" أبن عامل النظافة لا يمكن أن يصبح قاضياً" و " يكفى أن أبوه رباه" و" القاضي لابد أن يكون من وسط محترم اجتماعياً ومادياً"، كلمات صدرت من رجل يفترض به أنه قمة هرم السلطة القضائية فى مصر، وهو المستشار وزير العدل-محفوظ صابر- فى برنامج البيت بيتك على أحد القنوات الفضائية حدثيه النشأة. نزلت تلك الكلمات كالصاعقة ليس فقط على أبناء عمال النظافة وأبناء الطبقة الكادحة، وإنما أيضاً لكل من يملك قدر لو بسيط من الضمير الإنساني والحس الأخلاقي والضمير الوطني فى هذا البلد، الذي انتفض الملاين من أبنائه ينادون بالعدل والمساواة فى ثورة 25 يناير بشعاراتها المعروفة لدى الكافة " عيش، حرية، عدالة اجتماعية، كرامة إنسانية".وتحمل تلك التصريحات طياتها عدة إشكاليات مركزية، يتقدمها أنها صدرت من وزير العدل، وهنا نحن غير معنيين بشخصه، وإنما بقيمة منصبه باعتباره المعبر الرئيسي عن العدل، الذي هو أساس الملك والحكم وبين الناس، وهو قد ما يجعل مصداقية المنظومة القضائية برمتها على المحك بخاصة من تحول القضاء إلى لاعب رئيسي على الساحة السياسية المصرية من انطلاق الإرهاصات الأولي للثورة. ويضاف لذلك أنها تصريحات تتسم بعدم الدستورية، فتمثل انتهاكاً لنصوص الدستور المصري لعام 2014، والذي نصت مادته 4على أن " السيادة للعشب وحده، يمارسها ويحميها، وهو مصدر السلطات ويصون وحدته الوطنية التي تقوم على مبادئ المساواة والعدل وتكافؤ الفرص بين جميع المواطنين"، وإيماناً من واضعي الدستور بأهمية مبدأ تكافؤ الفرص فقد تم التأكيد عليه أيضاً فى المادة 9، والتى نصت على " التزام الدولة بتحقيق تكافؤ الفرص بين جميع المواطنين دون تميز" .كما نصت المادة 53 على المضمون السابق لكنها إضافة ضرورة التزام الدولة باتخاذ التدابير اللازمة للقضاء على كافة أشكال التميز، وعلاوة على تنظيم القانون إنشاء مفوضية مستقلة لهذا الغرض. صحيح أنه ليس الانتهاك الأول ولن يكون الأخير، لكن تظل الأزمة أنه من صدر عن قامة قضائية كبرى تعلم جيداً أن الدستور هو أبو القوانين، وبالتالي فإنه الدساتير بطبيعتها لا يجوز مخالفتها أو حتى الاتفاق على مخالفتها، وهو مبدأ دستوري وقانوني راسخ. كما أنها تنطوي فى مضمونها أيضاً على مخالفة صريحة لأبسط معايير حقوق الإنسان العالمية، والتى نص عليها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان فى مادته السابعة، مؤكداً على حق كل إنسان فى التمتع بالحقوق والحريات دون أي تميز كالتمييز بسبب العنصر أو اللون أو الجنس أو اللغة أو الدين أو الرأي السياسي أو أي رأي آخر، أو الأصل الوطني أو الاجتماعي أو الثروة أو الميلاد أو أي وضع آخر، ذلك فضلاً عن تأكيده فى المادة السابعة على أن " كل الناس سواسية أمام القانون ولهم الحق في التمتع بحماية متكافئة عنه دون أية تفرقة، كما أن لهم جميعا الحق في حماية متساوية ضد أي تميز، وهو أيضاً ما أكدت عليه المادة واحد عشرون، والتى نصت على " لكل شخص نفس الحق الذي لغيره في تقلد الوظائف العامة في البلاد. وعلى الصعيد النفسي والسيكولوجي، فإن إطلاق مثل هذه التصريحات العنصرية من شأنها أن تؤجج الفتن، ويثير مشاعر الضغينة، والكراهية، والحقد بين أبناء الطبقات المجتمعية المختلفة، وهو ما سيهدد بالضرورة فكرة السلم والأمن المجتمعي بين أبناء الدولة التي تعانى من تهتك فى النسيج المجتمعي الناتج عن اتساع الفجوة الاقتصادية بين الطبقات المختلفة.ذلك خلافاً لتأثيراته السلبية على تكريس مفهوم الطبقية فى تولى الوظائف العامة من جانب، والبعد عن معايير الكفاءة والقدرات العليا، كما أنه يحرم أبناء الطبقات الفقيرة والمهشمة من التطور والتقدم، كأن هذه الشخص المتفوق يدفع ثمن تفوقه بأن يظل قابعاً فى مكانة. وهو ما يعد جريمة اغتيال متكاملة الأركان لأحلام أبناء طبقة ملح الأرض. غير أن كلمات السيد الوزير بخاصة أن " القاضي لابد أن يكون من وسط محترم اجتماعياً ومادياً" قد عمقت الجرح الغائر فى ضمير هذا الوطن، فأن عامل النظافة الفقير مادياً بفعل الممارسات المنفلتة للرأسمالية المتوحشة منذ الانفتاح الاقتصادي فى الثمانيات من القرن المنصرم، والمقهور اجتماعياً بفعل سياسات الاستبعاد والتهميش التي ولدتها منظومة الفساد الممتدة لعقود طويلة، فبدلاً من السعي لرفع الظلم عنه وإعادة توجيه مستقبلة، فأننا نقضي بذلك على ما تبقى من آماله، ونحوله إلى قنبلة موقوتة قد تنفجر فى أي لحظة. لعل أخطر من يثيره من مخاوف أن العديد من القضاة لديهم نفس الرؤية، فرئيس نادي القضاة السابق المستشار أحمد الزند قالها صراحة ومن دون خجل إن تعيين أبناء القضاة لن يتوقف، وأن ما أسماه بالزحف المقدس ضارباً عرض الحائط بالقوانين ومبادئ العدل والمساواة.وهو ما تكرر من المستشار رفعت السيد-رئيس محكمة جنايات القاهرة الأسبق- فى تصريح أكثر بشاعة لجريدة الشروق بتاريخ 11 مايو 2015، مؤكداً على أن " عامل النظافة قد ربي أولاده على الشحاتة"، "وهل من تربي على الشحاتة يستطيع أن يقوم مصير الناس؟ فالعرق دساس".كما أن رد فعل منظومة الحكم فى مصر على رأسها مؤسسة الرئاسة بقيادة الرئيس عبد الفتاح على تلك التصريحات سيمثل نقطة هامة ومفصلية فى حاضر ومستقبل هذا الوطن، فإما الإدانة واتخاذ سياسات حاسمة اتجاهها لا يكفي فيها إقالة الوزير، وأما التجاهل فى رسالة ضمنية بقبول هذا الطرح الطبقي ذات الطابع العنصري الفاشي. فحقاً يا رموز قضاءنا الشامخ-على حد قولكم- فإن أبناء عمال النظافة لا يصلحوا أن يكون قضاه من وجهت نظركم، وإنما يصلحوا أن يكونوا جنوداً يعودون فى توابيت من سيناء فى مواجهة الإرهاب لحماية أمن أبناء الطبقات العليات والقضاة، لا يصلحوا أن يكونوا قضاه، وإنما يصلحوا أن يكونوا حراس لعقاراتكم الفارهه حتى تناموا يا أرباب النفوذ والطبقات العليا فى أمان....حقا لا يصلحوا.. لكن فى بلاد الظلم والطبقية والقهر وعدم العدالة . أما أنتم يا أبناء الطبقات الكادحة فارفعوا رؤوسكم عالياً، فانتم من تبنون هذا الوطن بعرقكم وجهدكم ، وأنتم من سطرتم تاريخ هذه الأمة بدمائكم فى كافة ملاحمها الكبرى والعظيمة، وأنتم من ستحصدون ثمار ذلك سواء شاءت جيوب الرأسمالية أم أبت...وأسالوا جمال عبد الناصر الذي كان أبوه بوسطجي، وأنور السادات الذي كان عمل والده كاتباً، والمسجونين حسنى مبارك الذي كان أبوه حاجباً فى المحكمة، ومحمد مرسي الذي امتهن والده الفلاحة، مع الاحتفاظ بحق التحفظ على تجاربهم. وفي الأخير، أقتلوا أبن عامل نظافة لأنه عاش شريفاً كادحاً غيراً ملوثاً ولا مرتشياً، أو أصلبوه لأنه تحمل هذا القدر من الاستعلاء وعدم العدالة ولم يتحول إلى غولاً أو عنقاء أو مصاص دماء للأوطان، أو ألقوه به فى غيابات الجب لأنه من ملح الأرض.لكن لا تنتظروا منه أن يكون أبناً باراً بوطنه، أو غيروا تلك المفاهيم الفاسدة والمفسدة وهو خير وأبقى، فإقالة الوزير لا يمكن أن تكون هي الحل الأمثل طالما ظلت تلك العقائد الفاسدة مسيطرة على عقلية منظومتي الحكم والمجتمع.