مع زيارة كيري وزير خارجية أميركا للمنطقة والجولات الثنائية مع الكيان الصهيوني ومع رجالات السلطة ورئيسها في رام الله كان هناك الخض والعجن من أين تبدأ المفاوضات وإلى أين، في حين أن إشتراطات رئيس السلطة على أن تبدأ المفاوضات بما انتهت به مع ليفني وأولمرت، بالإضافة إلى اشتراطات قد طرحها الرئيس الفلسطيني منذ الفترة الأولى لحكومة ناتنياهو، والتي تسلسلت في عدة مطالب متدرجة الواحدة تلو الأخرى، أولها وقف الإستيطان وثانيها الإفراج عن المعتقلين وثالثها تزويد السلطة بالأسلحة التي تمكن رجال الأمن من ممارسة دورهم على أحسن وجه أمام عدة متغيرات يمكن أن تحدث في الضفة الغربية كما وصفها رجال السلطة والناتجة عن حصار مالي للسلطة وعن تعنت صهيوني في الإستجابة لمطالب سلطة رام الله. في الجانب الآخر كانت الرؤية الإسرائيلية بأحزابها المختلفة تتفاوت ولو قليلاً، هل يتم التعامل مع السلطة من خلال ما تم التوصل إليه مع أولمرت ليفني أم تبدأ المفاوضات بملف جديد حول الحدود والمياه والدولة والأمن.
ولكن في زيارة كيري الجديدة والجولات التي يقول عنها كيري أنها ستكون مكوكية في المنطقة كان هناك تيار آخر قد برز يطرح رؤية أخرى من الجانب الصهيوني بأن يكون الحل الإقتصادي والتسهيل الإجرائي والمعيشي للفلسطيني هو الأهم من طرح الدولة وطرح باقي المصنفات التي تطرحها السلطة.
بلا شك أن السلطة الفلسطينية قد عانت من حصار استمر أكثر من شهر بما يعتبره المهتمين بهذا الشأن بأنه فركة أذن للسلطة ولكن ليس موقفاً متناقضا مع وجود تلك السلطة، ولأن السلطة لديها مهام تتكفل بها بموجب خارطة الطريق ورؤية دايتون سابقاً وباعتراف قادة العدو الصهيوني أن السلطة قد وفرت عليهم كثير من المهام وكثير من المال الذي كان يمكن أن يختزل من الخزانة الصهيونية وخاصة في جانب الأمن والملاحقات والتحركات العسكرية في الضفة الغربية.
كان للسلطة رؤية تناغم معها بعض الأحزاب الإسرائيلية والوجوه الصهيونية بأن هناك تنازلات قاسية يمكن أن يتنازلوا عنها في عدة انسحابات أخرى تتسلمها أجهزة السلطة بما فيها تخفيف الحواجز والمعوقات والتنقل.
ولكن ما لفت نظرنا ما يطرحه بعض قادة إسرائيل الآن في زيارة كيري وهي رؤية قد يعمل بها واقتنع بها كيري بأنه يجب التعامل في الشأن الفلسطيني "من تحت لفوق"، أي التعامل مع الشعب الفلسطيني مباشرة ثم الصعود لأعلى للسلطة لعملية الإصلاح في داخل السلطة والشأن الفلسطيني، مكمن هذا الطرح أن إسرائيل تعتبر الشعب الفلسطيني من مسؤوليتها من جديد في تطوير حياته بعيداً عن المطالب الوطنية وبشكل مباشر متخطية السلطة، وهذا الطرح مغاير لوجود السلطة منذ بدايته، حيث تعاملت إسرائيل مع السلطة وقادتها، أي تعاملت " من فوق لتحت"، ولكن يبدو أن إسرائيل باستثناء الخدمات الأمنية التي تقدمها السلطة قد أيقنت هي وأميركا أن السلطة عاجزة أو لم تؤدي مهامها بالشكل الصحيح تجاه الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية وفي قطاع غزة مما سبب ثورات وإحتقان شعبي كبير تجاه السلطة وبالتالي تجاه الإحتلال.
في الإستراتيجيات السياسية قد بنت إسرائيل السلطة من فوق لتحت، والآن إسرائيل تعيد النظر لإصلاح السلطة بالإصلاح التحتي ثم الصعود لأعلى، أي أن السلطة تعتبر من مكونات المنظومة والتجهيزة الصهيونية التي يقع على عاتقها تطوير السلطة من عدمه، ونستطيع القول أن إسرائيل جاهزة للتعامل مع البلديات والحكم المحلي ودعم تلك البلديات والتدخل الأكثر اتساعاً في المواقع القيادية والتنفيذية للسلطة الفلسطينية.
كيري وافق على الحل الإقتصادي وهو حل قديم جديد، حيث كان الحل الإقتصادي من خطة بلير دايتون وهي خطة مزدوجة " الحل الأمني الإقتصادي"، أي تعود الكرة من جديد في عملية إجهاض لكل معاني المطالبة بدولة فلسطينية مستقلة، أي تعتبر الضفة الغربية كيانيات من البلديات تحكمها أطر سياسية هلامية تتخبط مع نفسها وتطرح ما تطرحه ولا يعدو أن كونه خطاب إعلامي أو خطاب دبلوماسي لا وجود له على أرض الواقع ولا في حيثيات التنفيذ.
مع موافقة كيري على الحل الإقتصادي تقف السلطة الفلسطينية ورئيسها عاجزة عن التوجه لمحكمة الجنايات الدولية للمطالبة بالحقوق الفلسطينية والإنتهاكات الإسرائيلية في حق الشعب الفلسطيني سواء في قضية المعتقلين أو في قضية الإعتداءات المتكررة على غزة وحصارها أو في مناحي الحياة اليومية التي يعيشها الإنسان الفلسطيني سواء في غزة أو في الضفة، بالاضافة إلى أن هناك كم كبير من الشعب الفلسطيني خارج الوطن وخارج التصورات السياسية المباشرة سواء للسلطة الفلسطينية أو لإسرائيل أو لأميركا.
بوادر الحل الإقتصادي لخطة كيري- بلير الجديدة تدفق مخزون الأموال على السلطة الفلسطينية بعد حصار قرب أن يسقطها مع عدة إجراءات مالية طالت كثير من مسؤولية السلطة حول موظفين في قطاع غزة، حيث حجزت أموالهم ورقن قيدهم تحت إدعاء انهم خارج فلسطينالمحتلة.
يبدو أن الرئيس الفلسطيني محمود عباس قد أيقن أنه يلاطش أمواج البحر سواء على المستوى الداخلي والخارجي وبالتالي أصبح متفقاً مع كيري على الحل الإقتصادي مع التوسع الأمني في أراضي الضفة الغربية وإرتباط مباشر في إتفاقية الدفاع المشترك حول المقدسات في القدس، ونقل المسؤولية إلى الأردن حيث تبقى السلطة الفلسطينية تدور حول نفسها وفي داخل التصور الأميركي الصهيوني ملبية الشؤون الأمنية والإقتصادية للضفة الغربية وهذا يعزز وبشكل واضح وصريح مطالب تيار فئوي في الضفة الغربية بالتجنح عن قطاع غزة وتكريس الإنقسام أكثر، حيث تصبح السلطة هي شأن تنفيذي وتدويري للمطالب الحياتية والأمنية للكيان الصهيوني والشعب الفلسطيني في الضفة معاً.
ما تناقلته الأنباء عن خلافات بين عباس وفياض ربما تكون صحيحة بعض الشيء وخاصة هجوم قادة حركة فتح رام الله على فياض عندما لاحظوا أن كيل الصلاحيات والموارد المالية تورد لفياض حيث تصبح مسؤوليات فياض التنفيذية هي أقوى من صلاحيات محمود عباس نفسه، حيث اتهمت بعض المصادر أن فياض قد اشترى ذمم كثير من قادة فتح وكوادرها في الضفة الغربية، هناك خلاف بين عباس وفياض، ولكن فياض هو الأقوى إلا في حالة واحدة إذا كان عباس قد اتخذ قراراً مصيريا وأعلن على الهواء أنه ليس له صلاحيات وبالتالي الخروج من الباب أو من النافذة وكلاهما واحد، وأمام هذه الخيارات قد قبل عباس بوجود فياض مع بعض الإصلاحات في الوزارات بأحسن تعديل على أن يبقى فياض وحسب تعهدات أوباما له بأنه سيبقى رئيسا للوزراء، وأمام الطرح الصهيوني بالحل الإقتصادي والإستيعاب الأمريكي لهذا الطرح يبقى سيدا للموقف الحل الإقتصادي بعيداً عن الخوض في الأمور الإستراتيجية لحل الصراع العربي الصهيوني وحل الدولتين.
الآراء المنشورة في الموقع تعبر عن توجهات وآراء أصحابها فقط ، ولا تعبر بالضرورة عن الموقع أوالقائمين عليه