"أبوالعربي" أول ضحية سخرة بحفر قناة السويس ميناء بورسعيد .. الوحيد الذي يأوى أسرة نيقولا زيادة سكينة فؤاد تتجول بين بنايات القناة الفاخرة مع أبيها نضال الشوارع ضد الإنجليز يرسمه قاسم مسعد عليوة العباسي يروي قصة أمينة وبيتهم الناجي الوحيد من الاحتراق مشروعات شرق التفريعة والقناة .. تنير الطريق للشباب ذكريات ساحرة مع طيور النورس ودور العبادة والبحر ورائحة الزهور في 23 ديسمبر أو نفس الليلة التي وقع فيها انفجار مديرية أمن الدقهلية الغاشم أول أمس، كانت مصر على موعد مع ذكرى هامة جرت وقائعها في 1956 حيث تجلت الإرادة المصرية وأثمرت مقاومة شعب مدينة بورسعيد البواسل للعدوان الثلاثي عن خروج آخر قطع بحرية إنجليزية وفرنسية مهزومة من البلاد وبذلك تأكدت مصرية قناة السويس . وفي كتاب صدر مؤخرا عن الهيئة العامة لقصور الثقافة تحت اسم "بورسعيد .. شهادات الحب والحرب" ، جمع الكاتبين الدكتور زين عبدالهادي وحسين عبدالرحيم شهادات لعدد من أهم الكتاب المصريين الذين عاصروا محنة العدوان على بورسعيد وبسالة رجالها ونسائها في صد المعتدين .. وجسدوا يوميات المدينة في دفاعها المستميت عن الكرامة والحرية . وبورسعيد هي أحدث المدن المصرية والتي ارتبط تأسيسها بضرب أول معول في حفر قناة السويس بعهد الخديوي اسماعيل 1958 وقد افتتحها الملك فؤاد 1926، ولمقاومة أهل بورسعيد قصصا عديدة تروى إبان العدوان الثلاثي على مصر ومرورا بحروب 1967 والاستنزاف وحرب التحرير في 1973 والتي دافعت فيها بورسعيد عن بوابة مصر الشمالية بجسارة منقطعة النظير. والصور المرفقة المنقولة عن إهداءات البورسعيدية على شبكة التواصل الاجتماعي فيس بوك، تظهر بجلاء معدن هذا الشعب الذي وقف أطفاله يلعبون أمام الدبابات التي تجتاح المدينة، وحين كان القصف محتدما كان شعب بورسعيد في حالة رباط وتآزر وفتحت البيوت للجرحى والمقاومين لحمايتهم وتطبيبهم. ذكريات عالقة بالقلب تتذكر الكاتبة القديرة سكينة فؤاد، ابنة بورسعيد في شهادتها كيف كان أبيها يصطحبها للتنزه بين ميادين بورسعيد ومعالمها، وكان قد فقد بصره فصارت "عينا" لأبيها في طريقه؛ منذ يخرجون من بيتهم بشارع الجزائر الممتد إلى قلب بورفؤاد تشاهد البلكونات الخشبية وقرميدها الأحمر الوردي والفيلل الفخمة لمديري القناة، تتشمم رائحة المانجو تداعب أنفها، وتهز بيدها الصغيرة يد أبيها الكبيرة الحانية ، ويمران بجامعي فاروق الأول والرحمة ، كما يمران بالمحكمة المبنية على الطراز الأندلسي .. لكنها فيما بعد صارت تغبط أبيها على فقدانه البصر واحتفاظه بصورة المدينة الجميلة التي صارت الفوضى والعشوائية عنوانا لها فيما بعد . أما الكاتب الكبير قاسم مسعد عليوة فيرسم ملامح من نضال شعب بورسعيد، عاصرها بنفسه؛ فهو قد ولد بخواتيم الحرب العالمية الثانية وبالطبع فقد نالت مدينته المحبوبة نصيبا وافرا من قنابل قوات المحور فهاجر بعض سكانها، لكن أهله لم يفعلوا، وحين صار في السادسة من عمره عاصر إلغاء معاهدة 1936 التي أتاحت لقوات الإنجليز البقاء في منطقة قناة السويس ، ثم حين أصبح شابا سار في المظاهرات المطالبة بجلاء الإنجليز في 1951 وشاءت الأقدار أن يشاهد بنفسه ويقترب من الزعيم الراحل جمال عبدالناصر وهو ينصب علم مصر فوق مبنى البحرية البريطانية ، ثم كان أحد الذين عاصروا العدوان الثلاثي . أيام مع الإنجليز يستطرد عليوة في تفصيل أيام المدينة تحت القصف وكيف وزعت القيادة المصرية السلاح على البورسعيديين لحماية مدينتهم من الاحتلال، وتعلم الصبية الصغار استخدام البندقية ذات النصل الأمامي الحاد، واقتربوا من القنابل حتى صارت جزء من يومياتهم، بل وتمرسوا على استخدام مدافع المتروليوز وتومي جن وغيرها، وروى كيف تمكن البورسعيدية من طمس أسماء الشوارع لتضليل جنود الاحتلال، وهو لا ينسى حين كتفه أهله بكرسي خشبي لمنعه من الخروج للمناطق المحترقة ، كما لا ينسى عناية الله التي أنزلت الأمطار لإطفاء الحرائق التي التهمت كل شيء وكانت المدينة تعاني شح المياه في ذلك الوقت، ولا ينسى أمه "أم علي" التي كان المصابون يتوافدون على بيتهم لتلقي العلاج على يديها بعد أن تكون رصاصات العدو قد اخترقت أجسادهم وتعذر وصولهم للمستشفيات . كما يتذكر "عليوة" أيام أن كانوا يكتبون عبارات تستفز الإنجليز على الجدران ومنها "your king is a woman" كما كانوا يكتبون عبارات المقاومة على جدران كنيسة الظهور الإنجليزية بحي الإفرنج ومنها "القناة لنا" و"كلنا ناصر" و"مصر مقبرة الغزاة" .. ويختم عليوة الذكريات بمشهد درامي لأبيه وهو يضطر لأن يهجر بلده خشية الانتقام الإنجليزي بعد خطف احد الضباط . ما بعد الانفتاح الكاتب السينمائي حسن عبدالرحيم فيتذكر معركة رأس العش التي تصدت خلالها بورسعيد للغزاة وهزمتهم عقب هزيمة 1967 كما يتذكر تهجير أهل المدينة في الحروب الثلاث وتوزيعهم على قرى مختلفة بربوع مصر، حتى جاءت حرب أكتوبر وذهب من ذهب وبقي من بقي داخل المدينة شاهدا على الصمود والخراب والأطلال في آن واحد، حتى صارت مدينة تجارية حرة عام 1975 . لكن عصر الانفتاح "السداح مداح" الذي خلفه السادات جاء بالقوى الانتهازية التي أثرت ثراء غير مشروعا وشهدت محاولات كارثية لطمس هويتها الحضارية التي جذبت الأجانب من كل الديانات، وصهرتهم ببوتقتها عبر العصور، فتجد أعرق المساجد والكنائس والمعابد على أرض واحدة. وقد استفحلت حركة تهريب البضائع عبر بوابات منافذ الجمرك منذ ذلك الحين. بين شوارع بورسعيد ينقل الكاتب عن قاسم مسعد عليوة في كتابه "المدينة الاستثناء" ما ذكره من أن شخصية "أبو العربي" الشهيرة ترجع لأول ضحايا شق قناة السويس بالسخرة ، وقد كان عاملا جيء به من حي العرب وحرفته الأصلية نقل الفحم ، وهناك أهازيج كثيرة مشهورة في التراث البورسعيدي وضعها الشعراء على لسان هذا الرجل ومنها "متى يا كرام الحي عيني تراكمو .. وأسمع من تلك الديار نداكمو" وهو يخاطب المهاجرين من بورسعيد . كما ينقل عبدالرحيم عن المؤرخ اللبناني الراحل مؤخرا نيقولا زيادة أنه لم يجد ميناء واحد يلوذ به عام 1947 سوى بورسعيد وكان بصحبة أسرته مهاجرين من فلسطين ضمن الترحيل القسري الصهيوني. أيضا يستدعي الكاتب ذكرى عبدالناصر حين أمر بإعداد فيلم عالمي عن بورسعيد يطابق الواقع، ويدين العدوان الغاشم ، وتلته أفلام كثيرة جسدت تلك البطولات ومنها "المشبوه" 1980 للمخرج سمير سيف و"أهل القمة" لعلي بدرخان و"الباب المفتوح" لزكي فطين، وغيرها. ويترجل بنا الكاتب بين تمثال فرديناند ديليسبس قرب ميناء الصيد القديم ويستعرض بكاميرا الحقيقة المدهشة بيوت الله ذات الزخارف والمشكاوات والمصابيح والقناديل والأفنية الفسيحة والمشربيات ومنها المسجد التوفيقي ومسجد السلام والمسجد العباسي ومسجد الوليد وكان مقبرة مؤقتة لضحايا الشظايا وهجمات البوارج على النسوة والرجال والأطفال على شاطيء بورسعيد وقت إنزال قوات العدوان الثلاثي. ومن الطرائف التي يوردها الكتاب أن الزي البورسعيدي التراثي متشابه بين صيادي بورسعيد وبين أقرانهم على السواحل الأوروبية ، كما يستدعي أغاني السمسمية لمشاهير الطرب الشعبي البورسعيدي مثل الريس زكريا وحسن العشري. التهجير وحلم العودة الصحفي مصطفى خضير فيتذكر تهجير أسرته من بورسعيد في الستينات صوب قرية ميت يعيش بالغربية ، ويتذكر كيف كان القهر باديا على وجوه الجميع وهم يحملون أشياءهم البسيطة "طشت" أو "حصيرة" أو "بؤجة هدوم" . ويستطرد الصحفي في وصف المدينة الساحرة التي كان دائم التوق إليها، فهي التي كان يقف وسط شوارعها النظيفة التي يرتادها السياح ويتجولون بالحناطير وتمتليء بالبضائع الشرقية والغربية، تقف وتنظر لشاطيء البحر وتعلم أنك بالقرب من أوروبا ومن العالم بأسره. لم يكن بإمكان خضير زيارة بورسعيد إلا بالعطلات فقط وبمنحة من السماء جاءت لأبيه حين استطاع استخراج تصاريح من الحاكم العسكري لأسرته ضمن قلة قليلة استطاعت فعل ذلك . وبعد أن انفتح الباب للعودة في السبعينات ، ترك خضير فرحة العمل بالتليفزيون الرسمي ماسبيرو وقرر العمل بتليفزيون بورسعيد حتى لا يهجر محبوبته مرة أخرى. زين عبدالهادي، يرسم مشاهد لتلك المدينة التي شهدها في صغره خلال صحبته لأبيه بتوزيع جريدة الأهرام، وهو لا ينسى منظر المدينة عام 1968 حيث كان كل شييء مدمر والقمامة في كل مكان وقد بكا طويلا أمام السينما الأهلي .. كان كل شيء ميتا على البحر وخلف الاستاد واختفت الأغاني وأصوات من يسبحون ويلعبون وماتت الآلهة اليونانية التي تخيلها، وماتت معها أحلامه. أما أسامة كمال فيرسم أخيرا صورة بديعة لتلك المدينة التي ولد بعيدا عنها بمقدار بحيرة المنزلة، فهو من أصل بورسعيدي لكن هجرة أسرته جعلته يولد بالمطرية. وفي شهادته الأدبية نقتطف هذا المشهد الدال :"حدث أن أتى الشتاء ، وهلت طيورالنورس بأسرابها البيضاء، ونزلت من السماء مثلها مثل قطرات المطر المتلاحقة والمستمرة، وأنا هنا قابع في المعدية – وسيلة انتقال بحرية بين بورسعيد وبورفؤاد – أنتظر ان يجتمع المطر مع النورس في لحظة الغروب، ومثل صانع البهجة ألقي لقيمات الخبز في الماء، ويلتم على أثرها كل طيور النورس، فتأتي جماعات لا تأبه للمطر، وتعكس عيناها صمت لحظة الغروب الأبدية" احتفالية مصرية في احتفالية أقامتها مؤخرا حركة "مبدعون من أجل التغيير" بذكرى صمود بورسعيد، تذكرت الدكتورة عطيات أبوالعينين وهي من أبناء المدينة حين حملتها أمها لعربة الرئيس جمال عبدالناصر. واعتبر أحمد حسانين أن بورسعيد مدينة فنية بفطرتها، وحب المسرح متجذر فيها، ومنها خرج عبدالرحمن شكري ثالث ثلاثة العقاد والمازني والروائي السبعيني محمد فتحي والكاتبة سكينة فؤاد صاحبة "ليلة القبض على فاطمة" والصحفية سهام بيومي وروايتها "أيام القابوطي" وهناك صاحب "الغزالة" قاسم مسعد عليوة . أما الروائي عبده العباسي فأبدى تفاؤلا كبيرا بمشروعات شرق التفريعة وشرق قناة السويس والتي ينتظر أن تجذب الشباب وتستوعب العاطلين . ويتذكر أنه في خطاب لعبدالناصر أن همس عبدالناصر لعبدالحكيم عامر "الناس في بورسعيد بتضحك ولبسهم حلو " كما تحدث عن أمه "أمينة أحمد صبيح" تلك السيدة التي لم تنجب ولكنها ربت أجيالا وأجيالا التي زارت الكعبة سبع مرات ونجا بيتها من حريق 1956 في حين احترقت جميع منازل المدينة وتذكر الحاضرون فيلم "الله معنا" تأليف إحسان عبدالقدوس، وإخراج أحمد بدرخان؛ حيث يذهب الضابط عماد للمشاركة بحرب فلسطين بعد أن يودع خطيبته ابنة عمه التاجر الثري ، يصاب عماد ويتم بتر ذراعه ، يعود مع عدد من الجرحى والمشوهين وهذا يؤدي إلى حركة تذمر بين رجال الجيش والتي تنتهي بتحرير الوطن.