عليه من حصار وإفقار للمجتمع العراقي. كذلك حدث هذا التراجع بالجزائر حيث تركت السياسات الاجتماعية والاقتصادية المتخبطة التي اعتُمدت مع دخول البلاد فيما يشبه الحرب الأهلية ببداية عقد التسعينيات، آثارها السلبية على الطبقة الوسطى التي فقدت مواقعها المتميزة. بينما تميزت تونس بوضع مختلف ليس فقط في الحفاظ على مستويات طبقاتها الوسطى بل والعمل على تعزيزها منذ بداية العقد الماضي. حيث ساعدت المبادرات الاجتماعية التكاملية التي اتخذتها الدولة عبر إنشاء ما يعرف ب"صندوق 26/26" لدعم المناطق الأكثر فقرا، و"بنك التضامن التونسي" وأخيرا إنشاء "البنك المتخصص بالمؤسسات الصغيرة والمتوسطة الحجم"، على تقوية الطبقة الوسطى. أما في الخليج فيري علي القطري أن صورة الطبقة الوسطى به غير مشابهة لما هي عليه في البلدان العربية الأخرى كالعراق أو مصر حيث التاريخ وأنماط الحكم قد تكاد تكون مختلفة تماماً إذ تعتبر دول الخليج دول حديثة نسبياً إذ أن مفهوم الدولة لم يتشكل بالمعنى المؤسساتي أو الدستوري إلا مند عدة عقود في بعض الدول وغير مكتمل إلى اليوم في البعض الآخر. يوضح طيب تيزيني أن الآيديولوجيات الشمولية أشاعت الاعتقاد بأن الطبقة الوسطى شريحة من شرائح البورجوازية المستغلة. وكان الغرض دمغ أي تطلع أو أي دفاع أو دعوة لتبني قيم الطبقة الوسطى في التنوع والحرية والديمقراطية، وكأنه دفاع عن النخبة ولتمكينها من السيطرة. وقد استغلت النخبة في المجتمع الإسلامي والعربي هذا الادعاء الشمولي الزائف لتغييب فضائل وقيم الطبقة الوسطى، قيم الحرية السياسية والثقافية. وكانت النتيجة اتجاها اجتماعيا جارفا ومتهورا من آيديولوجيا شمولية دموية إلى آيديولوجيا غيبية أثبتت التجربة في إيران والسودان وأفغانستان عجزها عن تقديم حلول حقيقية لأجيال جديدة تتوق للحرية.