كم يحزن المرء حين يكتشف أن هذا الحاكم الذي يدعي أنه حامي حمى العروبة، قد خدع أمته حين أطلق كذبته المشينة، بأنه ونظامه سيقفان بكل قوة وحزم بجانب صدام حسين ضد الغزو الأمريكي للعراق الذي جرى عام 2003. وهذا ما حدث للغالبية العظمى من المراقبين الذين كانوا يتابعون أحداث هذا الغزو، حيث تردد أن وزير الدفاع الأمريكي الأسبق "دونالد رامسفيلد" وعدداً من قادة البنتاجون، أدلوا- عقب سقوط بغداد- بتصريحات أوحت للعالم العربي بخاصة والمجتمع الدولي بعامة، أن النظام السوري يقوم بالفعل بتقديم العون اللوجستي وأحيانا العسكري لصدام حسين، ما يوجب على أمريكا- في نظر رامسفيلد- أن تتخذ موقفا حازما ضد سوريا. بل ذهب رامسفيلد إلى حد التوصية بمتابعة الزحف نحو سوريا بعد سقوط بغداد وانهيار نظام صدام مباشرة، بهدف الاستيلاء على دمشق وإسقاط نظام بشار، مدعيا أن النظام السوري يمد الجيش العراقي بمعدات تساعده على قتل الجنود الأمريكيين، مثل تزويده بمناظير تتيح لهم الرؤية ليلاً. فبحسب ما نشره موقع نادي الفكر العربي نقلاً عن "وكالة أنباء سما"، أن مسئولاً عربياً كبيراً تحدث عما دار من حوار بين وزير الخارجية التركي "أوزلو" وبين بشار الأسد خلال الزيارة الأخيرة التي قام بها الوزير التركي لدمشق .. حول الوضع في سوريا بعامة، واستخدام الجيش السوري وعناصر الأمن للعنف المغلظ في قمع المظاهرات. فقد أظهر ذلك الحوار بوضوح نقطتين هما في غاية الخطورة: الأولى - أن ما كنا نعتقد به عن صدق بشار في تبني المقاومة ضد العدو الإسرائيلي، ظهر أنه مجرد وهم زرعته في عقولنا ووجداننا التصريحات التي كان يدلي بها هو ورؤساء ما يسمى بمحور المقاومة الذي يضم إيران وسوريا وحزب الله، بشأن التصدي لأطماع إسرائيل وأمريكا في الهيمنة على المنطقة. وقد بلغت الخدعة ذروتها حين صدر- عقب الاجتماع الذي جمع بشار ونجاد ونصرالله في العام الماضي في دمشق- بيان يحذر إسرائيل بأنها ستتعرض لضربات قاصمة، إذا ما فكرت في الأعتداء على أي من أطراف هذا المحور. والثاني - خداع بشار للشعوب العربية حين صرح بأنه يقف يجانب العراق ونظام صدام ضد الغزو الأمريكي. والواقع أن ما جعل الكثيرين يصدقون تصريحات بشار حول التزامه بمبدا المقاومة، انتماءه لمحور المقاومة الذي ذكرنا. فحزب الله الذي يعد رأس الحربة لهذا المحور والذي تدعمه إيران بالسلاح وتزود بالمال كان دائما صادقا فيما يعد. فهو لم يتردد في ضرب إسرائيل بعدد غير مسبوق من الصواريخ، حين شنت إسرائيل عدوانها الآثم على لبنان عام 2006، ما أجبر أكثر من مليون إسرائيلي على الهجرة إلى الداخل طلبا للأمان. كما أجبرعدداً آخر من سكان البلدات والمستعمرات الإسرائيلية في الشمال، على البقاء في الملاجئ طيلة أيام تلك الحرب التي استمرت ثلاثة وثلاثين يوما متواصلة.
فضلاً عن إلحاق هزيمة مؤلمة بجنود إسرائيل الذين حاولوا الدخول في حرب برية مع أجناد الحزب، بهدف تدمير قواعده في الجنوب اللبناني. وكان لهذا الموقف أثره الكبير في تعميق إيمان الأمة والمراقبين بصدق ما يصرح به أعضاء محور المقاومة- ومنهم بشار- بشأن التصدي لأطماع إسرائيل وأمريكا في المنطقة. وبلغت الخدعة مبلغاً دفعني وبعص المراقبين للدفاع (في بادئ الأمر) عن سياسة العنف التي اتبعها في قمع المظاهرات عند بدايتها، اعتقادا منا بأن أعداء سوريا هم الذين يقفون وراء تلك المظاهرات من ناحية، وأن العنف الذي استخدمه النظام في محاولة قمعها لم يتجاوز حد إطلاق الرصاص في الهواء بقصد الترهيب، وليس القتل والاعتقال والتعذيب المروع حتى الموت الذي شاهدناه على شاشات الفضائيات ومواقع الإنترنت من ناحية أخرى. وكان من نتيجة ذلك أن اتهمني عدد من القراء بالعمالة للنظام السوري، وهم في ذلك لا يلامون.
والحقيقة أن دفاع العديد من المراقبين عن بشار- في ذلك الوقت- كان يستند لأمرين: أولهما- أن سوريا كانت من أظهر أقطاب المقاومة الذين يتصدون (إعلامياً) للأطماع الإسرائيلية والأمريكية في السيطرة على المنطقة العربية، وحل القضية الفلسطينية والقضايا العربية الأخرى وفق الأجندة الإسرائيلية. وثانيهما- أن النظام السوري أعلن- في حينه- بوضوح وقوفه بجانب نظام صدام ضد الغزو الأمريكي للعراق عام 2003، ما جعلني والكثيرين نعتقد بأن المبادئ القومية للأمة العربية هي التي تحكم توجهات النظام السوري، بخلاف ما كنا نراه في النظام الرسمي العربي آنذاك وما زلنا. غير أن دفاعي (شخصياً)، لم يصمد لأكثر من أربع أو خمس مقالات برغم اعتقادي الجازم بأني كنت ملتزماً بالموضوعية (وهو اعتقاد ثبت خطؤه) لسببين:
الأول- العنف المفرط الذي جابه به بشار المظاهرات في بداية تظاهرهم في مدينة درعا وتوابعها (والذي لم أكن أصدق ما يقال عنه آنذاك). فمطالب المتظاهرين- في بداية التظاهرات- لم تتجاوز سقف المطالبة بتنفيذ الإصلاحات التي وعد بها بشار (نفسه) حين اعتلى سدة الحكم عام 2000. كما بلغ هذا العنف حد قتل الأطفال والتمثيل المروع بجثثهم وقطع أطرافهم، مثلما حدث للطفل "الخطيب" الذي اعتقله رجال الأمن السوري وعذبوه حتى الموت، ومثلوا بجثته بشكل فاق كل تصور. وهذا ما رسَّخ قناعة مطلقة لدى كل من عرف بهذه الجرائم، بأنه أمام نظام استبدادي ظالم قرر الكشف عن وجهه القبيح. والثاني- أن بشار الأسد قد كذب بشأن إعلانه الوقوف بجانب العراق ضد الغزو الأمريكي، حين صرح للوزيرالتركي (بحسب تصريح المسئول العربي)، "بأن أميركا تعرف كيف ساعدناها على إسقاط نظام صدام حسين .. لأننا كنا نريد ذلك، وتعرف إدارات أميركية أن سبب ورطتها في العراق الآن هو سوريا، وأننا نمزح معها فقط في العراق. ولو أردنا قتل الآلاف من جنودها لفعلنا بلا تردد". وأردف بشار قائلا (بحسب ما قاله المسئول العربي) : "لكن السياسة السورية منذ القدم، لا ترمي أوراقها دفعة واحدة على طاولة اللعب .. فدمشق تلعب بمزاج عالي". هكذا ببساطة، ظهر وجه بشار الحقيقي. فبهذا التصريح يكون قد كذب على كل من كان يؤيده وخسر بذلك الكثير منهم، ليس على صعيد الكتاب "الهُبل من أمثالي" وإنما على صعيد أبناء الشعوب العربية. لكن "الهَبَل" الذي عشت أسيرا له لسنوات بسبب تأييدي لسياسة هذا الرجل المستبد، كان له- آنذاك- ما يبرره من وجهة نظري على الأقل. ذلك أني كنت مستعدا لدعم وتأييد كل من يعادي إسرائيل وحلفائها الأمريكيين، وينادي بتحرير أرض فلسطين وإعادة الحقوق المشروعة لشعبها المكلوم. وهذا ما ضمَّنته في العديد من كتاباتي التي كانت تدعم النظام السوري والنظام الإيراني وحزب الله بلا حدود. غير أن موقفي من هذا الرجل وليس من حلفائه لم يكن ليستمر طويلاً، بعد أن تابعت والشعوب العربية جميعها تصاعد عنف هذا النظام وارتكابه لأبشع الجرائم في تعامله مع المتظاهرين المسالمين، وبعد أن شاهدنا جميعاً في الفضائيات ومواقع الإنترنت كيف يُعمِلُ الجيش السوري وقوى الأمن والشبيحة القتل والإرهاب والاعتقال العشوائي والتعذيب الوحشي في المتظاهرين، فضلاً عن هدم البيوت على رؤوس أصحابها، وتجريف الأراضي والزراعات، وهدم المآذن وانتهاك حرمة المساجد، والاعتداء على المصلين والرموز الدينية التي أعلنت معارضتها لممارسات هذا النظام اللا إنسانية بحق الشعب السوري المسالم، الذي يطالب بحقوقه المشروعة ليس إلا. والواقع أن هذا الخداع لم يكن ليستمر حين يشهد المرء هذه الجرائم البشعة التي ترتكب بحق الشعب السوري من جهة، وحين يكتشف كذب تصريحات بشار التي أعلن فيها انحيازه لنظام صدام ضد الغزو الأمريكي من جهة أخرى كما ذكرنا. زد على ذلك أن هذا الحاكم الظالم قال لضيفه التركي- دون خجل أو وجل- أنه على استعداد لأن يشعل المنطقة بأسرها، ويسقط جميع أنظمتها، "ويمسح إسرائيل من الوجود" (يا ليته يفعل)، بحسب ما جاء في تصريح المسئول العربي لوكالة أنباء سما. وزاد على ذلك بقوله: "إذا حصل أي جنون تجاه دمشق، فأنا لا أحتاج أكثر من ست ساعات لنقل مئات الصواريخ إلى هضاب الجولان، لإطلاقها على تل أبيب وسحقها عن بكرة أبيها، وفي الوقت نفسه سنطلب من حزب الله اللبناني فتح قوة نيرانه على إسرائيل، وهي نيران لا تتوقعها كل أجهزة الاستخبارات، كل هذا في الثلاث ساعات الأولى من الست ساعات، وفي الساعات الثلاث الأخرى ستتولى إيران ضرب بوارج أمريكية ضخمة راسية في مياه الخليج .. فيما سيتحرك الشيعة الخليجيون لضرب أهداف غربية كبرى، وقتل أمريكيين وأوروبيين حول العالم، إذ سيتحول الشيعة في العالم العربي إلى مجموعة فدائيين انتحاريين صوب كل هدف يرونه سانحا، وسيخطفون طائرات شرق أوسطية". الواقع أن المرء يكاد- في بادئ الأمر- يحار بشأن هذا النموذج من الحكام العرب، الذين باتوا وأصبحوا وأضحوا !! يعتقدون أنهم يملكون ناصية الأمور في بلدانهم (والأمر لن يدوم على هذه الشاكلة)، ويعتقدون أيضاً أنهم قادرون على التحكم في مصير منطقة حساسة كمنطقة الشرق الأوسط. فما نطق به بشار بشأن هذه المنطقة، يُعد- في نظر القوى العالمية- خطاً أحمر ليس مسموحاً تجاوزه (وبخاصة في ظل الظروف الدولية السائدة)، وذلك لأسباب لا مجال لتناولها في هذا المقام. كما يظهر إلى أي مدى يتصف هذا الحاكم وأمثاله بالجهل المطبق في التعامل مع المجتمع الدولي، إضافة لعدم توافر الدراية الكافية لديهم في إدارة البلاد والعباد. ويكفي أن نُذكِّر بشار (وهو يجول ويصول في تصريحاته العنترية)، بأنه لم يراع حجم ما يسببه من إحراج لحلفائه في محور المقاومة. فحتى لو كان ما قاله "هو المتفق عليه" مع أعضاء هذا المحور، فليس من الحكمة أن يكشف عنه لمجرد إقناع الوزير التركي أو العالم، بأنه قادر على المواجهة والتصدي لكل من يحاول التدخل لحماية المدنيين من الجرائم التي يرتكبها جيشه وقواه الأمنية. فالقوى العالمية تعرف كل ما تريد عن الوضع في سوريا، وتعرف كيف تتعامل مع بشار ونظامه ومتى تُعين في إسقاطه إن هي قررت. وبرغم أنه يدرك هذه الحقيقة، غير أن الكبر الذي رضعه منذ نعومة أظفاره، أبى إلا أن يدفعه للإدلاء بتلك التهديدات التي لا تزيد عن كونها "فرقعات" صوتية لا تخيف إلا الجاهلين بحقيقته. فعلاقته بإسرائيل التي جعل منها المبرر لما يرتكبه من جرائم ضد شعبة بدعوى "لا صوت يعلو على صوت المعركة"، فضحها بن خالة مخلوف "سارق الاقتصاد السوري" حين قال: إن نجاح الثورة في سوريا ينطوي على تهديد حقيقي للكيان العبري!!. لكن وكما هو الواقع، أن بشار ومن على شاكلته لم يكن ليصبح رئيساً لدولة مثل سوريا تحت مظلة شرعية دستورية حقيقية، أو بتميزه بكاريزما إيجابية تمنحه (استثناء) شرعية التفرد بحكم سوريا .. وتعطي للوطن ولا تأخذ منه إلا ما تستحقه. فإذا ما كان مآل الدول العربية كالذي تعيشه سوريا واليمن الآن من ظلم وإذلال للناس، والتعدي على كرامتهم، ونهب أموالهم، وتدمير بيوتهم، وقتلهم وتعذيبهم .. فسبب ذلك غياب الشعوب عن ممارسة حقها المشروع في محاسبة الحاكم إن كان طيِّعاً، والتخلص منه بأي ثمن إذا كان جباراً عتياً. والواقع أن قراءة متأنية لمثل هذه التصريحات التي صدرت عن حاكم، ثبت بالأدلة والشواهد القاطعة أنه لا يتورع عن استخدام أقصى درجات العنف في قمع معارضيه، كما ثبت أنه يمارس الكذب المشين بشأن أخطر القضايا التي واجهتها الأمة العربية في تاريخها المعاصر وهي الغزو الأمريكي للعراق .. نقول: إن هذه القراءة تتطلب التنبه لأمرين هامين : فإما أن هذا الرجل سيعمل بالفعل على تنفيذ تهديداته، معتقداً أنه قادر على تنفيذها انطلاقاً من شعوره بالكِبر والغطرسة والتعالي .. دون أن يكون مدركاً لنتائج ما يفعل ،،،
،،، وإما أنه يمارس هذه التهديدات بهدف الضغط على الدول الغربية كي تَحذَرَ التدخل العسكري في بلاده، متدثرا بدعوى أن محور المقاومة قادرٌ على إشعال المنطقة برمتها، وإلحاق آذى بليغا بإسرائيل من ناحية، وإسقاط الأنظمة العربية التي يحرص الغرب على بقائها من ناحية أخرى.
ولو خرج من خليط "سمك لبن تمر هندي" خلطة يتيمة" تؤدي إلى زوال إسرائيل .. فليس من شك أن هذا الأمر سيكون مبهجاً لكافة الشعوب العربية والإسلامية، وسيؤدي لانقلاب كبير في مواقف الشعب السوري والشعوب العربية والإسلامية من بشار ومحور المقاومة (إيجابياً بالطبع). وهذا ما سنحاول تناوله في مقال منفرد إن شاء الله.