يبدو إننا اعتدنا على سماع كوارث سقوط العقارات بالإسكندرية، حيث لا يكاد يخلو شهر من سقوط عمارة أو أكثر وهذا ما حدث مع بداية العام الجديد 2013 ، فقد انهار خلال يناير الجاري عقارين بالإسكندرية. فقد استيقظنا صباح اليوم الأربعاء على انهيار عقار سكني مكون من 8 طوابق مأهول بالسكان، بمنطقة المعمورة بالإسكندرية، أدى إلى سقوط إلى 8 قتلى و20 مصاب مصابين حتي كتابة هذه السطور، وجاري البحث عن آخرين تحت الأنقاض. وفي 3 يناير الجاري انهار أيضا عقار بالإسكندرية بمنطقة محرم بك، مما أدى لمصرع سيدة وإصابة شخص تصادف قيامه بزيارة لأقاربه بذات العقار، وبالفحص تبين أن العقار مساحته 70 متر تقريبًا، بناء قديم ملك مكون من ثلاثة طوابق، ومشغول بالسكان، وسقط سقف حجرة بالطابق الأخير إلى سطح الأرض، ما تسبب في حالة الوفاة والإصابة.
وكارثة اليوم أعادت تسليط الضوء من جديد على مشكلة تفاقمت خلال السنوات الأخيرة بعد سقوط عدد من العقارات في مناطق وأحياء راقية وعشوائية على السواء، كان أشهرها مأساة عمارة لوران المنكوبة عام 2007 والتي راح ضحيتها العشرات .
الطبيعة والفساد
وحول أسباب هذه الانهيارات يقول خبراء إن السبب في ذلك يعود إلى الطبيعة الخاصة للمدينة العريقة التي تتطلب تخطيطا هندسيا معينا، كما أنها تعاني حالة من تفشي الفساد في إداراتها المحلية.
ومثل باقي المحافظات المصرية، شهدت الإسكندرية حالة من هستريا الهدم والبناء والتعلية بعد ثورة 25 يناير / كانون الثاني في ظل حالة من الانفلات الرقابي، ورصدت محافظة الإسكندرية مخالفات بناء طوال العام ونصف العام المنصرم وصلت إلى 8049 مخالفة، ومعظمها عقارات شيدت بدون تراخيص.
من جانبه، أكد الدكتور ياسر عارف استشاري معماري بمركز دراسات الإسكندرية والبحر المتوسط بمكتبة الإسكندرية، أن هناك إهمالا في البناء وعدم اتباع الأساليب الهندسية السليمة.
وقال عارف، وهو أيضا عضو اللجنة الفنية بمحافظة الإسكندرية، إن "الكثيرين يهملون موضوع تحليل التربة لوضع أساسات العقارات لأنه يتكلف كثيرا، ويكتفي المقاول بسؤال أصحاب العقارات المجاورة له عن نوعية الأساسات التي أقاموا عليها بناءهم، وبالتالي تكون أساسات غير صالحة، كذلك تكون غير مصممة للأحمال الواقعية للعقار. هناك مشكلة في عدم الحفاظ على توزيع الأحمال".
ويشير عارف إلى إحدى الحيل القانونية التي تلجأ إليها مافيا العقارات بالمدينة، وهي الحيلة التي باتت تعرف باستخدام "الكحول"، وهو وضع اسم شخص متوفى أو شخص يصعب الوصول إليه، حيث يتحمل هذا الشخص المسئولية الجنائية إذا ما وقعت الكارثة.
وعلى الرغم من أن 30 في المائة من مباني الإسكندرية تقع في نطاق المناطق العشوائية، فإن عارف يقول إن المشكلة التي تواجه المدينة تقع في معظمها في العمارات التي تكون تحت إشراف الأحياء، حيث يتساهل في التراخيص.
ولفت عارف إلى أن المشكلة الكبرى هي أن القانون لا يسمح بهدم الطوابق المخالفة إذا ما كانت مستخدمة، يقول: "هذا وضع خطأ لكنه يحتمي تحت شعار الظروف الاجتماعية.. الفساد في الأحياء متفشٍّ وله قواعد ثابتة، فمن المعروف أنه لكي يقوم مالك العقار بتعلية دور يكون للمهندسين في الحي نسبة منه، وهي معروفة ومحددة".
وأوضح عارف أن هناك شهادات مزورة منها تقرير تربة وشهادة إشراف.. وفي الحي يدرك الموظفون جيدا أن كل ذلك مزور، وقد وجدت أن فيللا جديدة في كينج مريوط وهي غير مسجلة، قام مهندس الحي بكتابة أن المبنى تم بناؤه من 20 سنة حتى يثبت أنه مسجل.
غياب الصيانة ويرجع الدكتور هشام سعودي خبير التخطيط العمراني، تكرار انهيار العقارات إلى قدم عدد كبير من مباني المحافظة وخاصة بالأحياء القديمة وغياب الصيانة الدورية لها مما يؤدى الى انهيارها، بالإضافة الى مساهمة حالة الفوضى التي أعقبت ثورة 25 يناير في إنشاء العديد من المباني المخالفة التي لم يراع فيها المعايير الهندسية للبناء.
وطالب سعودي بتكاتف جميع الجهات التنفيذية بالمحافظة لإزالة تلك المخالفات فورا حفاظا على أرواح المواطنين.
من جانبه، قال أحد المسئولين في إدارة التخطيط العمراني بمحافظة الإسكندرية :"ظاهرة انهيار العقارات بالإسكندرية تأتي نتيجة أن أغلب المباني بها معرضة لخطر الانهيار الداهم.. لقد عملت في مناطق الأحياء الشعبية القديمة لسنوات طويلة، مثل مينا البصل واللبان والجمرك وكرموز، وأزعم أن 80 في المائة من العقارات القديمة بها إما يجب هدمها أو ترميمها على الأقل، و50 في المائة من هذه النسبة معرضة للانهيار العاجل، وعندما نخاطب المحافظة أو أي مسئول يكون الرد أنهم لن يخرجوا الناس كلها في الشارع".
ومن خلال خبرته التي تجاوزت 40 عاما في الأحياء، يؤكد أن مسألة العقارات الجديدة التي تنهار إما لأخطاء فنية أو عمليات جشع شديدة، منبها على أن المشكلة الكبرى في أراضي الإسكندرية أنها ذات طبيعة خاصة، ولا تتحمل ذلك حتى الأساسات العميقة، وهو ما يؤدي للظاهرة التي يطلق عليها "البيوت الراقصة"، مشيرا إلى أن هناك أحياء في الإسكندرية مثل السيوف وسموحة، كانت عبارة عن برك تم ردمها وأراضيها رخوة، وتم تخطيطها في الماضي من أجل بناء الفيلات مراعاة لطبيعة الأرض.
20 ألف مخالفة
وكان الدكتور أسامة الفولي محافظ الإسكندرية السابق، قد كشف عن أرقام وإحصائيات صادمة عن مخالفات البناء في الإسكندرية، قائلا :"إن غرفة عمليات محافظة الإسكندرية رصدت مخالفات بناء بمعدل 20 ألفا و349 مخالفة بناء منها 12 ألفا و300 مخالفة قبل ثورة 25 يناير و8 آلاف و49 مخالفة بعد أحداث ثورة يناير وهو ما تم رصده فقط"، مؤكدا أنه تم تحرير 29 ألفا و669 قرار إزالة لتلك العقارات.
وأشار الفولي إلى أن الكارثة التي شهدها حي الجمرك تهدد كل أحياء الإسكندرية لكثرة العقارات التي تم بناؤها بدون ترخيص في ظل إمكانيات المحافظة المحدودة وعدم توافر مساكن اقتصادية لنقل أصحاب العقارات المتهالكة إليها الأمر الذي يؤدى إلى استمرارهم في البقاء بها رغم حالتها الآيلة للسقوط.
وحول الشق القانوني، يقول المستشار أسامة كشك، رئيس محكمة استئناف الإسكندرية، إن مسئولية انهيار أي عقار تقع أولا على صاحب العقار ثم المحافظ ورؤساء ومهندسي الأحياء. وأضاف كشك أن القانون الحالي لمحاسبة المخالفين لا يكفى ويجب وضع تشريعات جديدة رادعة تنص على مصادرة العقارات التي تبنى بدون ترخيص والأرض التي تقع عليها أيضا بالإضافة إلى معاقبة من يقوم بشراء أي وحدة سكنية داخل عقار غير مرخص، وكذلك منع شركات الكهرباء والمياه من توصيل المرافق للعقارات المخالفة.
حلول
ورغم وضوح أسباب انهيار تلك العقارات والتي من المفترض أن يكون سقوط عقار واحد فقط يدق جرس إنذار للجميع، الا أن تحرك المسئولين يقتصر فقط على استخراج جثث الضحايا من أسفل الأنقاض، دون البحث عن حل جذري للمشكلة التي باتت تهدد أرواح آلاف المواطنين بالاسكندرية.
من جانبهم أوصي خبراء كلية الهندسة بجامعة الإسكندرية بسرعة إزالة المنشآت غير الآمنة إنشائياً والتي تمثل خطر داهم على حياة سكانها وسكان المباني المتاخمة، والتعامل مع هذه المنشآت بالجدية التامة عن طريق لجنة إنشائية استشارية بالتعاون مع نقابة المهندسين .
وشدد أساتذة كلية الهندسة بجامعة الإسكندرية علي ضرورة قطع جميع المرافق عن المباني المخالفة ومتابعة المباني تحت الإنشاء بحيث يتم قطع إمدادها بالمرافق مباشرة حال شروعها في المخالفة.
كما أوصت بحظر جميع التعاملات القانونية على العقارات المخالفة وعدم النظر في الدعاوى القانونية المقامة بشأنها والاعلان عن ذلك في جميع وسائل الإعلام لحين استصدار تشريع بمصادرة هذه الوحدات أو فرض غرامة عليها تساوى قيمتها السوقية الفعلية.
وفي النهاية نجد أن مدينة الإسكندرية باتت أمام كابوس العقارات الآيلة للسقوط، وتشير إحصاءات رسمية إلى أن عدد العقارات الآيلة للسقوط في المدينة تبلغ 10 آلاف عقار.