أكدت دار الإفتاء في فتوى لها على تحريم الإدلاء ببيانات كاذبة غير مطابقة للواقع وللحقيقة إلى الجهات الرسمية، سواء كان للسفر للحج أو لقضاء أي مصلحة أخرى، وسواءٌ أكان في بلده أم البلد التي سيسافر إليها. وأضافت في فتواها أن التحايل حرام سواء أكانت الحيلة جائزة في نفسها أم كانت الحيلة نفسُها حرامًا. وإليكم نص الفتوى يقوم بعض الناس بالكذب بشأن البيانات التي تطلب منهم من الجهات الرسمية، فيخبرون بغير الحقيقة من أجل السفر إلى الحج؛ كأن يخبر بأنه لم يسبق له الحج قبل ذلك، فهل الكذب في مثل هذه الحالات جائز؟، وهل يجوز لسائق مثلا أن يدعي كذبًا أنه سبق له السفر إلى الحج من أجل الحصول على عقد للعمل كسائق خلال موسم الحج؟، وهل يجوز التخلف عن المدة المسموح بها لأداء الشعائر والبقاء بالأراضي المقدسة من أجل العمل أو العبادة؟ الجواب: من المقرر شرعًا وجوب طاعة أولي الأمر والالتزام بما يصدر عنهم من قوانين ما لم تكن حرامًا مجمعًا على حرمته، فقد أوجب الله عز وجل طاعة أولي الأمر بقوله: ?يا أيُّها الذين آمَنوا أَطِيعُوا اللهَ وأَطِيعُوا الرَّسُولَ وأُولِي الأَمرِ مِنكم?[النساء:59]، وقد أخرج السِّتّةُ عن ابن عمرَ رضي الله تعالى عنهما عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "السَّمعُ والطاعةُ على المَرء المسلم فيما أَحَبَّ وكَرِهَ, ما لم يُؤمَر بمَعصِية, فإذا أُمِرَ بمَعصِيةٍ فلا سَمعَ ولا طاعةَ"، والأدلة على هذا كثيرة، والإجماعُ منعقد على وجوب طاعة أولي الأمر من الأمراء والحكام فيما لا يخالف الشرع الشريف. وللحاكم أن يَسُنَّ مِن التشريعات ما يراه محققًا لمصالح العباد؛ فإنّ تَصَرُّفَ الإمام على الرعية مَنُوطٌ بالمصلحة، والواجبُ له على الرعية الطاعة والنصرة، ومَن دخل إلى بلد من البلاد فعليه الالتزام بقوانينها وتحرم عليه المخالفة، وحكومات تلك البلاد لم تضع مثل هذه الضوابط والتشريعات وتمنع ما عدا ذلك إلا لمصالح تُقَدِّرها. ومِن جهة أخرى فإن الكذب متفق على حرمته، ولا يرتاب أحدٌ في قُبحه، والأدلة الشرعية على ذلك كثيرة؛ منها ما أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: قال "مِن علاماتِ المُنافِق ثلاثةٌ: إذا حَدَّثَ كَذَبَ، وإذا وَعَدَ أَخلَفَ، وإذا اؤتُمِنَ خانَ"،فالكذب كله حرام إلا ما ورد الشرع باستثنائه، وهذه الصور المستثناة في بعض الأحاديث لا تُعَدّ مِن الكذب إلا على سبيل المجاز؛ منها ما أخرجه ابن أبي شَيبةَ والترمذيُّ وغيرهما عن أَسماءَ بنت يزيدَ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لا يَصلُحُ الكَذِبُ إلاّ في ثلاثٍ: كَذِبِ الرجلِ امرأتَه ليُرضِيَها، أو إصلاحٍ بين الناس، أو كَذِبٍ في الحرب". وفي رواية أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "يا أيُّها الناسُ، ما يَحمِلُكم على أن تَتايَعُوا على الكذب كتَتايُعِ الفَراشِ على النار، الكَذِبُ كلُّه على ابن آدمَ، إلا في ثلاث خصال: رجلٍ كَذَبَ امرأتَه ليُرضِيَها، ورجل كذب في الحرب، فإن الحرب خدعة، ورجل كذبَ بين مُسلمَين ليُصلح بينهما" –قوله: (تتايعوا) من التَّتايُع: وهو الوقوع في الشر من غير فِكرة ولا رَوِيّة والمُتابَعَة عليه، ولا يكون في الخير-، وأَخرَجَ مسلمٌ بعضَه من حديث أم كُلثومٍ بنتِ عُقبةَ بن أبي مُعَيطٍ -وكانت من المُهاجرات الأُوَلِ اللاتي بايَعنَ النبي صلى الله عليه وآله وسلم- أنها سَمِعَت رسولَ الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يقول: "ليس الكَذّابُ الذي يُصلِحُ بين النَّاسِ ويقولُ خَيرًا ويَنمِي خَيرًا". قال ابن شِهابٍ: [ولم أسمَع يُرَخَّصُ فِي شيءٍ مِما يقولُ الناسُ كذِبٍ إِلا فِي ثلاث: الحرب، والإصلاح بينَ النَّاسِ، وحديث الرجلِ امرأتَه وحديث المَرأةِ زوجَها]. وعلى هذا فالصور المذكورة في السؤال مِن الكذب المحرّم، وليست مِن جنس ما استثناه الشارعُ ورَخَّص في الكذب لأجله، وبناء على ما تقدم مِن وجوب إتباع القوانين والتشريعات المُنَظِّمة للمصالح والتي لا تعارضُ الشريعةَ الإسلامية، وعلى ما تقدم مِن حرمة الكذب إلا فيما استثناه الشارع، نقول:يحرم التحايل والإدلاء ببيانات كاذبة غير مطابقة للواقع وللحقيقة إلى الجهات الرسمية، سواء أكان للسفر للحج أم لقضاء أي مصلحة أخرى، وسواءٌ أكان في بلده أم البلد التي سيسافر إليها، والواجب التقيد بما رآه أولياء الأمر؛لما في الكذب من تفويت المصلحة التي تَغَيّاها الحاكم من سَنِّة القوانينَ، وهذا التحايل حرام سواء أكانت الحيلة جائزة في نفسها أم كانت الحيلة نفسُها حرامًا؛ بأن اشتملت على الكذب مثلًا، فإن الحرمة تتأكد، ومن ذلك إحضارُ السائق مثلًا لعقود وهمية مخالفة للحقيقة بأنه سبق له السفرُ والعملُ كسائق بالبلد التي سيذهب إليها، أو إخبارُ الحاج عن نفسه أنه لم يحج مِن قبل، أو أنه لم يحج في فترة محددة على خلاف الحقيقة، فكل ذلك لا يجوز؛ لاشتماله على الكذب أو الغش أو الخداع، وكذلك لا يجوز التخلف بعد أداء الشعائر إذا مَنَعَ الحاكمُ ذلك. دار الإفتاء