منذ وطأت قدم السيدة السويدية هيلدا أرض القاهرة لحاقا بحبيبها طورشتين في 1927 وحتى سفر الحفيدة من المدينة التي أحبتها بعد ثورة المصريين المبهرة ، قصص واقعية لثلاث نساء سردتها أصغرهن الكاتبة السويدية آن إيديلستام بكتاب جديد صدرت طبعته العربية مؤخرا . واحتضنت بوابة الحضارات بمؤسسة الأهرام مائدة مستديرة لمناقشة الكتاب بحضور مؤلفته وممثلين عن السفارة السويديةبالقاهرة ، د. بهاء عبدالمجيد أستاذ الأدب الإنجليزي، نرمين رشاد مدير الدار "المصرية اللبنانية" ، المترجمة مروة آدم ، وعدد من الكتاب الأكاديميين و الصحفيين بالبوابة ورئيس التحرير أحمد خالد . تمكنت الكاتبة بأسلوب أدبي راق من التعبير عن التحولات الحادة التي شهدها المجتمع المصري منذ عشرينات القرن العشرين وحتى سنة 2011 حيث رحلت قبل تولي مرسي للحكم . مصر التي بخاطري تبدأ الأحداث في السويد بتاريخ 25 يونيو 1888م، من خلال حريق يأتي على منزل ومطعم «رانهيلد» و«ألفريد» في ساندس ڤال، وعلى عدد كبير من البيوت المجاورة لبيتهما، ولكن يستطيع «ألفريد» بمساعدة والد «رانهيلد» إعادة تأسيس مطعم جديد والاستفادة بزبائنه المتعاطفين مع العائلة المنكوبة، وتأتي «هيلدا» إلى الحياة في عام 1889م، و«هيلدا» هي السيدة الأولى من ثلاث سيدات سويديات عِشن في القاهرة، تحكي الأحداث قصتهن على لسان السيدة الأخيرة - الحفيدة - «آن إيديلستام»، مؤلفة الكتاب، التي تتحدث عن جدتها قائلة: «ما زلت أذكر جدتي. أُغمض عيني، وأتذكر كل تفاصيلها: شعرها الملفوف، الابتسامة التي تضيء وجهها، وقرطها الماسي الذي ما زلت أرتديه. لازمتنى جدتي وذكرياتها، ومن خلالها لازمتني مصر طيلة حياتي دون حتى أن أدرك أو أشعر بهذا». ونتابع القصة كما سردها الناشر : تبدأ قصة السيدات الثلاث مع القاهرة، حين يقع الشاب «طورشتين» في حب «هيلدا»، ويفكر في الزواج منها، لكنه ينتقل للعمل في مصر كقاضٍ بالمحاكم المختلطة التي كانت منتشرة آنذاك، ويصل «طورشتين» بالفعل إلى القاهرة يوم 24/10/1926م، ثم تلحق به «هيلدا» بعد ذلك، ويتم الزواج في القاهرة، ثم ينتلقان للعيش في مدينة المنصورة، حيث يعمل «طورشتين» في محكمتها المختلطة. تسافر «هيلدا» إلى السويد لتضع مولودتها خوفًا من عدم رعايتها طبيًّا بشكلٍ مُرضٍ في مصر، ثم تعود بابنتها «إنجريد» – السيدة الثانية من السيدات الثلاث - التي تقضي طفولتها وشبابها في مصر، ولا تعرف لها وطنًا غيره، لكنها تضطر لمغادرة مصر إلى السويد بشكل نهائي قبيل ثورة 23 يوليو 1952م، وهناك تلتقي دبلوماسيًّا شابًّا اسمه «أكسيل إيديلستام»، الذي يصبح زوجها فيما بعد، وتُنجب منه «آن» – السيدة الثالثة والراوية التي تحكي قصة السيدات الثلاث اللاتي عشن في القاهرة – ولا تنسى «إنجريد» عشقها لمصر، حتى يفاجئها زوجها بأنه تم تعيينه سفيرًا للسويد في القاهرة. وتعود «إنجريد» مرة أخرى إلى وطنها مصر بعد سنوات من البعاد، كزوجة للسفير السويدي في القاهرة، وسرعان ما تلحق «آن» بوالديها لتحيا معهما في مصر، وتبني ذكرياتها الخاصة بها، وهكذا تكتمل قصة السيدات الثلاث، التي من خلال حياتهن في القاهرة، نتعرَّف على شكل الحياة المصرية في فترة زمنية طويلة نسبيًّا، عبر ثلاثة أجيال، ونعرف كيف كان يفكر المصريون؟ وكيف كانوا يعيشون؟ ونلمس – مع السيدات الثلاث - مدى تغيُّر الحياة من سيئ إلى أسوأ، حيث تختفي ملامح الجمال من الشوارع والمباني والحدائق بمرور السنين، وزيادة عدد السكان، وانتشار السيارات في الشوارع، وتغيُّر سلوك الناس. تتحدث «آن» عن عودتها إلى مصر بعد فترة انقطاع، فتقول: «بدأت التفكير بجدية في الذهاب إلى مصر، ولكني لم أكن واثقة مما سأجده بعد سنوات البعد الطويلة. فكرت في الصدمة التي أُصيبت بها والدتي بعد عقود من الغياب، والفرق الشاسع الذي وجدته بين أيام الطفولة، والمراهقة الوردية، وبين ما آلت إليه الأمور. هل سأستطيع التعرف على القاهرة بعد سنوات الفراق؟ ماذا لو أصابني الإحباط؟ أليس من الأجدر بي أن أحتفظ بالذكريات السعيدة دون العودة مرة أخرى؟ انتصر فضولي في نهاية الأمر على كل هذه الأفكار، وقررت السفر إلى مصر». وهكذا عادت «آن» إلى مصر، لتجد في انتظارها ما لم تتوقعه أو تفكر فيه قبل عودتها، ولتُقدم للقارئ هذه الرواية التوثيقية الممتعة، التي تأخذه معها ببراعة في رحلة طويلة، بدايةً من وصول السيدة الأولى «هيلدا» إلى مصر سنة 1927م، ووصولًا إلى ما بعد 25 يناير 2011م، لتتوقف القصة قبيل وصول الإخوان إلى حكم مصر. مدينة الصخب ! الكتاب الذي قدم له الدبلوماسي الراحل بطرس غالي يعد عملا رائعا تتشابك فيه ثلاثة مصائر : الجدة التى كان زوجها قاضياً فى المحاكم المختلطة والابنة التى تزوجت من السفير السويدىبالقاهرة و أخيراً الحفيدة ، كاتبة هذا العمل ، التى تلقت تعليمها فى القاهرة. من خلال مصائر السيدات الثلاث تتكشف لنا مراحل مهمة فى التاريخ المصرى المعاصر. ثلاث لقطات خاطفة متناقضة فى حراك أمة يتم استعراضها، فمن خلال الجدة نتعرف على نضال مصر ضد الاستعمار، سعياً للاستقلال، حيث كانت القاهرة مدينة أنيقة كوزموبوليتانية منفتحة على الآخر و برغم تعدادها السكانى الذى بلغ مليونى نسمة فقد كانت مكاناً ساحراً. من خلال الأم التى نشأت وسط القصور و المنازل الفاخرة ذات الطراز الأوروبى فى القاهرة نتعرف بعمق على الثورة السياسية التى حولت مصر من ملكية إلى دولة اشتراكية تحكمها السلطة و أخيراً تصف الكاتبة الثورة السكانية التى حولت مصر إلى ما آلت إليه اليوم من مدينة مكتظة يقطنها عشرون مليون نسمة تمتلئ بالصخب و التلوث. في كلمتها ، أكدت المؤلفة أنها سعت لإقامة جسر للتواصل بين الشرق والغرب، والأجيال الكبيرة والصغيرة، وقد صدر لها كتاب عن التاريخ في مصر عام 2006، وحين دعاها الناشر لاستكمال حلقاته فكرت في شكل جديد أكثر مرونة في الوصول لعموم القراء، فكان قالب الرواية الواقعية هو الأكثر قربا إليها . ولأنها امرأة فقد اختارت التعبير عن نظرة السيدة الغربية للمجتمع المصري في حقبه المختلفة، وكانت تعد ذلك محاولة لإضافة صوت جديد للقاريء العربي والغربي، هذه المرة لامرأة ، وبالتأكيد النساء أكثر اهتماما بالتفاصيل المجتمعية وقدرة أيضا على سردها. وتنفي آن توثيقها لأحداث مصر التاريخية من خلال الكتاب بالشكل الدارج، فهي بالنهاية أرادت كتابة وثيقة روائية تحوي شهادات واقعية، وأضافت للحقيقة بعض الخيال، مثل أكل الملك فاروق لطعام قططه! ولم تتعرض الكاتبة لحقبة عبدالناصر خلال كتابها، وإن أبدت كما ذكرت لمحيط ملاحظات حول ما جرى في السبعينات من تحولات بمصر ، وهي الفترة التي عاصرت عودة والدتها للبلاد بصحبة أبيها. لا تنسى الكاتبة أبدا حكايات الأم عن جدتها، وكانت تعمل ممرضة بالسويد ثم ارتبطت بشاب سيصبح لاحقا قاضيا بالمحاكم المختلطة بالقاهرة ، وتبيع ممتلكاتها لتلحق به وتتزوجه ثم يسافرا معا لمدينة المنصورة وهناك عاشوا سنوات وأنجبوا والدتها أنجريد . والجدة اهتمت كثيرا بتوثيق مشاهدها في مصر بصور فوتوغرافية وقد احتفظت والدة الكاتبة بوثائق وصور نادرة لمصر زمان ، كانت جميلة أنيقة وخاصة بمدينة القاهرة. صادقت الجدة هدى شعراوي إحدى رائدات تحرير المرأة إبان ثورة 1919 . أما الأم فقد درست بمدرسة فرنسية بالزمالك والتي تم تحويلها لاحقا لمقر للسفارة الألمانية بالحي نفسه . ظلت تحتفظ بذاكرتها بصور صديقات وأماكن رائعة ، حتى أنها لم تكن تشعر بأي غربة وكانت على العكس تشعر بوحشة كبيرة في السويد لأنها هناك بلا أصدقاء . انتقلت الأم للإسكندرية إبان الحرب العالمية الثانية وكانت آنذاك مدينة متنوعة وحضارية تشهد حضورا مكثفا للأجانب، وخاصة الأوروبيين الذين لجأوا إليها هربا من قسوة الحرب ببلادهم ، ولما أغلقت محكمة الاستئناف عادت الأسرة للسويد ثم اتجهت الأم للعمل بسفارة بلادها بواشنطن وهناك التقت بزوجها الذي يعمل دبلوماسيا هو الآخر وكانت المفاجأة أن تعود لمصر من جديد معه . قاهرة مختلفة ولدت الطفلة آن إيديلسون بالقاهرة ودرست بالجامعة الأمريكية وتخصصت بالعلوم الاجتماعية، وظلت عاشقة لمصر، ولكنها اضطرت نتيجة التقلبات السياسية للسفر خاصة بعد الثورة . عاشت آن بأوروبا 10 سنوات وشاهدت كيف تنامت مشاعر الخوف من المسلمين بشكل مغلوط بعد أحداث إرهابية منها تفجير برجي التجارة وغيرها من الأنشطة المتطرفة التي راحت بها دماء بريئة. وردا على تساؤل "محيط" حول الخطاب الإسلامي الذي ترى أن من شأنه تغيير النظرة السلبية للمسلمين، قالت : لابد أن يعتمد على الشرف والتسامح والانفتاح والقيم السامية التي جاءت بها كل الديانات السماوية . من جانبها قرأت مترجمة الكتاب مروة آدم مقاطع منه، وقد أشاد الحضور بمستوى الترجمة المتميز حيث استطاعت مروة أن تنقل روح النص وليس لغته فحسب بشكل محترف . تتذكر عالمة نبات سويدية ، هي إحدى بطلات الرواية، كيف كانت القاهرة مدينة راقية ترى بها كل الجنسيات تقريبا، مطاعم فاخرة ، سينما، قصور ، إنجليز طليان، وبعد أمتار قليلة تشعر أنك بقلب القاهرة الثاني والأكبر، تعدو دقاته لتعبر عن الشرق الحقيقي، أكثر زحاما وعشوائية! وأبدى بهاء عبدالمجيد إعجابه الشديد بالكتاب الذي يختتم بصلاة تمنت بها الكاتبة مصر أجمل وأكثر سلاما، وهي البلد التي شهدت بزوغ حضارة الفراعنة ومهد المسيحية وتقدم العلماء المسلمين الذين نهلوا من الحداثة وأضاءوا العالم بحضارتهم وهو ما استلهمته أوروبا ببناء حضارتها .. يذكر أن الكاتب أحمد خالد قد أعلن عن استعداد بوابة الحضارات لتدشين نسختيها الإنجليزية والفرنسية مطلع الشهرين المقبلين، مؤكدا أنهم يطمحون للتركيز على الأصوات الأدبية الشابة من ثقافات مختلفة، وقد احتفلوا بالفعل بترجمة خمس روايات من الإيطالية وأخرى من العربية في خطوة لدعم حوار الشعوب. وقال ممثل السفارة السويدية أن الأدب يدعم علاقات الشعوب، وقد منحت الأكاديمية السويدية جائزة نوبل من قبل لنجيب محفوظ، والأدب السويدي يترجم لأكثر من خمسين لغة ويعد من أكثر 10 آداب ذيوعا في العالم .