مثل نجاح ثورة يناير فرصة مواتية لاستعادة "مصر" دورها الإقليمي والدولي، بما ينطوي على دلالات سياسية بالغة الأهمية، من أبرزها عودة "مصر" إلى تبوء دورها الأفريقي بعد حالة من الفتور الدبلوماسي، ويرتكز الدور المصري الجديد على التعاون والمشاركة مع دول القارة للنهوض ببلادها، في إطار تحقيق المصالح المشتركة لشعوبها. وإذا أردنا معرفة ميكانيزمية أجندة "مصر" الخارجية خاصة في الجذور الأفريقية، يمكن النظر إلى هذا الدور على أساس مبدأ التكلفة والعائد في توجهات السياسة الخارجية المصرية تجاه القارة الأفريقية وقضاياها، إذ نُظر إلى الدور المصري الخارجي وفاعليته إقليمياً باعتباره مكلفاً اقتصادياً، بعدما أغفل النظام السابق حقيقة أن المصالح المصرية تتحقق في ضوء النفوذ المصري، وليس من خلال الانطواء المصري. وتثور أهمية فتح هذا الملف مع زيارة الرئيس المصري إلى العاصمة الإثيوبية "أديس أبابا"، للمشاركة في عدد من الفعاليات الأفريقية في ثاني زيارة له ل"إثيوبيا"، خلال عام بمناسبة الاحتفال بالذكرى الخمسين على إنشاء منظمة الوحدة الأفريقية، والتي تحولت إلى الاتحاد الأفريقي حالياً، وهل تعكس هذه الزيارة حقيقة التوجه المصري في مجال السياسية الخارجية تجاه القارة الأفريقية باعتبارها امتداداً جيوستراتيجي للأجندة المصرية. قنوات اتصال وجاءت القمة الأفريقية الواحدة والعشرين لتناقش عدداً من التقارير المتعلقة بالسلم والأمن والتنمية في أفريقيا، وكذلك سبل مكافحة مرض الإيدز والملاريا، بالإضافة لدعم آليات الاتحاد الأفريقي لمنع وإدارة وحل النزاعات في القارة الأفريقية. وفي سياق آخر تبادرت دعوات بعض الدول قبيل القمة، لإدراج موضوع الانسحاب من المحكمة الجنائية الدولية في أجندة مجلس الوزراء للاتحاد الأفريقي، لاتخاذ موقف أفريقي موحد. وقد بدأت قنوات الاتصال بين "مصر" والأعماق الأفريقية عبر جذور تاريخية ممتدة منذ زمن الفراعنة، وتكللت جهود هذا الاتصال بدور "مصر" الفعال في حصول العديد من الأمصار الأفريقية على استقلالها من الاستعمار في عهد الرئيس الراحل "جمال عبد الناصر"، ثم جاء تأسيس منظمة الوحدة الأفريقية تتويجاً لجهود أفريقية عديدة شاركت فيها "مصر" بقوة منذ عام 1958، وتم وضع الأسس لإقامة المنظمة عام 1963، و"مصر" هي الدولة الأفريقية الوحيدة التي تولت رئاسة المنظمة ثلاث مرات في أعوام (1964 - 1989 – 1993)، كما عقدت ثلاث قمم أفريقية في القاهرة في أعوام (1964- 1993- 2007). وقامت "مصر" من خلال عضويتها في المنظمة بدور هام في العمل على تسوية المنازعات الأفريقية في عدد من الدول، وساعدت على مواجهة الحركات الانفصالية في أكثر من دولة أفريقية، وكان لاختيار "القاهرة" مكاناً لأول قمة للمنظمة عام 1964 دلالة واضحة على الدور المصري في إنشائها، وظلت "مصر" على اهتمامها ب"أفريقيا" رغم ظروفها بتحرير أرضها بعد هزيمة 1967 وإعادة البناء، حيث استضافت في تلك الفترة أول مؤتمر قمة عربي أفريقي عام 1977. وعلى جانب آخر من التعاون المصري المقدم إلى الشركاء الأفارقة، تواصلت المساعدات المصرية لهذه الدول من خلال الصندوق المصري للتعاون الفني مع أفريقيا الذي تأسس عام 1981، حيث قام الصندوق بتدريب نحو (8) آلاف متدرب أفريقي في جميع المجالات، كما أوفدت "مصر" الخبراء إلى مختلف الدول من أساتذة الجامعات والأطباء والمهندسين والخبراء. ويرى المحللون السياسيون أن "مصر" لعبت دوراً مهماً في حفظ السلم والأمن الأفريقيين من خلال عدة وسائل، أهمها المشاركة في تسوية العديد من النزاعات بالقارة التي كانت تشكل مصدراً لتهديد السلم والأمن، فضلاً عن دورها في مباحثات السلام الأفريقية الخاصة بإقليم "ناميبيا"، حتى حصوله على الاستقلال ومشاركتها في قوات حفظ السلام الدولية المشرفة على الانتخابات، كما كانت في مقدمة الدول التي أقامت علاقات دبلوماسية مع "ناميبيا" بعد الاستقلال. تراجع وتقارب وعلى الرغم من هذه الأدوار التي قامت بها "مصر" خلال السنوات الماضية خصوصاً في فترة الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، إلا أن حضورها لم يكن كافياً لاستعادة هذا الدور، فقد خف دورها وتراجع إلى حد ما، خاصة تجاه مؤتمرات القمم الأفريقية منذ محاولة الاغتيال الفاشلة التي تعرض لها الرئيس السابق "حسني مبارك" خلال زيارته ل"إثيوبيا"، للمشاركة في القمة الأفريقية عام 1995، وبعدها توقفت القيادة السياسية عن حضور القمم الأفريقية. وأتاح هذا التراجع الفرصة أمام بعض القوى في المنطقة للتواجد والتقارب مع دول القارة الأفريقية لتحقق أهدافها ومصالحها، وكان من شأن ذلك تهديد الأمن القومي المصري مثل "إيران" و"إسرائيل"، حيث تتنافس الدولتان بكل السبل لإقامة علاقات مع دول القارة، وخاصة دول المنبع لحوض النيل، وعلى الرغم من أن بعض الخبراء لا يرون أن التواجد الإسرائيلي الإيراني يأتي خصماً من الدور المصري وفعاليته، إلا أنه لا يمكن إنكار أن الدول الأفريقية ستفضل التعاون مع الدول التي تقدم لها الخدمات، وتحرص على إغاثتها في أوقات الأزمات والكوارث. وتمثلت أبعاد الأمن القومي المصري في الجذور الأفريقية عبر ملفي الأمن المائي والغذائي، باعتبارهما أهم القضايا التي تشغل بال الكثير من المهتمين بالأمن القومي لدول حوض النيل، حيث تمتلك دول الحوض الكثير من المقومات التي تحقق هذا الهدف، ولكن ينقصها التكامل من خلال المشروعات المشتركة التي تحقق التنمية المستدامة. ولذلك، تلعب قضيتا الأمن المائي والغذائي لدول حوض نهر النيل دوراً كبيراً في وضع تصور لتكامل اقتصادي بين دول الحوض، لاسيما وأن هذه الدول شهدت الكثير من الأزمات مثل المجاعات والنزاعات المسلحة سواء الداخلية أو الدولية في إطار الصراع بين الدول الأفريقية والعربية على تقسيم مياه النيل، بالإضافة إلى أن هذا التكامل يمكن أن يعالج المشكلات البيئية والتنموية. مستقبل العلاقات وعند الحديث عن مستقبل العلاقات المصرية الأفريقية، يمكن القول أن هذه العلاقات لا بد أن يحكمها مبدأ المصالح المشتركة للطرفين، ف"مصر" بحاجة إلى عودة دورها الفعال على مستوى القارة الأفريقية وفقاً لاعتبارات الأمن القومي، بالإضافة إلى مصالحها الاقتصادية التي ترتبط بتوفير فرص عمل واستثمارات في دول القارة السمراء، أما الدول الأفريقية فهي تتطلع لدور فعال ل"مصر" في القارة أكثر نشاطا بالاتحاد الأفريقي، وعدم السماح لدول بعينها بالسيطرة على أنشطة الاتحاد، إلى جانب تفعيل دورها في التكتلات الإقليمية القائمة سواء على المستوى الدبلوماسي والاقتصادي مثل الكوميسا والساحل والصحراء. وتتطلع الشعوب الأفريقية لدور مصري فعال أيضاً في مجال الدفاع عن مصالح هذه الشعوب، والاهتمام بالأبعاد التنموية أكثر من العسكرية، ومواجهة الاستثمارات الأجنبية في دول القارة المختلفة، التي تمثل شركاتها العابرة للقارات استعماراً جديداً لأراضي القارة. ولعل أهم ما يميز القرن العشرين في مجال العلاقات الدولية هو ظهور وتطور التحالفات والتكتلات الدولية على المستويين السياسي والاقتصادي، في ظل إدراك الدول توقف تحقيق مكاسبها ومصالحها المشتركة على هذه التحالفات، مع اتساع خريطة التوازن العالمي وتعقد علاقاتها المتشابكة في عصر تسوده العولمة. وبعد العرض السابق يظل في النهاية التأكيد على أهمية ملف الأمن القومي المصري بجانبيه المائي والغذائي، وما يمكن أن يلعبه من دور هام في تحقيق وتعزيز التكامل بين دول حوض النيل والقارة الأفريقية بشكل عام.