أسباب اقتصادية، وليست سياسية فقط، تحرّك التمرّد الذي يهز، منذ أكثر من أسبوعين، بوروندي. بطالة ومحسوبية وفقر أغرقا البورونديين في حلقة مفرغة، سرعان ما انفجرت بمجرّد إطلاق المعارضة دعوات النزول إلى الشوارع، تنديدا بترشح الرئيس المغادر، بيير نكورونزيزا، لولاية رئاسية ثالثة، وفقا لأستاذ الإقتصاد في جامعة بوروندي البروفيسور جلبرت نيونغابو. طرقات مقطوعة، وإطارات مطاطية مشتعلة في معظم الشوارع، واشتباكات عنيفة بين قوات الأمن والمحتجين.. ذاك هو المشهد اليومي في بوجمبورا منذ ما يزيد عن الأسبوعين.. مدينة تغلي، وغضبها امتدّت ألسنته إلى العديد من المناطق الداخلية، ومحتجوّها الغاضبون يحاصرونها، طلبا لتنحّي الرئيس عن الحكم، وهو الماسك به منذ 2005، في أعقاب إعلان ترشحه الرسمي لانتخابات يونيو/ حزيران المقبل. دائرة من العجز ولئن اندلعت هذه الاحتجاجات تلبية لدعوة أطلقتها المعارضة ومنظمات المجتمع المدني، منذ أسابيع، إلاّ أنّ هذه المظاهرات، أو ترشّح نكورونزيزا لولاية رئاسية ثالثة، شكّلت، في واقع الأمر، "القطرة التي أفاضت كأس شباب محبط، يعيش بلا مستقبل، ومثقل بالفقر والبطالة وغيرها من الآفات الاجتماعية"، وفقا للبروفيسور. وأوضح البروفيسور نيونغابو، في تصريح لوكالة "الأناضول" الإخبارية، أنّ الاقتصاد البوروندي يتخبّط في دائرة من العجز، وذلك منذ عقود من الزمن، كنتيجة بديهية للأزمات المتتالية التي شهدتها البلاد، وجعلت مؤشراته الاقتصادية تنحو نحو تراجع مخيف، ف "بين 1993 و2003، انخفض الناتج الاجمالي المحلّي للفرد بأكثر من 45 %، مسجلا تراجعا من 200 إلى 109 دولار. وفي 2014، بلغ المؤشر نفسه 330 دولار، وفقا لتقديرات صندوق النقد الدولي، أي 4 مرات أقل من المتوسّط بالنسبة لمنطقة افريقيا جنوب الصحراء الكبرى، المقدّر بألف و400 دولار للساكن الواحد". مشهد قاتم فوستين نديكومانا، أحد منظمي الاحتجاجات في بوروندي، وهو أيضا رئيس منظمة "وعد وعمل من أجل يقظة الضمائر وتطوير العقليات" غير الحكومية، لفت من جانبه، في تصريح ل"الاناضول"، أنّ "الناتج الاجمالي المحلي للفرد الواحد لا يزال بعيدا جدا عن ال 700 دولار التي وعدت الحكومة بتحقيقه بحلول عام 2025". مشهد اقتصادي قاتم يقف على احداثيات متحرّكة، قال الخبير البوروندي أنه سبق ووقع تناوله من قبل برنامج الأممالمتحدة للتنمية، في تقريره السنوي لعام 2013، حول مؤشر التنمية البشرية المستدامة، والذي جاء فيه أنّ "بوروندي تحتل المرتبة 180 من جملة 187 دولة خضعوا لقياس هذا المؤشر، حيث يرزح حوالي 68 % من سكان البلاد تحت خط الفقر، والمحدّد ب 0.33 دولار في اليوم الواحد"، مضيفا أنّ "القدرة الشرائية للسكان أصبحت أضعف مما كانت عليه منذ 20 عاما، باعتبار النمو الديمغرافي". وعلاوة على ذلك، أشار الخبير إلى أنّ مناخ الأعمال غير الصحي الذي تشهده البلاد، إضافة إلى الفساد الذي ينخر الخدمات والمؤسسات العامة من أعلى هرمها إلى قاعدته، كان لا بدّ وأن يؤثّر سلبا على الاستثمار الأجنبي المباشر، ليحكم عليه بملازمة مستوى أقلّ من متواضع. وزير المالية البوروندي السابق، شارل نيهانغازا، عاد على الجزئية الأخيرة، في تصريح لوكالة "الأناضول"، بالقول: "إنّ الاستثمار الأجنبي المباشر كان يقدّر ب 7 مليون دولار في 2013، مقابل 111 مليون دولار في رواندا، وحوالي 2 مليار دولار في تنزانيا. في اعتقادنا أنّ زيادة الصادرات ينبغي أن تكون من أولويات الحكومة في الفترة القادمة، بما أنها تعدّ المحرك الحقيقي الوحيد المتاح للبلاد في الوقت الراهن". وأضاف أنّ "بوروندي لا يسعها التقدّم إلا في هذا المجال، خصوصا وأنّ حجم الصادرات المتكونة أساسا من المنتجات الزراعية، تشكّل سنويا، منذ 2008، ما لا يقلّ عن 10 % من الناتج الاجمالي المحلي للبلاد، وهي واحدة من أدنى المعدّلات في العالم". ارتفاع معدلات البطالة وإضافة لما تقدّم، أشار المختص الاجتماعي البورندي، بول نكونزيمانا، إلى أنّ حالة التمرّد التي تشهدها البلاد تعود أيضا إلى ارتفاع معدّلات البطالة، واستشراء المحسوبية في إجراءات الحصول على الوظائف، ف "في بوروندي، لطالما كانت لأسباب اندلاع الحروب فيها علاقة مباشرة بالتوزيع غير العادل للموارد المحلية، والمحسوبية الطاغية على تدابير الحصول على عمل، وخصوصا فيما يتعلّق بالمناصب الاستراتيجية، وما يحصل اليوم هو انفجار مثّل نتاجا لحالة التململ والغليان". ففي مثل هذه الأوضاع المتّسمة أساسا بارتفاع معدلات البطالة، ووقوع الشباب ضمن فوضى الإحباط، رغم أنهم يشكّلون أكثر من 60 % من إجمالي السكان، فإنّ أقلّ خطأ سياسي يمكن أن يفجّر الوضع بقيادة هؤلاء الشباب. البروفيسور بكلية علم النفس والعلوم التربوية ببوروندي ديومود بوغواباري، عقب على الموضوع قائلا ل"الأناضول": "إنّ الشباب تركوا لوحدهم يواجهون مصيرهم المجهول، في خضمّ وضع تطبق عليه البطالة والفقر، بلا مرافقة أو إحاطة، ولذلك، فإن البعض منهم يمكن أن يحمل على لعب أدوار سيئة في المجتمع". وأضاف : "فالنشاز الحاصل لدى الشباب المتدفّق من شتى أنحاء البلاد، بين الصورة التي كان يحملها في مخيلته وهو يتأهب لمغادرة قريته والتوجّه نحو المدينة بحثا عن حياة أفضل، وبين الواقع المرّ الذي يصطدم به، هو ما يخلق صدمة وإحباطا لديه، ويشحنه بشحنة من الغضب قابلة للانفجار مع هبوب أي رياح مؤاتية". ولفت بوغواباري إلى أنّ سوء أوضاع الشباب خلق نوعا من الهشاشة في نفوسهم، وهو ما يسّر عملية تحويلهم إلى بيادق، وإلى شخصيات يسهل التأثير عليها، خصوصا من قبل بعض السياسيين، ومن هنا تبرز إشكالات إدارة الشباب في المدن". أما بالنسبة لفوستين نديكومانا، فأكّد أنّه ينبغي على بوروندي الاقتداء ببلدان أخرى، والشروع في إنعاش اقتصادها، لافتا إلى أنّ "دولا مثل رواندا وليسوتو وموريشيوس وسنغافورة، انطلقت من العدم، لكنها استطاعت تحقيق أداء اقتصادي هام في ظرف وجيز، ولذلك، فإن بوروندي في حاجة إلى انتعاشة اقتصادية تكون الضامن لإزدهارها ولتوفير ظروف عيش أفضل لسكانها. عكس ذلك، فإنّ جميع المؤشرات الموجودة اليوم تشي بأنّ الفقر هو ما يغذّي العنف وعدم الاستقرار السياسي".