- انحدر أول أسرته من نسل عمر بن الخطاب - أحب فكتب" حديث القمر" .. هجر فكتب "رسائل الأحزان" - بفلسفة "الشيخ على " أخرج لنا شكسبير العرب "سيأتى يوما إذا ُذُكر فيه الرافعى، قال الناس : هو الحكمة العالية مصوغة فى أجمل قالب من البيان" هكذا تحدث الزعيم الوطنى مصطفى كامل عن مصطفى صادق الرافعى ، وهكذا قد تحققت نبوءته. في ذكرى الرافعي نتوقف عند أشهر محطات حياته. ولد مصطفى صادق الرافعى بقرية بهتيم بالقليوبية ، فهو سورى الأصل مصرى المولد ، وعلى ضفاف النيل عاش أبوه وجده ، حيث كان والده رئيسا للمحاكم الشرعية فى طنطا التى كانت فيها إقامته إلى آخر حياته حيث اعتبرها وطنا ومقاما ، ورأس أسرة الرافعى هو الشيخ عبد القادر الرافعى أول وافد من هذه الأسرة إلى مصر ، ويرجع نسبه إلى عمر بن عبد الله بن عمر بن الخطاب ، فى نسب طويل من أهل الفضل والكرامة ، وقد قدم للإنسانية كنز لا يُبلى ، وسيبقى حيا بتراثه وآدابه ، ومن أشهر كتبه وحى القلم وتاريخ آداب العربية . وكثيرا ما كانت تثور الخصومات بين الرافعى وبين أدباء مصر ، فما يجدون مفرا ينالون به منه عند القراء ء إلا اتهامه فى مصريته ، وكان الرافعى يستمع إلى ما يقولون عنه منزعجا حينا وساخرا حينا آخر ، وقد قال فى ذلك "أفتُراهم يتهموننى فى مصريتى لأننى فى زعمهم غير مصرى ، وفى مصر مولدى وفى أرضها رُفات أبى وأمى وجدى أم كل عيبهم فى فى الوطنية انى صريح النسب ؟" فلسفة الألم "إذا كان الناس يُعجِزهم أن يُسمِعونى ، فليسمعوا منى" فى السنة التى نال فيها الرافعى الشهادة الإبتدائية ، أصابه مرض أثبته فى فراشه شهرا وهو التيفويد ، فما نجا منه إلا وقد ترك في أعصابه أثرا ، حيث أحس الرافعى بتعب فى أذنيه ومضى يلتمس العلاج فى كل مكان ، ولكن العلة كانت فى أعصابه فما أجدى العلاج شيئا ، وبدأ سمعه يقل تدريجيا حتى فقدت إحدى أذنيه السمع وتلتها الأخرى ، فما أتم الثلاثين إلا وهو أصم لا يسمع شيئا . وامتد هذا الداء إلى حبال صوته للدرجة التى جعلته كاد أن يفقد النطق، وقد أنقذه الله من هذا ولكن ظل فى صوته حبسة تجعل فى صوته رنينا أشبه بصراخ الطفل، وكانت بوادر هذه العلة هى التى جعلته ينقطع عن التعليم ؛ لينقطع لمدرسته التى أنشأها وأعدّ برامجها لنفسه فكان المعلم والتلميذ . كان الرافعى مشتاقا إلى السمع ليعرف ماذا فى دنيا الناس ، فمضى يلتمس المعرفة ويطلع على كل ما فى مكتبة والده لينهل منها العلم ، فكانت علته خير عليه ، مثلما قال ابن عطاء الله السكندرى "ربما منعك فأعطاك" ، حيث البعد عن صخب الحياة الى أهلّه ان يقرأ ثمانى ساعات يوميا دون انقطاع ، فكان إذا زاره زائر فى مكتبه يتحدث إليه قليلا ثم يقول له "تعال نقرأ". ففى المكتب وفى القهوة وفى القطار وفى الديوان لا تجد الرافعى إلا بصحبة كتاب ، وهذا ما جعله الرافعى الذى نتحدث عنه اليوم . الرافعى العاشق "إن المرأة للشاعر كحواء لأدم :هى وحدها تعطيه بحبها جديدا لم يكن فيه" لم تخلو حياة الرفعى من الحب , والحديث عن حبه طويل , فلم تكن له حبيبة واحدة ولكنهن حبيبات عدة وقصص مختلفة على مر زمن طويل بين العشرين والسابعة والخمسين , فلم يشرق صباح ولم يجن مساء إلا وكانت له قصة حب جديدة , وظل وهو يدب فى الستين كأنه شاب فى العشرين ومات وعلى مكتبة رسالة وداد من صديقة وكان فيها موعدا للقاء ، وكان يسمى كل جميلة شاعرة لأنها تمنحه الشعر . وكانت "عصفورة" هى أول فتاة أحبها وهى من كفر الزيات ، حيث التقاها ذات مرة على الجسر، وكان حينها فى أول العشرين ، فهفا إليها قلبه وتحرك لها خاطره ، ومن وحى حبه الأول كتب أكثر قصائد الغزل فى الجزء الأول من ديوانه و أشتهر بشاعر "الحسن " وترنم العشاق بشعره. وقع الرافعى وهو فى الثالثة والأربعين من عمره في الحب، وهي المرة التي تركت له جرحا يدمى ، ورغم أنها لم تكن المرأة الأولى فى حياته إلا أنها كانت الأخيرة وهى "مى زيادة" التى كان أول من يسعى إلى صالونها يوم الثلاثاء ، حيث كان يحبها حبا عنيفا ، وهى كانت تستقبله بحفاوة بالغة ، لكنها فى إحدى المجالس لم تكترث له كعادتها ، بل ظلت تحتفى بشخص آخر ، فرحل الرافعى ومنعه كبريائه من لقائها مجددا ، وكتب فى إحدى رسائله "لم أتطفل على أحد قبلك ، ولن أتطفل عليكِ مرتين " كما كتب "رسائل الأحزان"، وكتب لها أبياتا قال فيها : يعز علينا أن تكونى بموسم ولا نلتقى فيه سلاما ولا ردا فإذا كان هذا الغصن أنبت شوكة فما ذاك إلا أنه أنبت الوردا ومضت ثلاث عشرة عاما وهو لم يلتقيها وجها لوجه ، ولكنه لم ينساها ، فما أن يجلس إلى أحد من أصدقائه إلا ويُحدثه عنها قائلا "هل يعود ذلك الماضى؟ إنها حماقتى وكبريائى ، ليتنى لم أفعل". الرافعى من الشعر إلى النثر "إن فى الشعر العربى قيودا لا تتيح له أن ينظم بالشعر كل ما يريد أن يعبر به عن نفسه". اهتم الرافعى بالشعر من أول حياته ، وقرأ فى الأدب القديم ووعى من تراث شعراء العربية الكثير، وعندما بلغ عشرين عاما نشر شعره فى الصحف ومجلات السوريين التى تصدر فى مصر ، وكان أمامه مثلان من شعراء عصره يتعلق بهما أمله وهما البارودى وحافظ إبراهيم الذى تعرف إليه فى عام 1900 وأصبحا صديقين حميمين، وقد بلغ الرافعى بالجزء الأول من ديوانه مبلغه الذى أراده ، واستمر على دأبه حتى أصدر الجزء الثانى عام 1904 ثم الثالث ، وأعقبهم بديوانه الثانى "النظرات" ، فتألق نجمه كشاعرا ، ولى حفاوة بالغة من الأدباء ، والجدير بالذكر هو أن الجيد من شعره الذى لم يُنشر أكثر مما فى دواوينه . أخذ الرافعى بعد ذلك إلى ترويض قلمه على الإنشاء لأنه أطوع من الشعر ، لعله يبلغ فيه مبلغ الشعر ، فكتب بعض المقالات التى ذكر أنه سينشرها فى كتاب "ملكة الإنشاء" ولكن الظروف حالت دون ذلك ، وكان الرافعى ردئ الخط ، لا يكاد يقرأ خطه إلا بعد علاج ومعاناة ، فكان أستاذه فى المدرسة الابتدائية يقول له "يا مصطفى ، لا أحسب أحدا غيرى وغير الله يقرأ خطك " وقد ظل خطه رديئا إلى آخر أيام. صدام الرافعى وأدباء مصر فى عام 1922 ، كان طه حسين يعمل فى جريدة السياسة الاسبوعية ، ونشر الرافعى مقالين ينتقد فيهما أساليب تدريس الأدب فى الجامعة ، فى نفس الوقت الذى كان طه حسين فيه مرشح ليكون أستاذ الأدب فى الجامعة ، وقد نشر الرافعى كتابه "تاريخ آداب العربية" الذى انتقده طه حسين قائلا "لقد قرأته ولم افهمه" ثم قرر هذا المعنى عند قرائته لحديث القمر ورسائل الأحزان ، فرد عليه الرافعى قائلا " المتنبى بيسلم عليك وبيقولك : وكم من عائب قول صحيحا .. وآفته من الفهم السقيم " كما انتقد الرافعى طه معيبا عليه التكرار وضيق الفكرة . ولم تتوقف المعركة بين الطرفين على مجرد خصومة بين مذهبين فى الأدب وأسلوبين فى الكتابة بل امتدت لتشمل حرب يتقاذف فها كلاهما ألفاظ الكفر والإلحاد والغفلة والجمود . كما اصطدم الرافعى بالعقاد بسبب كتاب " إعجاز القرآن والبلاغة النبوية" الذى صدر عام 1912 ، وأمر الملك فؤاد بطبعه على نفقته الخاصة تقديرا لما ورد به ولصاحبه ، وقد صدرت طبعته الملكية عام 1928 ، واستقبله الأدباء والنقاد بحفاوة بالغة ، ونال به الرافعى مكانة سامية، حيث قال عنه سعد زغلول "إنه قبس من نور الذكر الحكيم" ولكن حينما سأل الرافعى العقاد عن رأيه فيه نقده بشدة وسفهه بل وقال له أنه زور الكلام الذى ينسب أن سعد زغلول قاله عن الكتاب فشن الرافعى الحرب عليه فى مقالاته على السفود . نظرة على بعض أعماله حينما ذهب الرافعى إلى لبنان 1912 ، تعرف خلالها على مى زيادة ، وكان بينها وبين قلبه حديث طويل فى الحب ، فلما عاد من رحلته خط كتاب "حديث القمر". انقطع الرافعى لكتابة "تاريخ آداب العرب" من منتصف سنة 1909 إلى آخر 1910، وفى عام 1911 أتم طبع كتابه على نفقته الخاصة ، حتى أصبح السبب فى تدريس الآداب العربية وتاريخها فى الجامعة المصرية ، وقد أعجب أحمد لطفى السيد بهذا الكتاب للدرجة التى جعلته يقضى أسبوعا يخطب عنه فى مجالس العاصمة، وفى السنة التالية أصدر الجزء الثانى منه وهو "إعجاز القرآن" . أخرج الرافعى كتب "المساكين" 1917 ، وكان لكتابته سببين أولهما الحرب العالمية الأولى التى حطت على مصر بالقحط والغلاء ؛ حيث كان الرافعى مرهف الحس رقيق القلب ، يرى المنظر الأليم فتنفعل به نفسه وينفطر قلبه ، وتقُص عليه نبأ الفاجعة ؛ فلا تلبث أن تلمع فى عينيه بريق الدموع ، والثانى هو الشيخ على الذى التقى به حينما ذهب ليزور أصهاره ، ووجده يعيش وحده ، بلا دار تؤويه ولا درهم يعيش به ، وقد عرف من فلسفة هذا الرجل فلسفة الحياة ، وقد قال عن هذا الكتاب أحمد زكى "لقد جعلت لنا شكسبير كما للإنجيز شكسبير". المحطة الأخيرة قبل وفاة الرافعى بيوم واحد ذهب لعيادة ابنه والتقى بصهره وأخذ يتندر ويمزح ويضحك أكثر مما عرف عنه، وصحب أخاه إلى مأتم جاره ليعزيا أهله، والمعروف عنه أنه يكره المآتم وتقديم التعازى ، فحتى حينما توفيت زوجة ابنه لم يجلس فى المأتم سوى لحظات، ثم انفرد بنفسه وكتب مقاله "عروس تُزف إلى السماء". وآخر ليلة قضاها يسبح ويتلو قرآن الفجر، فأحس بحموضة فى معدته وأعطاه ولده دواء لها وانصرف لينام ، واستيقظ الرافعى لا يشعر بالألم وأخذ طريقه إلى الحمام ، فسمع أهل الدار سقطة عنيفة ، فهبوا مذعورين فإذا بالرافعى جسد بلا روح وذلك فى يوم 10 مايو 1937.