الحمد لله، والصلاة والسلام علي سيدنا رسول الله، وآله وصحبه ومن والاه، وبعد.. أيها الحجاج والمعتمرون.. أنتم وفد الله تعالي وزواره، ففيكم يقول المصطفي صلي الله عليه وآله وسلم: »وفد الله ثلاثة: الغازي، والحاج، والمعتمر« رواه النسائي وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم، وحق علي المزور أن يكرم زائره، فهنيئًا لكم ما أكرمكم الله تعالي به من التوفيق للسفر إلي البلاد المقدسة والفوز بهذه النعمة العظيمة التي حرمها كثير ممن يتوق إلي منازل الوحي ومشاعر الدين ويشتاق إلي ديار سيد المرسلين ومثوي خاتم النبيين سيدنا محمد صلي الله عليه وآله وسلم. أيها الحاج والمعتمر.. يجب عليك وقد أكرمك الله تعالي بهذه النعمة أن تشكره عليها، وأن تعلم أن من شيم الشكر وعلامات القبول أن يوفقك الله تعالي لحسن أداء العبادة والتحلي بالآداب الإسلامية فيها؛ حتي ترجع بعمل مبرور وسعي مشكور وتجارة لن تبور، وترجع من ذنوبك كيوم ولدتك أمك، ويتحقق فيك قول النبي صلي الله عليه وآله وسلم »العمرة إلي العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة« رواه البخاري ومسلم، واحذر الوقوع في المخالفات الشرعية والممارسات الخاطئة التي يتهاون بها كثير من الناس حتي يسلم حجك من المغرم والمأثم. أخي الحاج والمعتمر.. إن من الواضح لكل مطلع علي أحوال الحجاج والمعتمرين أن من أكثر الممارسات إساءة وأشدها ضررا علي سلامة ضيوف الرحمن هو التخلف عن الموعد الذي حدد لكل معتمِرٍ فيه وقت رجوعه إلي بلده، أو التخلف بعد العمرة لإدراك الحج، وهذا التخلف حرام شرعا وصاحبه واقع في المعصية والإثم الذي قد يضيع له ثواب حجه وعمرته؛ وذلك للأسباب الآتية: 1- أن مواعيد العودة هذه ولوائح تحديد أعداد الحجيج إنما جعِلَت للمصلحة العامة والحفاظ علي سلامة الحجاج والمعتمرين وتيسير أدائهم لمناسكهم في سهولة ويسر، ومخالفتها تسبب المضار الكثيرة التي تلحق بك وبالآخرين والتي تصل أحيانا إلي الوفاة، وقد تقرر في قواعد الشرع وأصوله أنه لا ضرر ولا ضِرار؛ فلا يجوز لك أن تضر نفسك ولا أن تسعي في إيصال الضرر إلي غيرك، وكل متخلف عن هذه المواعيد لزيادة وقت إقامته أو لادراك الحج فإنه يعد ساعيا في ايصال الضرر لضيوف الرحمن ومشاركا في إيذائهم، بل هو متسبب بتخلفه هذا - مع غيره من بقية المتخلفين - في حدوث الأضرار والاختناقات والوفيات التي تحدث من جراء تدافع الأعداد الضخمة للحجيج والمعتمرين في المناسك وغيرها، فاحذر أيها الحاج والمعتمر أن يطالبك الناس يوم القيامة بمظالم تسببت في حصولها لزوار الله تعالي وأنت مستهين بها الا تلقي لها بالاً. 2- التزامك بهذه المواعيد واجب شرعي يجب عليك الوفاء به شرعا؛ لقول الله تعالي: ».. وأوفو بالعهد إن العهد كان مسئولا« (الإسراء: 43)، وإخلافك بوعدك هذا إثمٌ ومعصيةٌ، وقد جعل النبي صلي الله عليه وآله وسلم خلف الوعد علامةً وخصلة من خصال النفاق في نحو قوله عليه الصلاة والسلام: »آية المنافق ثلاث: إذا حدث كَذَب، وإِذَا وعد أَخلَف، وإِذَا اؤتمِن خان« رواه البخاري ومسلم، وإذا كان خلف الوعد معصيةً في نفسه فإنه يكون أشد جرما إذا كان سببا لضرر الآخرين وإيذائهم بل ووفاتهم أيضا! 3- بالإضافة إلي ما في ذلك من مخالفة ولي الأمر، ومخالفته لا تجوز ما لم يأمر بمحرم؛ لأن الله تعالي قد أوجب طاعته في قوله سبحانه: »يا أَيها اّلذِين آمنواْ أَطِيعواْ الّله وأَطِيعواْ الرسولَ وُأولِي الأمرِ مِنكم « (النساء: 95)، وأخرج الستة عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلي الله عليه وآله وسلم قال: »السمع والطاعة علي المرء المسلم فيما أحب وكره لم يؤمر بمعصية، فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة«، وطاعة أولي الأمر سبب لاجتماع الكلمة وانتظام المعاش؛ فلابد للناس مِن مرجِع يأتمرون بأمره رفعا للنزاع والشقاق، وإلا لَعمت الفوضي ودخل علي الناس فساد عظيم في دينهم ودنياهم، والإجماع منعقد علي ذلك. وقد تقرر في القواعد الفقهية أن لولي الأمر تقييد المباح، وله أن يسن مِن التنظيمات واللوائح ما يراه محققًا لمصالح العباد، وتصرفه علي الرعية منوطٌ بالمصلحة، ومن دخل إلي البلاد المقدسة فعليه الالتزام بقوانينها، وتحرم عليه المخالفُة، وقد أمر ولي الأمر هنا بمغادرة البلاد بعد العمرة، فتجب طاعته علي الفور، ولا يجوز التخلُّف للحج ولا لغيره؛ لأن الواجب لا يترك إلا لواجب كما تقرر في قواعد الفقه، والحج الذي تخلِّف لأجله ليس بواجب في هذه الحال؛ لعدم استطاعة فعله إلا بمخالفات جسيمة. 4- كما أن من المقرر في الشرع أن المصلحة العامة مقدمة علي المصلحة الخاصة؛ فلا يجوز أن تسعي فيما تعده مصلحةً لك علي حساب مصالح إخوانك وسلامتهم، والمصالح العامة التي تفوت بتخلف المتخلفين مصالح عظيمة، فوجب تقديمها علي المصلحة الخاصة عند التعارض، ولا تغتر بدعوي أن أعداد الحجيج والمعتمرين لن تتأثر بك لأنك مجرد فرد واحد؛ فإن كل متخلف يحدث نفسه بذلك، ولا يلبث الأمر بذلك أن يصبح فوضي عارمة لا زِمام لها ولا خِطَام، والإسلام دين يحب النظام ويكره الفوضي وكل ما يؤدي إليها، فاعبد الله تعالي كما يريد لا كما تريد. 5- والحج عبادة أناطها الله تعالي بالاستطاعة فقال سبحانه: »ولّلهِ علَي الناسِ حِج الْبيتِ منِ استطَاع إِلَيهِ سبِيلاً« (آل عمران: 79)، ومن الاستطاعة المعتبرة شرعا قدرتك علي الحج من غير أن تؤذي نفسك أو الآخرين، فإذا حددت أعداد الحجيج التي تتناسب مع حجم الخدمات والمناسك كانت الزيادة عليها خروجا عن حد الاستطاعة، وكان التحايل لإدراكها مع تفويت مصلحة الحفاظ علي سلامة الآخرين أمرا محرما شرعا، ولقد راعي الفقهاء من المصالح ما هو أقل من ذلك؛ فقد نصوا علي أنه إذا ُأفرِطَتِ الغرامات المالية في الطريق إلي الحج قدم الحفاظ علي الأموال علي أداء فريضة الحج، كما ذكره الإمام القَرافِي في الفروق. 6- ناهيك عن ما يحصل للمتخلف من ذل في حال اكتشاف أمره حيث يتم ترحيله، بعد أن يدفع غرامة عن كل يوم تخلف فيه بعد موعد عودته المقرر له، والناس لا ينظرون إلي الذين يتم ترحيلهم إلا نظرة ازدِراء، والمسلم لا ينبغي له أن يذِلَّ نفسه؛ فقد قال النبي صلي الله عليه وآله وسلم: »لا ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه« رواه الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه. وإذا كان المسلم لا يلزمه قبول هبةِ ثمنِ الماء الذي يحتاجه لوضوئه لِما يلحقه من المِنة في ذلك فلأن لا يجب عليه تحصيل الحج بهذه الطرق المحرمة مِن باب أَولي، بل يتغلَّظ الأمر في هذه الحال؛ إذ الأمر لا يقتصر علي هذا المتخلف وحده، بل يتعداه فيتعير أهل بلده بذلك، وربما كان ذلك داعيا إلي سن تنظيمات ولوائح زائدة بخصوص أهل تلك البلد إذا تكرر من أبنائها مثل هذه الأعمال، فيكون الإنسان بذلك سببا في التضييق علي أهل بلده بسوء فعله، فهل يليق بنا أن يصدر منا ذلك ونحن سفراء لبلداننا أمام شعوب الأمة الإسلامية بل وأمام العالم كله! 7- وكذلك ما يحصل بسبب كثير من المتخلفين مِن أمور تسِيء إليهم وإلي بلادهم؛ كالتسول، وافتراش الطرقات، وهذا الافتراش تحصل عنه أضرار كبيرة تشاهد في كل موسم من جراء تعثر الحجاج بالمفترشين وسقوطهم فوق بعضهم، وفيهم من هو ضعيف أو مريض أو كبير السن، ويشتد الخطر مع ما يحملونه مِن أمتعة ثقيلة، ومع شدة الزحام فإن الأمر يؤدي إلي حدوث إصابات بالغة قد تصل إلي الموت. 8- وكذلك التكدس والتدافع الذي يعد التخلف من أكبر أسبابه، والذي هو أساس حدوث الإصابات والوفيات في الحج والعمرة؛ فإن المساعدة علي مثل هذا التصرف جريمة في نظر الشرع، ويجب علي المسلم أن يعلم أن الله تعالي لم يطلب منه عبادةً يؤذي فيها خلقه ويضيق عليهم؛ فيحرم عليك أيها الحاج والمعتمر أن تساعد علي حصول التدافع في أي مكان، سواء أكان ذلك عند المناسك أم كان في ركوب وسيلة السفر، بل أَيقِن أن رِزقَك واصلٌ إليك لا محالة، وأن من جبر بخواطر الناس وخاصة الضعفة من كبار السن والنساء فإن الله تعالي يكرمه وينزِله منزلاً مباركًا ويرجعه إلي أهله مجبور الخاطر ميمون الطالع محمود العود. وفي الختام.. أسأل الله تعالي لكم حسن القبول، ونيل المأمول، وسلامة الوصول. وصلي الله علي سيدنا محمد المختار وعلي آله الأطهار وصحبه الأبرار وسلم تسليما كثيرا.