إنها لحظة وينتهي كل شيء.. وتتساوى كل المشاعر، لحظة أجمل ما فيها أنها فراق للدنيا الغادرة، ولقاء بالله الكريم الحنّان، ولكن.. يبقى أنه لا مفر من لقاء ملك الموت ومنكر ونكير وكتاب خطّ فيه كل فعل صدر منا وكل قول أطلقه لساننا وكل خطوة اتخذناها بلا مبالاة بالعاقبة، نُحاسَب على كل صغيرة وكبيرة تناسيناها عمدا أو استخدمنا مصطلحات الدنيا الكاذبة لتبرير جهلنا بالآخرة... الروح التي سكنت أجسادنا وانغمست في الأمنيات والطموحات لتحقيق ما تطمع في تركه ورائها ليخلد اسمها، بل ووضعت لكل ذلك الخطط والمسارات المستقبلية، فغداً سأفعل كذا وبعد سنوات سأفعل كذا وعند المعاش سأفعل كذا... فجأة ينسحب منا توكيل الحياة وتلقى تلك الروح ربها بلا استئذان، لم نُكمِل بعد ما خططنا إليه وما رسمناه لمستقبلنا.. أين تلك الغطرسة التي تملكتنا وأين أفكارنا المنافية لرهبة الحساب وأين الأهل والأحباب، وهؤلاء الأصدقاء الذين كانوا يشجعوننا على تبني الحرية من كل قيد يعكر صفو ضحكتنا حتى وإن كان ضد شريعتنا.. أين الحياة؟. انتهى كل شيء.. لم يعد هناك خيار آخر سوى الاعتراف بالذنوب والآثام، وحقيقة لم أدرك المعنى الحقيقي للموت إلا عندما وقفت أصلي على روحٍ عزيزة عليّ.. ماتت تاركة آمالا أعلمها، تاركة أحلاما كانت تتغنى بها، خِلتُ نفسي مكانها، من فتاة تنمق مظهرها وتسير في الأرض حرة مليئة بالتفاؤل، إلى جسد يأكله الدود ويتحول إلى تراب... ماذا فعلت لديني، وهل عبدت الله حق العبادة، وهل سأصمد أمام منكر ونكير رغم إيماني، وهل سأجد من يدعو لي بعد مماتي، وهل سأفرق في حياة أحبتي، وهل سأجد لي مكان في الجنة أم ستسحقني السعير، وهل سأترك خلفي أثرا طيبا أم خبيثا، وهل وهل ..... وعندما توفى والدي –رحمة الله عليه- التمست فيه حقا معني "بيع الدنيا" وإلقائها خلف ظهورنا، حيث رحل وقد قدم كل ما لديه من جهد، حاول جاهدا إتقان العبادة والتزام الخير واحتساب الأجر، لاشك أنه خاف الموت ، لأن المؤمن الحق يؤمن بالحساب وأنه ليس ملاكا ومهما فعل فلن يكن على استعداد للقاء ملك الموت أو ضمان حاله في البرزخ، وعلمت جيدا أن الدعاء لنا بصدق بعد الموت هو ملاذنا الأقرب من العذاب إيمانا برحمة الله وحنانه وحبه لعباده الصالحين، وتيقنت أن الدنيا تخدعنا جميعا فمنا من يعيش في غفلة مصدقا ما هو فيه من وهم وأنه على صواب ومعتقداته الدينية لا تقبل التعديل لأنه على دراية بالدين، ومنا من يستيقظ ليراقب أفعاله وأقواله وتدينه ويتأكد دوما من معتقداته وفقا لقوله "وفوق كل ذي علم عليم"، وكل فريق في النهاية سيموت وسيحاسب. فأما أنا فقد غرتني الدنيا قديما وغرني عقلي فأهملت الكثير وتغافلت عن الكثير وعندما جاءت الفرصة... تذكرت أني بشر يخطئ ولديه فرص ذهبية للإصلاح ولن تنفعني آية أقوال تبعدني عن ديني وعن إرضاء الله، لن تستطيع الدنيا محو ذنوبي والشفاعة لي..ولن ينفعني سوى عملي وصلاتي واستغفاري.. فالموت ليس فيه إعادة نظر أو فرص للإصلاح أو أعذار وأكاذيب.. الكل محاسب حتى وإن لم يدرك ذلك قبل فوات الأوان.