لا أحد ينكر أن الإعلام في مصر يشهد حالياً حالة غير مسبوقة من الحرية، فوسائل الإعلام سواء كانت المسموعة أو المرئية أو المكتوبة، تتمتع بمساحة كبيرة من حرية التعبير لم تشهدها من قبل. ولا أحد من المحايدين في "مصر" ينكر أيضاً الحالة السيئة والسلبية التي يعيشها الإعلام من تدنٍ أخلاقي، الأمر الذي جعل العلاقة بين الإعلام والأخلاق تظهر في صورة صراع عقيم. على الرغم من أن مفهوم الأخلاقيات الإعلامية يوجد في لوائح المؤسسات الإعلامية والصحفية، لكن تلك البنود النظرية لم تكن تأخذ حقها من التطبيق والتنفيذ إلا في حالات قليلة، تلتزم بها أعداد صغيرة من المؤسسات المرموقة، والإعلاميين المهنيين. وما أثار ذلك، التصريحات الأخيرة لبعض الصحفيين بعدم وجود مواثيق شرف في غالبية المؤسسات الإعلامية المصرية، وتأكيدهم على محاولة الكثير من المسئولين إظهار نوع من القيم أمام الجمهور، ولكنهم يمارسون خلف الشاشة سلوكيات غير مهنية في نقل المعلومة للمتلقي، فضلاً عن إبداء الدكتور معتز بالله عبد الفتاح إعلامي وأستاذ بالعلوم السياسية - عن غضبه مما يحدث من الإعلام، من خلط بين التجارة والإثارة والدين. وهو ما جعلنا نفتح هذا الملف لمعرفة ملابسات العلاقة بين الإعلام والأخلاق، وتوضيح الأسباب الرئيسة خلف تدني مستوى الأخلاق في السلطة الرابعة؟ مفاهيم خالدة بداية يجب أن نشير إلى عدد من المفاهيم والتي يفترض أن تبقى خالدة في أذهان الإعلاميين والمواطنين بصفة عامة، وتأتي الأخلاق على رأس هذه المفاهيم، حيث تعرف بأنها شكل من أشكال الوعي الإنساني الذي يقوم بضبط وتنظيم السلوك في كل مجالات الحياة الاجتماعية، من دون استثناء، ويتفرع من هذا المفهوم مفهوم آخر وهو أخلاقيات المهنة، سواء كان الإعلام، أو أي مهنة أخرى، وهو الوثيقة التي تحدد المعايير الأخلاقية والسلوكية المهنية المطلوب أن يتبعها أفراد جماعة مهنية معينة، ولكل مهنة أخلاقيات وآداب عامة حددتها القوانين واللوائح الخاصة بها، وهي عبارة عن مجموعة من القواعد والأصول المتعارف عليها عند أصحاب المهنة الواحدة، بحيث تكون مراعاتها محافظة على المهنة وشرفها. فتضمن مثلاً أخلاقيات العمل الإعلامي الصدق، واحترام الكرامة الإنسانية، والموضوعية، والمسئولية، والعدالة. سقطات إعلامية ولعل المعنيين بوسائل الإعلام وحتى الجمهور، تابع في الأشهر الأخيرة تراجع تلك المفاهيم في الآونة الأخيرة، فلاحظنا عدداً كبيراً من "السقطات" التي وقعت بها وسائل إعلامية، و"الهزات" الأخلاقية السلبية التي تعرضت لها تلك الوسائل، والملاحقات القضائية التي نتجت عن ذلك. وخير دليل على ذلك حالة اللغط الكبير الذي أحدثه عدد من الإعلاميين أمثال توفيق عكاشة وإبراهيم عيسى وباسم يوسف والشيخ خالد عبد الله والشيخ "أبو إسلام" وغيرهم من الإعلاميين، فضلاً عن بعض القنوات الفضائية والصحف التي تتناول أموراً تبدو متناقضة مع أخلاقيات الإعلام والمجتمع بالمثل. أسباب وتفسيرات ويؤكد العديد من المراقبين للمشهد الإعلامي أن هناك عدة أسباب تقف وراء عدم الالتزام بأخلاقيات المهنة، ومنها السياسة التي تنتهجها المؤسسة الإعلامية، والرؤى التي تنطلق منها، ومدى شعور الإعلامي بضرورة تلك الأخلاقيات من عدمها، فضلاً عن غياب حالة التنافس المحموم بين المؤسسات، فكل وسيلة إعلامية تسعى إلى السبق بغض النظر عن الوسائل والأساليب والأدوات المستخدمة، فالإعلامي يبحث عن الظهور على أقرانه، دون النظر في الكيفية التي حصل بها عليه. وعلى الرغم من وجود المواثيق الأخلاقية الصادرة على المستويات الإقليمية والدولية لتنظيم عمل وسائل الإعلام، إلا أنها لا تأخذ صفة الإلزام، وفيما يخص الصفة الإلزامية الإعلامية، تظهر مدرستان، إحداهما تتصور وضع معايير أخلاقية ملزمة لكافة المؤسسات، ومدرسة أخرى ترحب بوضع معايير أخلاقية اختيارية، ولكلٍّ وجهة نظره، فالأولى لا تسعى للانفلات الإعلامي، والثانية تتخوف من سيطرة الدولة واستخدام تلك المعايير للحد من الحرية الإعلامية. ونظراً لحالة السيولة التي يمر بها الإعلام في مصر بعد الثورة، يقترح البعض بأن نتبع المدرسة الأولى حتى ولو فترة زمنية محددة، من خلال هيئة مستقلة تبحث عن تقييم الأداء الإعلامي ووضع ضوابط لمنع تلك الحالات التي يشهدها إعلامنا الحالي. وخلاصة القول، أن حرية التعبير شرط أساسي للإعلام الناجح، وهي مكسب حضاري مهم، وجزء لا يتجزأ من الحريات الأساسية المنصوص عليها في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، لكن المسئولية والالتزام بالمعايير الأخلاقية شروط أساسية لممارسة هذه الحرية، وبخاصة في مجتمعنا المصري. فيحمل الكثيرون وسائل الإعلام المصرية مسئولية خاصة تجاه المواطن المصري، فيجب أن تلتزم بتقديم الحقيقة الخالصة الهادفة، وأن تعمل على إنماء شخصيته فكرياً وثقافياً واجتماعياً وسياسياً دون إسفاف وسخرية. كما أن لها دوراً في ترسيخ إيمان الفرد بالقيم الروحية والمبادئ الخلقية الأصلية، ورفض مبادئ التمييز العنصري، والعصبية الدينية، والتعصب بجميع أشكاله. وينبغي على الإعلاميين ضرورة التزام الصدق والأمانة في تأدية رسالتهم، والامتناع عن اتباع الأساليب التي تتعرض بطريقة مباشرة أو غير مباشرة للطعن في كرامة المواطنين، وعدم تحويل الإعلام إلى أداة للتحريض على استعمال العنف، وعدم التجريح بالنسبة لرؤساء الدول، والانحراف بالجدل عن الحقيقة والموضوعية، وكل ذلك يأتي حرصاً على قدسية الرسالة الإعلامية وشرفها.