في ورقة قدمها د. عبدالرحمن حجازي، أستاذ اللغة العربية وآدابها ، ضمن ملتقى الرواية العربية الذي شهدته القاهرة الأسبوع الماضي، قارن الكاتب بين الرواية التاريخية ومفهومها وعوالمها عند اثنين من أهم الروائيين العرب؛ وهما الكاتبة المصرية سلوى بكر، والكاتب السوداني حمور زيادة .. وتحمل السطور التالية تفاصيل الورقة . " لا شكَّ أن المؤرخ، مهما كانت الحقبة التي يحاول التأريخ لها، يفرض عليه الاستناد إلى الأحداث الواقعية، بيد أن هذا لا يعني مصادرة حقه في مواكبة الأحداث بالتعليق الذي يُرضي توجهاتِه الفكريةَ والسياسية، أو إدماجَ تأويلاتِه؛ لأن المحاكمةَ الحقيقية التي يتعرضُ لها المؤرخُ تستندُ إلى معيار صدق أو كذب الوقائع التي يسردُها قياسًا إلى ما وقع بالفعل وفقَ الشواهدِ والوثائقِ الموجودة. أما التعليقُ والتحليل فلا يُعتبر تزييفًا للتاريخ بل قراءةً سياسيةً ممكنة ما. أما الروايةُ التاريخيةُ فتشاكلُ التاريخَ الفلسفي وفقَ تحديد هيجل؛ لأن مادتها المرجعية ليست الواقع كما هو، بل المادة التاريخية كما بُنيت من قِبَل المؤرخين الأصليين. ولذلك فالروائي لا يبحث عن حقيقةٍ جديدةٍ للتاريخِ بل ينطلقُ مما انتهى إليه المؤرخ، لكي يصوغَ الدلالةَ التي يودُّ تشكيلَها. وبفضلِ الاختلاف في خصوصيات المرجعيين، تستطيعُ الروايةُ التاريخيةُ أن تُضيفَ إلى الأحداثِ ما تشاء، وأن تحذفَ ما تشاءُ أيضًا؛ لأن السؤالَ الذي يُطرحُ على الروايةِ التاريخيةِ لا يتعلقُ بمقدارِ الوفاءِ للتاريخ، ولكن بالفكرةِ الإيديولوجيةِ التي من أجلِ التعبيرِ عنها كانت العودةُ إلى هذه الحقبةِ التاريخية؛ وذلك لأنها وإن كانت تاريخيةٌ لا يمكنها أبدًا أن تكونَ مصدرًا لكتابةِ التاريخ. وعلى الرغم من أن زمنَ الطبع بين الروايتين- رواية " كوكو سودان كباشي" لسلوى بكر، ورواية "شوق الدرويش" لحمُّور زيادة- يُقَدَّر بعشر سنوات؛ إذ طُبعت رواية " كوكو سودان كباشي" لسلوى بكر عام 2004م، ورواية "شوق الدرويش" لحمُّور زيادة عام 2014م، فإن الروايتين تتناولان حكايتين مختلفتين يربط بينهما استخدام السرد التاريخي أو البنية التاريخية؛ حيث يلعب التاريخ دورًا كبيرًا وفعَّالاً في البناء الفني للروايتين، كما أن كل رواية- وإن كانت تعكس واقعها المعيش وحياتها الواقعية- فإنها تعتمد على التاريخ سواء أكان شخصيًا أم عامًا أم موضوعيًا عن طريق التشويق الفني للتاريخ أو التوثيق التاريخي أو حتى التخيل التاريخي...إلخ. ولا شك أن العلاقة بين الأدب والتاريخ علاقة جدلية، وأن النص الذي يوظف التاريخ له جانبان: أحدهما تاريخي، والثاني أدبي؛ فتصنيف رواية ما– مثلاً- على أنها تاريخية يعنى أننا نفترض أن النص روائي وتاريخي؛ أي أن مفهوم النوع مرتبط بعنصرين أساسيين هما: الروائية والتاريخية، والروائي لا يكتب رواية تاريخية خالصة، وإنما يكتب عن التاريخ كنوع من المراجعة للموقف الحضاري أو إعادة إنتاج الزمن الروائي. ويرى د. أحمد إبراهيم الهوارى ، ود. قاسم عبده قاسم في كتابهما" الرواية التاريخية في الأدب العربي الحديث" أن" ثمة علاقة جدلية بين الفن والتاريخ؛ فالفن مادة من مواد التدوين التاريخي، والتاريخ بدوره يشترك مع الفن في دعاماته الثلاث : الإنسان والزمان والمكان ". كما أن "الحدود بين الفن والتاريخ ليست حدودًا صارمة مانعة، وإنما هي حدود متداخلة بحيث تحسبها حدودًا وهمية في بعض الأحيان؛ فالإنسان هو الموضوع المشترك لكل من الفن والتاريخ، وهو من ناحية أخرى، المبدع في دنيا الفن وصانع أحداث التاريخ. من هنا تقول الروائية سلوى بكر- صاحبة رواية " كوكو سودان كباشي"- في حوار أجري معها:" أنا لا أكتب رواية تاريخية، وإنما أكتب عن التاريخ...، والتساؤل عن التاريخ هو ضرورة ملحَّة الآن كنوع من المراجعة لموقفنا الحضاري، ثانيًا أنا معنيَّة بالكتابة عن التاريخ، معنيَّة بإعادة إنتاج العلاقة بين المتون والهوامش التاريخية وإعادة مَلءِ الفراغات التي لم تُملأ من قِبَل المؤرخين سواء بسبب الإهمال أو النفي أو الاستبعاد، ومعنيَّة أيضًا بإعادة النظر في طرائق القراءة للتاريخ، ومن هنا كان اهتمامي بالكتابة عن التاريخ". ونستطيع القول إن الرواية التاريخية شاعت في الإبداع العربي خلال فترات معينة من القرن العشرين، كمحاولة للبحث عن الهوية، أو الذات القومية القوية المنتصرة، أو البحث عن دواء شافٍ للمحن التي تتعرض لها الأمة، أو لأجل التمني والحُلم بالانتصار خلالَ فتراتِ الانهزام، وتجاوزت ذلك في العصر الحالي في ظل الاحتكاك الحضاري؛ حيث أصبحت تُجسِّد قضايا عالمية معاصرة بإسقاط ذاك الماضي على الحاضر وتفسيره. وتعتمد رواية "كوكو سودان كباشي" على واقعة تاريخية في التاريخ المصري الحديث قلَّما تحدثت عنها كتب التاريخ، وهي الحرب الأهلية المكسيكية، والتي غاض غمارها أورطة من الجيش المصري تتألف من الجنود المصريين والسودانيين والنوبة خلال الفترة من 1863 إلى 1867. وعند حمُّور زيادة في روايته "شوق الدرويش" التي تدور أحداثها في خضم الثورة المهدية (1885- 1899) التي قامت في السودان بزعامة "محمد أحمد المهدي" ردًا على مظالم الحكم التركي المصري حينذاك، وترصد الرواية أحداث تلك الثورة من خلال رحلة العبد "بخيت منديل". ففي رواية "كوكو سودان كباشي" ، تَسرد أوراق الشيخ عثمان تاريخ الأورطة المصرية السودانية التي أرسلها الخديوي سعيد لتحارب في المكسيك بناء على طلب الفرنسيين الذين لم تتمكن قواتهم من الصمود هناك لسوء الطقس وانتشار الأوبئة وقسوة البيئة. وهذه الأوراق- بالإضافة إلى المتعة السردية التي تقدمها- فإنها تحمل الكثير من الدلالات الأخرى التي تشكل العصبَ الرئيسي لرؤية الكاتبة؛ أي أن الأوراق هنا هي ما يشبه الصندوق (صندوق بندورا) أو الأرشيف الذي يكشف المسكوت عنه تاريخيًّا كما ترى د. شيرين أبوالنجا. وهذا التاريخي يتواشج بدوره مع النفسي والفكري والاجتماعي، مما يسمح للقارئ بتتبع تطور شخصية خالدة. هذا هو المحك الرئيسي الذي ترتكز عليه الرواية إذن؛ فالتغير مرهون فيها بقراءة، وإعادة قراءة، ومساءلة التاريخ، بل إعادة النظر في كتابة التاريخ؛ «فمن ذا الذي يقوم بكتابة التاريخ؟». عبر قراءة الأوراق تستغرق خالدة- بطلة الرواية- في محاولة الإجابة عن عدة أسئلة مهمة تتعلق مثلاً بغياب الإشارة في المناهج التاريخية إلى الحرب المكسيكية التي شاركت فيها الأورطة المصرية السودانية. ثم تظهر دهشتها من موقف مصر في ذلك الوقت إزاء تجارة الرق، وما يثير الدهشة أكثر هو موقف الشيخ عثمان من هذه التجارة؛ فهو لم يمانع مطلقًا في اتخاذ جارية من سوق العبيد في المكسيك، إلا أنه لم يجد غايته «المطابقة للمواصفات»؛ مما جعله يبدأ في سرد محاسن سوق العبيد في مصر المحروسة. تتوقف خالدة طويلاً عند هذا الجزء، وتتساءل عن جعل أميركا هي نقطة البداية التاريخية لتجارة العبيد. أما على المستوى الفكري فهي لا تستطيع أن تستوعب التوافق بين فكر الشيخ وبين موافقته على تجارة العبيد، وهو ما يسمى بلغة الشيوخ «هذه نقرة وتلك نقرة أخرى». أما السؤال الأهم فهو ذاك المتعلق بعلاقة الأورطة المصرية السودانية بالحرب في المكسيك؛ فقد مات الكثير منهم أثناء الاشتباك القتالي أو بسبب الأوبئة أو بسبب الهلع الشديد من البحر الذي كان يسمى «بحر الظلمات». كما كانت الأورطة تضم العديد من السودانيين الذين اختطفوا من بيئتهم المحلية ليتم بيعهم كعبيد مشاركين في هذه الأورطة، ومنهم كوكو سودان كباشي الذي وردت قصته في أوراق الشيخ عثمان وتعاطفت معه خالدة بشدة؛ إذ تم «اصطياده» من الغابة. ولا تكتفي سلوى بكر بتوظيف الأوراق تاريخيًّا للكشف عن جزءٍ من تاريخ مصر في فترة الخديوي سعيد، بل إنها توظف أيضًا مهنة خالدة، وهي المحاماة لتجعل من التفاعل بين الماضي (أوراق الشيخ عثمان) والحاضر (وضع العديد من السودانيين في مصر) أحد المحاور الرئيسة للعمل. فعبر العديد من قضايا السودانيين في مصر تكتشف خالدة عبثية التاريخ؛ فهؤلاء السودانيون الذين حاربوا في المكسيك باسم مصر في نهاية القرن التاسع عشر يتم إنكار حقوقهم في القرنين العشرين والحادي والعشرين، بل هم مطالبون بإثبات مصريتهم في معظم الأحوال، ومنهم، على سبيل المثال، عبد النبي إدريس الذي كان جدُّه قد شارك في حرب المكسيك، وعبد النبي نفسه شارك في حرب 1948 ثم تم توظيفه بالحكومة المصرية حيث خدم بها أربعة عقود. وعندما أراد عبد النبي أن يذهب إلى الحج طلبت منه الحكومة المصرية أن يحصل على جواز سفر من الخرطوم. ولكثرة القضايا المتشابهة التي تتعامل معها خالدة يتواشج الماضي مع الحاضر في تفاعل أو تنافر أو تناقض أو قطيعة، وهو ما تقابله خالدة غالبًا بابتسامة ذات مغزى ليقوم القارئ بتفسير الماضي على خلفية الحاضر. وبقراءة أوراق الشيخ عثمان تتمكن خالدة من العبور؛ فهناك العبور من الخاص الذي كان محدودًا ومحددًا بالصورة المُلهمةِ للأب الى العالم الأرحب والأوسع الذي يكشف عن الكثير من التاريخي والاجتماعي المسكوت عنه بفعل سلطة انتقائية تطوع التاريخ لمصالحها. وينعكس كل ذلك على خالدة التي تتحول نبرتها إلى نبرة متسائلة متأملة واعية بعد أن كانت في البداية لاهثة ومتلاحقة ومستنفرة. حتى إن ذلك التحول ينعكس على علاقتها بعمتها فتصبح أكثر صبرًا وأوسع أفقًا. أما رواية "شوق الدرويش" الصادرة مؤخرًا عن دار العين للنشر بالقاهرة (2014م)، فتدور أحداثها فى خضم الثورة المهدية (1885-1899) التى قامت فى السودان بزعامة "محمد أحمد المهدى" ردًا على مظالم الحكم التركى المصرى وقتها، وترصد الرواية أحداث تلك الثورة من خلال رحلة العبد "بخيت منديل". وقد علَّق الروائي حمور زيادة نفسه على روايته قائلاً: "إن قدم الثورة ثقيلة مثل قدم الطغيان، وهذا الشكل المغاير الذى بدت عليه روايتى عن الثورة جاء لاقترابها من الإنسان الذى شهدها؛ فكل الروايات السودانية التى عالجت"المهدية" إنما تناولتها من جانب احتفائى؛ على نحو: إننا "قمنا بثورة عظيمة، ونحن دحرنا المستعمر، ونحن بهرنا العالم"، متناسية ذلك البعد الإنسانى وهؤلاء البشر الذين تأثروا سلبًا بهذه الثورة، ومن دهستهم هذه الثورة حتى لو كانوا مؤمنين بها". وقد قال عنها الكاتب والناقد السودانى محفوظ بشرى :"زيادة نجح، فى "شوق الدرويش"، فى استخدام أكثر المراجع التاريخية عن تلك الفترة؛ فجمع منها التفاصيل والقصص التى أعاد استخدامها بسيناريوهات خدمت هدف الرواية الأساسى: سرد قصة الإنسان فى تحولاته الوجودية التى لا يقيّدها زمان أو مكان". وهناك بعض التشابهات بين رحلة "كوكو سودان كباشي" عند سلوى بكر وبين رحلة "بخيت منديل" عند حمور زيادة في كثير من الأحداث التي تؤكد دائمًا ظلم السلطة الحاكمة؛ حيث يؤكد هذا التشابه التواصل التاريخي الإنساني الذي يقاوم ويناهض القطيعة التاريخية المعرفية التي تمارسها المؤسسة السلطوية، ويرمزان إلى الضمير الإنساني في كل مكان الذي يتورط في علاقات قوى لا تمت له بصلة مطلقًا ويعاني من حروب لم تشن من أجله قط. فقد كانت الرحلة- في كلتا الروايتين- تمران من البراءة الى المعرفة والتساؤل عن الوطن والجذور، خاض كل من كوكو سودان كباشي- وإن كان مرغمًا- وبخيت منديل- الذي كان كان مرغمًا أيضًا- رحلتهما من البراءة إلى عالم وحشي يموج بالحروب والقتل والدمار. وهو ما يُرسي الكثير من أوجه التشابه بينهما، فقد خاض الاثنان نفس الرحلة، رحلة البحث عن الذات، والبحث عن الشوق والحنين والاشتياق كل بطريقته".