"الأم هى الواحة فى صحراء هذه الحياة ، و هى الشاطئ فى بحر تلاطمنا أمواجه القوية و تلهو بنا ، فترفعنا تارة إلى سماوات آمالنا ، و تخفضنا تارة إلى هوة يأسنا " هكذا عرف الكاتب " ملاك ميخائيل " الأم ، فى كتابه الصادر حديثا عن كتاب اليوم " أمى " . و لأن الأم أحلى قصيدة ، يحدثنا ميخائيل عن " الأم " فى سير الشعراء و قصائدهم ، متعجبا من أن الشعر العربى القديم على مدى تاريخه الطويل يكاد يخلو من الكتابة عن الأم بصورة مباشرة ، فى حين أن الشعراء القدماء كتبوا عن جميع مظاهر الحياة وصولا للسيف و الفرس و الأبل و الكلاب . و قد أرجع ميخائيل السبب فى عدم كتابة قدامى الشعراء عن أمهاتهم للتقاليد و الأوضاع السائدة فى زمانهم ، حيث كانت تمنع التقاليد القديمة ذكر اسم الأم و تداوله بين الناس ، حيث يعتبرون ذلك إهانة لها و تقليلا من شأن أبنائها ، و تلك القصائد القليلة التى تذكر الأم فى الشعر القديمة ، لا تذكرها سوى بعد وفاتها .
فنجد " لبيد بن ربيعة " يتحدث عن الأم بصورة غير مباشرة ، بتصويره من الطبيعة لصورة الأمومة عن الحيوان فى صورة بقرة برية تاه منها ولدها الصغير ، و برغم الأمطار الكثيفة و مطارادات الصيادين ، لم تكل أو تتوقف عن البحث عن وليدها لمدة سبع ليال متواصلة ، ليظهر مدى تفانى الأم فى محبة أبنائها . و نقرأ من معلقته : حتى إذا انحسر الظلام و أسفرت بكرت تنزل عن الثرى أزلامها علهت تردد فى نهاء صعائد سبعات تؤاما كاملا أيامها حتى إذا يئست واسحق خالق لم يبله رضاعها و فطامها فتوجست رز الأنيس فراعها عن ظهر غيب و الأنيس سقامها
و " أبو الطيب المتنبى " بالرغم من انه لم يخلف أى قصيدة عن الأم ، و لكن كان له قصيدة " رثاء لجدته " التى كان يعتبرها أمه الحقيقية ، و كانت جدته يئست من رؤيته لطول غيابه ، و عندما أرسل إليها بقرب عودته ، فرحت فرحا شديدا ، حتى أصابتها الحمى ، و ماتت قبل ان يعود المتنبى إليها ، فلما عرف المتنبى رثاها قائلا : أحن إلى الكأس التى شربت بها و أهوى لمثواها التراب و ما ضما .... و يعود فيقول : أتاها كتابى بعد يأس و ترحة فماتت سرورابى ، فمت بها هما حرام على قلبى السرورو فإننى أعد الذى ماتت به بعدها سما تعجب من خطى و لفظى و كأنها ترى بحروف السطر أغربع عصما و تلثمه حتى أصار مداده محاجر عينيها و أنيابها سحما .... و قاد معها الجارى وجفت جفونها و فارق حبى قلبها بعدما أدمى و لم يسلها إلا المنايا ، و إنا أشد من السقم الذى أذهب السقما ... و ينهى قصيدته قائلا : و لو لم تكون بنت أكرم والد لكان اباك الضخم كونك لى أما
و يقتبس الكاتب أبيات أمير الشعراء " أحمد شوقى " فى رثائه لأمه " نزار هانم " التى توفيت و هو فى منفاه بأسبانيا ، فيقول : إلى الله اشكو من عوادى النوى سهما أصاب سويداء الفؤاد و ما أحمى .... و يقول شوقى عن أحكام القدر : و لم أر كالأحداث سهما إذا جرت و لا كالليالى يبدع المرمى و لم ار حكما كالمقادير نافذا و لا كلقاء الموت من بينها حتما إلى حيث آباء الفتى يذهب الفتى سبيل يدين العالمون به قدما و ما العيش إلا الجسم فى ظل روحه و لا الموت إلا الروح فارقت الجسما .... و فى نهاية رثائه يقول : فما برحت من خاطرى مصر ساعة و لا أنت فى ذى الدار زايلت لى هما إذ جننى الليل اهتتزت اليكما فجنحا إلى سعدى و جنحا إلى سلما الأم فى الشعر الحديث اختار الكاتب من بستان الشعر الحديث باقة مما كتبه الشعراء عن الأم .
و يبدأ مع الشاعر العراقى الكبير " معروف الرصافى " ، و ما رسمه لنا بكلماته عن الأم كتربة اولى فى نمو الطباع المهذبة لأبنائها ، قائلا : هي الاخلاقُ تنبتُ كالنبات اذا سقيت بماء المكرماتِ تقوم إذا تعهدها المُربي على ساق الفضيلة مُثمِرات وتسمو للمكارم باتساقٍ كما اتسقت أنابيبُ القناة وتنعش من صميم المجد رُوحا بازهارٍ لها متضوعات ولم أر للخلائق من محلِّ يُهذِّبها كحِضن الأمهات فحضْن الأمّ مدرسة تسامتْ بتربية ِ البنين أو البنات واخلاقُ الوليدِ تقاس حسناً باخلاق النساءِ الوالداتِ وليس ربيبُ عالية ِ المزايا كمثل ربيب سافلة الصفات وليس النبت ينبت في جنانٍ كمثل النبت ينبت في الفَلاة فيا صدرَ الفتاة ِ رحبت صدراً فأنت مَقرُّ أسنى العاطفات نراك إذا ضممتَ الطفل لوْحا يفوق جميع الواح الحياة اذا استند الوليد عليك لاحت تصاوير الحنان مصورات لأخلاق الصبى بكُّ انعكاس كما انعكس الخيالُ على المِراة
و أما فى شعر أبو القاسم الشابى فنجد العديد من الأبيات عن الوالدين ، و يرى الشابى أن الأم " حرم سماوى" بدونه لا تكون الحياة : الأمُّ تلثُمُ طفلَها، وتضمُّه حرَمٌ، سماويُّ الجمالِ، مقدَّسُ تتألّه الأفكارُ، وهْي جوارَه وتعودُ طاهرة ً هناكَ الأنفُسُ حَرَمُ الحياة ِ بِطُهْرِها وَحَنَانِها هل فوقَهُ حرَمٌ أجلُّ وأقدسُ؟ بوركتَ يا حرَمَ الأمومة ِ والصِّبا كم فيك تكتمل الحياة ُ وتقدُسُ
و من منا لا يعرف الأبيات الشهيرة لشاعر النيل " حافظ إبراهيم " الذى يصف الأم فيها كالمدرسة التى تعلم الأجيال و تبنى الرجال و الأوطان : الأم مدرسة اذا أعددتها أعددت شعبا طيب الأعراق الأم أستاذ الأساتذة الأولى شغلت مآثرهم مدى الآفاق
و تكتب الشاعرة السورية " هند هارون " و التى عرفت ب " شاعرة الأمومة " و خنساء العصر ، على لسان الأم : رفيق الحب يا ولدي حنان الأم في الكبد يزقزق في جوانحها كنغمة طائر غرد يطل على نواظرها بريقا رائع الوقد زرعت النور في عيني زرعت الخوف في سهدي بنوتك التي سطت افانين من الرغد طفولتك ازدهار الرو ض بعد تساقط البرد سقيت زهورها دمعي و جهد الروح و الجسد تذكر انني الجذر الذي أنماك يا ولدي و يقول نزار قبانى فى ديوانه " الرسم بالكلمات " و الذى خطه فى أسبانيا ، و هو عبارة عن خمس رسائل أرسلهم لوالدته فى دمشق عبر ديوانه ، قائلا : صباحُ الخيرِ يا حلوه.. صباحُ الخيرِ يا قدّيستي الحلوه مضى عامانِ يا أمّي على الولدِ الذي أبحر برحلتهِ الخرافيّه وخبّأَ في حقائبهِ صباحَ بلادهِ الأخضر وأنجمَها، وأنهُرها، وكلَّ شقيقها الأحمر وخبّأ في ملابسهِ طرابيناً منَ النعناعِ والزعتر وليلكةً دمشقية.. أنا وحدي.. دخانُ سجائري يضجر ومنّي مقعدي يضجر وأحزاني عصافيرٌ.. تفتّشُ –بعدُ- عن بيدر عرفتُ نساءَ أوروبا.. عرفتُ عواطفَ الإسمنتِ والخشبِ عرفتُ حضارةَ التعبِ.. وطفتُ الهندَ، طفتُ السندَ، طفتُ العالمَ الأصفر ولم أعثر.. على امرأةٍ تمشّطُ شعريَ الأشقر وتحملُ في حقيبتها.. إليَّ عرائسَ السكّر وتكسوني إذا أعرى وتنشُلني إذا أعثَر أيا أمي.. أيا أمي..
و يقول المغربى على الصقلى : أمى و ليس بقلبى يفيض غير هواك و لا سنة ملء عينى يشع مثل سناك و لا بهاء تصبه روحى كسحر بهاك و يقول الشاعر المصرى نعيم جاد الله : على صدر أمهاتنا تلاشى فينا شعور الغرباء من انفاسها نسمتنا وصوتها همسا وغناء من لمساتها راحتنا ومن عينيها تعلمنا الصفاء امى يا مدرسة الحنان يا ربيع دائما من العطاء من رقتك ونبض قلبك تعلم قلبى نبض الشعراء و يقول الشاعر محمد سعيد فخرو : أمى و يلتفت الحنان و يشرد مطرا و تحنانا و يبتسم الغد لا يعرف التعب الممض نهارها و يهدها الليل الطويل فترقد ينهى و يأمر حبها ما ترتجى فينا و يبسم عطفها و يهدهد أمى و يلتفت الحنان معطرا و على مغانى شوقنا يتمدد أمى و تنفتح السماء مواسما و الأرض تلبث ثوبها و تتجدد و تزغرد الأعراس فوق جبينها و يقبل القدام منها الفرقد و على ابتسامتها يفتح زهرنا و يفتق الأمل الكبير و يعقد
من الشعر العالمى الشعر كرم الأم بكل اللغات ، و لذا نقتبس من الشعر العالمى ، القصة الشعرية " قلب الأم " للشاعر الأسبانى " جاسنتوفر باكو " ، و التى ترجمها للعربية الشاعر " نعمت عامر : قال يوما : من ضل قلبا و فكرا لفتاة تفيض حسنا و شرا أنت نجم يضئ أفق حياتى لست استطيع ان أخالف أمرا فاطلبى تظفرى بأنفس كنز كان ماسا بدارنا ، أو كان درا لك ما شئت من جواهر أمى فخذى الكنز .. و الجواهر طرا غير أن الفتاة شاءت تكيد فأجابت : بل قلبها ما أريد و ارتضى الغر أن يجرد أما من فؤاد ، عن حبه لا يحيد فانقضى خنجرا و جاء بليل كان حلما لأمه .. الصنديد أجهض الحلم ، حين مزق صدرا و أتى القلب ، فاستجاب الودود حمل القلب فى يمين تبت يطلب القرب من فتاة ضلت فإذا النبض لا يزال سخيا و إذا الأم يحن جوى ما تخلت تمطر الابن بالمحبة سيلا ففتاها – إن قر عينا – قرت مثل مصباح بمسجد كان يبدو ذلك القلب .. فى يمين تبت بينما كان مسرعا يتغنى نحو من رامها ، فزل وجنا يبذل القلب قلب ام رءوم و الأمانى بأسرها ، ماضنا اذا تردى بحفرة فى حماها و تداعى و قلبها .. ما حنا و اذا قلب أمه فى ارتياع يسأل الله .. أن يكون مجنا