لعبت الطبقة الوسطي دوماً في مختلف المجتمعات دوراً كبيراً في مرحلة ما قبل الاستقلال وما بعده وقد تجلي هذا الدور في المنطقة العربية علي وجه الخصوص - في قيادتها لحركة الإصلاح والتحديث في العديد من البلدان العربية- كما في مصر ثورة يوليو 52، وفي سوريا والعراق وتونس - وإلي حد ما في دول الخليج العربي، خاصة في الخمسينات من القرن الماضي، هي أيضاً لعبت أدواراً لا بأس بها في تدشين العديد من مؤسسات المجتمع المدني والنقابات المهنية والأحزاب ووضع القوانين والدساتير والتعليم والخدمات العامة. أما بالنسبة للطبقة الوسطي العربية وعلي الرغم من انجازاتها ودورها التحديثي والإصلاحي- فإنها تعرضت إلي تآكل دورها التاريخي لأسباب كثيرة مثل ارتفاع حجم البطالة في صفوفها وتحول أعداد كبيرة من أفراد الفئة الدنيا من الطبقة الوسطي إلي الطبقة الكادحة لعدم قدرتها علي الحصول علي متطلبات الحياة اليومية بشكل كريم، هذا مع العلم أن هذه الطبقة. وفي الوقت الذي ازدادت فيه بسبب حيازتها علي مختلف أنواع التعليم المتوسط والجامعي، إلا أن أوضاعها لا تدل علي حالة ارتياح أو استقرار، بل الملاحظ ان معظم شرائح هذه الطبقة وعلي امتداد الوطن العربي تعاني الإحساس الشديد بالعنف وعدم القدرة علي الصمود وأمام جشع الطبقة العليا. ورغم ان الطبقة الوسطي هي أكثر طبقات المجتمع تعبيرا عن حالته العامة، وفي العادة تتشكل الطبقة السياسية والنخب الفكرية من الطبقة الوسطي، بحيث إن السياسيين والمفكرين المعبرين عن مختلف الطبقات ينتمون في غالبيتهم الساحقة تاريخياً إلي الطبقة الوسطي، وخلال العقد الأول من القرن الحالي تنامت ظاهرة خطيرة هي سيطرة الرأسماليين علي الحكم مباشرة في العديد من البلدان وعلي رأسها الولاياتالمتحدةالأمريكية، ورسخ قيم الاحتكار والتمييز لصالح أصحاب النفوذ السياسي حتي بين الرأسماليين أنفسهم، كما مهد الطريق إضعاف الدور السياسي التاريخي للطبقة السياسية القادمة من الطبقة الوسطي. ومن اللافت في هذا السياق ان بعضاً من أسباب نشوء ظاهرة التطرف السياسي في البلدان العربية انما يعود إلي اضمحلال الطبقة الوسطي ومن ثم غياب دورها المفترض والفجوة بين الأغنياء والفقراء - إلا في اللحظة الراهنة- مثل هذه الفجوة والحد من جشع الأغنياء وبؤس الفقراء وعلي اعتبار ان الطبقة الوسطي وعلي مر العصور كانت دائماً المفجر والمحرض علي ثورات الشعوب، فهي التي فجرت الثورة الفرنسية والبولندية، وكما أشرنا من قبل، كانت هي أيضاً المفجر والداعم لكل من الثورة المصرية في يوليو 1952 والثورة السورية والعراقية.. إلخ ثورة 25 يناير كانت من تخطيط مجموعة من شباب الطبقة الوسطي وسرعان ما انضم إليهم الشعب بأكمله بحثا عن الحرية، وهذه الثورة البيضاء، ليست في إطار «الفوضي» الخلاقة التي تنبأت بها وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة كونداليزارايس في عام 2005 بأنها ستمتد من شمال أفريقا إلي جنوبها والمنطقة العربية من أقصاها إلي أقصاها، فالثورة المصرية في 25 يناير شيء جديد ليس له مثيل في تاريخ الثورات. والطبقة الوسطي في التعريف الاجتماعي هي الكتلة الأضخم في أي مجتع، فهي تشمل المهنيين من خريجي الجامعات والعاملين في مجالات الفنون والآداب والثقافة والبحث العلمي وأصحاب المشروعات الصغيرة والمتوسطة. وهي كما يقول «كارل ماركس» أي مجتمع ينقسم إلي طبقتين أحدهما مالكو رأس المال، والآخر عديمو الملكية . في حين نجد ان عالم الاجتماع الدكتور «حليم بركات» في كتابه «المجتمع العربي المعاصر» يتحدث عن طبقة وسطي واحدة مكونة من شريحتين هما البرجوازية الصغيرة القديمة والبرجوازية الصغيرة الجديدة. هذا التباين في مقارنة هذه المجموعة الاجتماعية - الطبقة الوسطي- في الترتيب الطبقي للمجتمع العربي، وان عكس إلي حد ما اختلافاً في المنظور بين الباحثين، فإنه في الحقيقة يعكس مدي صعوبة تحديد وتعريف المقصود بالطبقة الوسطي والذي يعود إلي الظروف المحيطة بهذه الطبقة وبطبيعتها. ومن الناحية التاريخية تعود نشأة الطبقة الوسطي العربية إلي بدايات القرن الماضي وبلغت ذروتها في منتصف القرن العشرين حيث قادت حركة التحرر الوطني في العديد من الدول العربية. أما من الناحية «السوسيولوجية» فنعتقد أن الطبقة الوسطي العربية قد ازدادت من الناحية الكمية خاصة إذا ما أخذنا بعين الاعتبار التوسع الهائل في التعليم وخاصة الجامعي الذي ساهم بشكل كبير في تزويد هذه الطبقة يمعين لا ينبضب من الخريجين الذين يدخلون سنويًا إلي سوق العمل. ونتيجة للتحول إلي سياسة الاقتصاد الحر وما نتج عنها من سوء توزيع للدخل وانحدار جزء من الطبقة الوسطي إلي مصاف الفقراء. ورغم أن هذه النتيجة حقيقية إلا أنها لا تعني إلغاء وجود هذه الطبقة العملاقة في تعدادها والتي يعمل النسبة الأكبر منها لقاء راتب شهري، ولكنها تعني تعرضها للسحق اقتصاديًا نتيجة الارتفاع البطيء للأجور والذي يقابله ارتفاع أسرع للأسعار. مما أدي إلي انهيار الأجور الحقيقية ومستويات المعيشة ومكانة أبناء هذه الطبقة بحيث أصبحت شرائح واسعة منها ممن يعانون البطالة أو يعملون بأجور ضعيفة تتدهور تدريجيًا ضمن تصنيف الذين يعانون الفقر. هذا وقد تعرضت الطبقة الوسطي للكثير من عمليات النهب المباشر وغير المباشر لأموالها وممتلكاتها سواء من خلال سياسات سعر الفائدة غير العادلة. كما ورد ذكره من قبل أو من قبل شركات توظيف الأموال المتدثرة برداء الدين والتي استغلت ضعف ثقافة الاستثمار لدي العاملين بأجر الذين ينتمون للطبقة الوسطي، وبالذات العاملين في الخارج. كما تعرضت الطبقة الوسطي من صغار المستثمرين في البورصات بنهب مدخراتها في ظل الكثير من عمليات التحايل والتلاعب التي توحشت في غياب إطار قانوني قوي ورادع للمخالفين.. وفي ظل اقتصاد مستثمري الأقلية إلي مستثمر استراتيجي وبالذات الشركات المملوكة وذلك ليس في بلداننا العربية فحسب، بل حتي في البلدان الرأسمالية الصناعية المتقدمة تقنيًا وهو ما ظهر جليًا في الأزمة المالية والاقتصادية الأمريكية التي ساهمت في تفجيرها، عمليات تحايل عملاقة من المديرين التنفيذيين لنهب حقوق حملة الأسهم وبالتواطؤ مع شركات المحاسبة التي من المفترض أن تراقبهم وذلك في ظل غياب الرقابة الحكومية الصارمة ومن ناحية أخري أدت التحولات في سياسة التشغيل في الدول النامية التي اتبعت نظام الاقتصاد الحر إلي ارتفاع معدل البطالة بصورة هائلة وبالذات بين خريجي الجامعات الذين يشكلون قلب الطبقة الوسطي تقليديًا. بما يعنيه ذلك من افقاد جانب كبير من هذه الطبقة القدرة علي كسب العيش بكرامة. حيث تخلت الكثير من الدول عن الالتزام بتعيين الخريجين ولم تخلق البيئة الاقتصادية المناسبة لخلق الوظائف الكافية للراغبين في العمل في القطاع الخاص. كما أن غالبية تلك الدول لم تقدم إعانات للعاملين. كما تتأثر الطبقة الوسطي بطبيعة النظام الضريبي، فكلما تعددت شرائحه بشكل تصاعدي يتناسب مع المقدرة المالية لمن سيدفعون الضريبة أو بتغير علمي يتناسب مع المقدرة التكليفية للممولين، كان ذلك منصفًا للطبقة الوسطي التي تعد أكثر الطبقات التي تساهم في الحصيلة الضريبية لأن الجزء الأكبر منها ممن يعملون بأجر ووعائهم الضريبي واضح وهو رواتبهم التي يتم اقتطاع الضريبة منها من المنبع، أما الجزء الباقي من أصحاب المشروعات الصغيرة فإن ضعف قدراتهم المالية يجعل تكلفة التحايل علي الضرائب أكبر من طاقاتهم، مما يضطرهم لدفع ما عليهم غالبًا، كما أنهم يكونون في الغالب غير متمتعين بنفوذ سياسي أو إداري يمكنهم من التحايل علي الضرائب علي غرار ما يفعله بعض كبار الرأسماليين. كما تتأثر الطبقة الوسطي وهي المدخر الرئيس للأموال في الجهاز المصرفي عادة، بسعر الفائدة الحقيقي، فكلما كان إيجابيًا يكون ذلك لصالحها أما إذا كان سعر الفائدة سلبيًا فإنها تكون في مقدمة المتضررين، وعلي سبيل المثال أدي ارتفاع معدلات التضخم عن سعر الفائدة علي الودائع إلي افقاد مدخرات الطبقة الوسطي التي تشكل عادة الجانب الأعظم من المدخرات في الجهاز المصرفي. ولأن القطاعات المثقفة من هذه الطبقة تشكل بالفعل الوقود الأساسي لأي عملية للتغير الاجتماعي بالذات في الوقت الراهن بعد زيادة الوزن الاجتماعي والفعالية للعاملين من أصحاب الياقات البيضاء ممن ينتمون إلي الطبقة الوسطي في ظل التقدم التقني. وهذه الطبقة هي التي قادت عمليات التغيير الواسعة النطاق في بلدان شرق أوروبا خلال خمسة عشر عامًا الأخيرة من القرن الماضي. وهي نفسها كانت الوقود للشرارة الأولي لثورة 25 يناير التي قادها شباب الطبقة الوسطي من أصحاب الياقات البيضاء من خريجي الجامعات المصرية مستخدمين الفيس بوك وتويتر كوسيلة للتواصل الاجتماعي وحشد الجماهير من الشعب المصري الذي خرج عن بكرة أبيه ممثلاً لجميع الطبقات وعلي رأسها الطبقة الوسطي والطبقة الدنيا والمعدمون ومعهم وخلفهم كل الطوائف السياسية مساندة ومؤيدة هذه الثورة البيضاء والتي أصبحت نموذجًا يحتذي به في كل بلدان العالم خاصة في المنطقة العربية التي يعاني شعوبها الديكتاتورية وكبت الحريات.