الجمسي فوجيء باتفاق كيسنجر والسادات على تخفيض القوات قصة 500 يوم من حرب الاستنزاف تبهر العالم قواتنا تدربت 340 مرة لاقتحام خط بارليف كيسنجر لوفد مصري : كونوا واقعيين واطلبوا ما يطلبه المهزومون "إنها الحرب التي أنهت كل الحروب ولم يبق أمام العرب إلا طلب المقابلة لتقديم فروض الطاعة. لا سيما أنهم يعرفون رقم التليفون، والعنوان 31 شارع كابلان – القدس". كان هذا قول ديان المشهور بعد حرب يونيو 67 فقد كان تقدير إسرائيل أنها الحرب الأخيرة، حتى جاء نصر أكتوبر ليقضي على أسطورة إسرائيل. هكذا يروي لواء طيار محمد زكي عكاشة في كتابه "حديث النسور: حرب الاستنزاف – أكتوبر 1973" الصادر مؤخراً عن دار العين للنشر صورة متكاملة لتلك المرحلة الدقيقة من تاريخنا، خاصة الموقف العسكري منها ما بين هزيمة 67 وعبور 73. يهدي اللواء طيار محمد زكي عكاشة كتابه إلى من أسماهم "المصريين حقاً الذين أدوا واجبهم ثم انصرفوا في صمت. وأولهم الشهداء.." جاءت المقدمة بقلم الكاتب الكبير جمال الغيطاني الذي وصف الكتاب بالشمول والدقة قائلاً أنه يحتوي على تفاصيل لم يقرأها في مرجع آخر. الكتاب يعرض ماذا حدث خلال أروع وأعظم ست سنوات في تاريخ مصر 67 – 73 ويعرض كيف استطاعت مصر أن تحقق خلال السنوات الست خلاف ما كان يجمع عليه العالم كله، وهو أنه لن تقوم لمصر قائمة إلا بعد 30 عام، فمن بقايا قوات مسلحة مهزومة في نظر العالم أجمع، تمكنت مصر بعد أيام فقط من أن تواجه العدو الإسرائيلي في رأس العش جنوب بور فؤاد، وكانت هذه المعركة أول شمعة تضئ الظلام الذي حل على مصر منذ الخامس من يونيو. كان لمعركة رأس العش أثر غريب، فقد كانت الكمائن التي تعمل في الضفة الغربية تهاجم العدو الإسرائيلي في الشرق وحولها قرى ريفية وفلاحون مصريون، كانوا يتابعون الكمائن المصرية وهي تدمر مدرعات ومجنزرات العدو الإسرائيلي بالهتاف والتصفيق. وما إن انتهت المعركة حتى خرج المئات من الأهالي على طول القناة يحملون أفراد الكمائن ويهتفون بهم ويتسابق الجميع في تقديم كل ما لديهم من مأكولات وحلوى احتفالاً وتقدريراً لضباط وجنود مصر. حرب الاستنزاف استمرت حرب الاستنزاف أكثر من 500 يوم أصبحت في التاريخ صفحات مضيئة، فقد بدأت بمعارك المدفعية ثم تطورت إلى عمليات لعبور قناة السويس ومهاجمة العدو الإسرائيلي في خط بارليف، ثم مهاجمته في أعماق بعيدة عند إيلات والعريش، ثم لما ألقت إسرائيل بقواتها الجوية في حرب الاستنزاف لكسر إرادة مصر، تصدت لها القوات الجوية المصرية، فأوقعت بها خسائر لا يستهان بها، ثم جاءت قوات الدفاع الجوي نهاية حرب الاستنزاف لتؤكد لإسرائيل أن قواتها الجوية التي تلقب بالذراع الطويلة يمكن أن تقطع هذه الذراع فوق السماء المصرية. فبعد قتال شرس مع العدو الإسرائيلي لأكثر من عام براً وبحراً وجواً، تم إجبار إسرائيل على أن تطلب من أمريكا الحليف التاريخي لها أن تقوم بمباردة لوقف إطلاق النارالتي عرفت باسم مبادرة روجرز في أغسطس 1970. الطريق إلى الحرب "نصيحتي للسادات أن يكون واقعياً فنحن نعيش في في عالم الواقع، ولا نستطيع أن نبني شيئاً على الأماني والتخيلات، والواقع أنكم مهزومون، فلا تطلبوا ما يطلبه المنتصر. فكيف يتسنى وأنتم في موقف المهزوم أن تملوا شروطكم على الطرف الآخر، إما أن تغيروا الواقع الذي تعيشونه فيتغير بالتبعية تناولنا للحل، وإما أنكم لا تستطيعون وفي هذه الحالة لابد من إيجاد حلول تتناسب مع موقفكم غير الحلول التي تعرضونها". هكذا كان بعض مما قاله هنري كيسنجر مستشار الأمن القومي الأمريكي للبعثة المصرية للمباحثات، وقد ذكر الرئيس السادات ما قاله كيسنجر في كتابه "البحث عن الذات". كان هناك كثير من المشاكل الضخمة والمعقدة أمام المخطط المصري التي يجب حلها كي تنجح عملية الهجوم، فان تعبر قناة السويس كمانع مائي وخلفه خط بارليف بخمسة فرق مشاة بالمواجهة كان أمراً يبدو شبه مستحيل. قامت القيادة العسكرية المصرية بأفرعها المختلفة بدراسة هذه المشكلات والعقبات ومحاولة حلها، فمن خبرة المهندس المصري في أثناء عمله بالسد العالي جاءته فكرة استخدام طلمبة مياه توضع فوق عائمة تحملها في مياه القناة. وفور إقرار الفكرة من القيادة العامة بعد التجارب العديدة، قامت وحدات القوات المسلحة بالتدريب على منطقة تماثل قناة السويس على الرياح البحيري قرب مدينة الخطاطبة، ولنا أن نتخيل كما يقول الكتاب حجم الجهد الذي تم لكي تتدرب 85 وحدة من المهندسين على أعمال فتح ممرات في الساتر الترابي "مرتان نهاراً – مرتان ليلاً" وفي كل مرة يتم إنشاء ساتر ترابي مماثل لخط بارليف ثم إزالته وفتح الممر، ثم يعاد إنشاؤه مرة أخرى وهكذا بإجمالي 340 مرة وفي كل مرة إنشاء وإزالة 1500 متر مكعب من التراب. نبضات من قلب أكتوبر كان لابد لمصر أن تحارب في عام 1973 وإلا فإن القضية ستنتهي وتموت كما أكد السادات عام 72، فقام قائد عمليات القوات المسلحة اللواء محمد الجمسي بتجهيز دراسة تحدد أنسب التوقيتات للهجوم خلال عام 73. كان على المخطط المصري أن يقوم بحشد كل القوات والمعدات المشتركة في الهجوم دون أن يكتشف العدو الإسرائيلي هذا. مصر تعزف سيمفونية الحرب عقب حرب يونيو 67 كان لاسحاق رابين قول مشهور "أحب أن يرقص المصريين على طبولي أنا" وكان قوله حق لكن ماذا عساه قال حين شاهد بعينيه إسرائيل وجيشها الذي لا يقهر، وهو يرقص على أنغام العزف المصري، لقد أطلقوا على يونيو 67 حرب الأيام الستة..لكن مصر ردت بحرب الساعات الستة. وشرح الكتاب تفاصيل الهجوم، لينتهي بنجاح العبور واسترداد مصر لكرامتها وأصبح لها في الضفة الشرقية جيش ميداني، وتدمر خط بارليف الأسطورة وهزم الجيش الذي لا يقهر. ووفق الكتاب كانت خسائرنا في اليوم الأول مذهلة، فبعد التقدير السوفيتي الذي يؤكد خسارة 30% من حجم القوات في العبور، أسفرت الأحداث عن فقد 10 طائرات 20 دبابة، 280 شهيد. السياسة خذلت العسكرية منذ صباح 7 أكتوبر وقواتنا المسلحة ما زالت ترسخ نجاحها بعد عملية العبور، قرر الرئيس السادات بدء الاتصال بأمريكا وعن طريق كيسنجر برسالة منه عن طريق السيد / حافظ إسماعيل مستشار الأمن القومي، يقول فيها: "إن وضعاً جديداً قد نشأ في المنطقة ومن ثم نوضح موقفنا: هدف مصر ثابت في التوصل إلى سلام وليس إلى تسوية جزئية، لاتعتزم مصر تعميق الاشتباكات أو توسيع الجبهات. موقف مصر يتلخص في أنه على إسرائيل أن تنسحب من جميع الأراضي المحتلة عندئذ سنكون على استعداد للاشتراك في مؤتمر سلام في الأممالمتحدة تحت الإشراف المناسب". وهي الرسالة التي خذلت العسكرية المصرية كما يقول الكتاب، كانت القرارات الحاسمة تصدر من الرئيس السادات شخصياً دون مشورة أحد سواء سياسيين أو عسكريين، رغم خطورة هذه القرارات وتأثيرها الخطير في سير الحرب، ثم كان قرار الوقفة التعبوية كي يثبت لكسينجر صدقه بعدم تعميق الاشتباكات. والمثير للدهشة والتساؤل – وفقاً للكتاب – أن الرئيس السادات يأمر بالوقفة التعبوية بحجة أن قواتنا قد حققت المهمة المباشرة، وفي نفس الوقت ينفعل على السفير اللسوفيتي ويرفض الاقتراح السوفيتي بوقف إطلاق النار يومي 8 و 9 أكتوبر فإذا كانت قواتنا المسلحة قد حققت المخطط لها، وهو يعد كيسنجر بأنه لن يعمق الاشتباكات، ويأمر بوقفة تعبوية. فلماذا كان رفض وقف إطلاق النار؟ ثم يتدخل في المعركة ويتخذ وبدون مشورة أحد من القادة العسكريين كما كان يفعل من قبل قراراً بتطوير الهجوم إلى خط المضايق في خلال 24 ساعة فقط بحجة إنقاذ سوريا. وهو قرار تسبب في كثير من التداعيات والسلبيات على قواتنا المقاتلة، قيل للقادة العسكريين حين طلبوا تأجيله جملة شهيرة هي : "هذا قرار سياسي". والعجيب بشدة أن المجموعة التي شكلها الرئيس السادات لتقييم الموقف نصحته بإطلاق المدرعات نحو الشرق منذ 7 أكتوبر، ورفض الوقفة التعبوية، ورفض التطوير والتحذير من فشله المحتمل بصورة كبيرة والتداعيات التي ستنتج عن هذا الفشل. لكن لم يؤخذ برأي هذه المجموعة في أي مما قدمته وبالخداع السياسي الذي مارسه كيسنجر بالاتفاق مع إسرائيل وبالتمويه على الرئيس السادات استطاعت إسرائيل حصار الجيش الثالث بعد قرار وقف إطلاق النار الأول والثاني، وهزمت القوات الإسرائيلية هزية منكرة امام شباب المقاومة في السويس فلم تستطع دخولها واكتفت بحصارها من الخارج. الحرب بالسلاح وليس السياسة في أول نوفمبر وصل دعم عسكري من الخارج لمصر، لكن العامل الأكبر في عودة الهدوء إلى القيادة العامة كان هو تفرغ الرئيس السادات إلى العمل السياسي مع كيسنجر ومفاوضات الكيلو 101 وبُعده عن التدخل في عمل القيادة العسكرية. وتم اقتراح تدمير العدو غرب القناة، ووضع الخطة "شامل" لتصفية الثغرة كمرحلة أولى، وتحدد أول فبراير 74 لتنفيذ الخطة، وتحرك كيسنجر بإيعاز من إسرائيل واجتمع مع الرئيس السادات وأخبره أن أمريكا على علم تام بالحشود المصرية وبنية مصر مهاجمة الثغرة، وأنه لن يسمح للسلاح السوفيتي أن يهزم السلاح الأمريكي مرة أخرى، وانتهت رحلات كيسنجر المكوكية بين أسوانوالقدس في 25 يناير 74 بإعلان اتفاقية فض الاشتباك. أصبح الوضع بعد الاتفاقية هو: القوات الإسرائيلية انسحبت من غرب القناة وتتمركز 30 كم شرق القناة، القوات المصرية تقف على الخط الذي وصلت إليه في اكتوبر 73 "15 كم" بقوات قدرها 7آلاف مقاتل و 30 دبابة. تعمل قوات الطوارئ الدولية في منطقة عازلة بين القوات المصرية والإسرائيلية، يسمح للقوات الجوية للطرفين بالعمل حتى الخط الأمامي لكل منهما. ويعلق اللواء صاحب الكتاب قائلاً أن مصر هزمت في هذه الاتفاقية هزيمة سياسية نكراء رغم انتصارها العسكري الكبير، ويضيف عكاشة: يوجد بند يقول بوجود 30 دبابة فقط و7 آلاف جندي، فهل من المقبول بعد أن كان لي أكثر من 500 دبابة وأكثر من 70 ألف جندي في شرق القناة ان تنحسر الأعداد بهذا القدر؟ ولماذا نقبل بهذا وفي أي مقابل؟ ان تنسحب إسرائيل من الضفة الغربية للقناة؟ لقد كنا قادرين على تدميرها وإجبارها على الإنسحاب. هل من المقبول أوالمنطق أن يتم عقد جلسة مباحثات في أسوان في يناير 74 بين كيسنجر والوفد المصري فيفاجأ الفريق محمد الجمسي "رئيس أركان حرب القوات المسلحة المصرية" باعداد الجنود والدبابات في الاتفاقية، وحين يعترض يكون رد كيسنجر أن هذه الأعداد تم الاتفاق عليها بينه وبين الرئيس السادات! فما كان من الفريق الجمسي إلا أن غادر الجلسة حتى لا يرى الحاضرين دموعه. انتقادات حادة للسادات يهاجم الكتاب الرئيس السادات، ويصفه بأنه فرط في أوراق هامة كانت بين يديه دون مقابل، فرط في قدرة القوات المسلحة المصرية وفي حصاره إسرائيل بقفل باب المندب، فرط في التحالف المصري السوري، في الموقف العربي الذي أدخل البترول كسلاح مؤثر بشدة في الحرب، فرط في موقف الاتحاد السوفيتي من الأزمة حين أعلن على الملأ "لقد اتفقنا على علاقة استراتيجية جديدة مع الولاياتالمتحدةالأمريكية تكفل تنسيقاً مصرياً أمريكياً في الشرق الأوسط وأفريقيا" وأوراق اخرى كثيرة. ويعلق صاحب الكتاب: ماذا نقول..سامح الله الرئيس السادات، لقد كان عظيماً في قراره بالحرب لكنه أضاع كثير من ثمار الانتصار لاعتقاده أنه الوحيد الذي يفكر ويخطط ويرى مستقبلاً لا يراه غيره. كان أبرز الأخطاء في الحرب هو تدخل القيادة العامة في إدارة المعركة، وإصدار قرارات شابها العصبية والاندفاع، واختفى التنسيق بين الجانبين المصري والسوري بعد يوم 6 أكتوبر. لكن يبقى كما يشير الكتاب أن أعظم ما قيل عن نصر أكتوبر هو قول الجنرال دافيد اليعازر رئيس أركان الجيش الإسرائيلي الذي قال بعد الحرب "لقد كانت المفاجأة الكبرى لنا هي الجندي المصري" وفي قول العدو ما يكفي.