مثلت البيئات الأربع التي شكلت معالم الحضارة الإمارتية، متاحفا تفاعلية حية، أثْرت مهرجان الشيخ زايد التراثي 2014 بموسوعات ثقافية وتراثية، نقلت واقعا حيا لحقب تاريخية امتدت لمئات السنين، عبر تجسيدها لكل مظاهر الحياة منذ القدم بأدق تفاصيلها، بروّادها وثقافاتها وتقاليدها وصناعاتها والكثير غيرها، لتشكل بمجملها كنزا حضاريا متنوعا تضعه أمانة أمام الأجيال للحفاظ عليه والاقتداء بمآثر وخصال الآباء والأجداد في صناعة التاريخ. وقد انطلقت فعاليات مهرجان الشيخ زايد التراثي 2014، في وقت سابق من شهر نوفمبر الماضي، وتستمر على مدار 22 يوما، حيث يختتم فعالياته في 12 ديسمبر المقبل. وينعقد مهرجان الشيخ زايد التراثي 2014 تحت رعاية سامية من صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان، رئيس الدولة، حفظه الله، ودعم من الفريق أول سمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، ولي عهد أوظبي، نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة. ويحظى المهرجان بمتابعة سمو الشيخ منصور بن زايد آل نهيان، نائب رئيس مجلس الوزراء، وزير شؤون الرئاسة. البيئة البحرية وأبرزت "البيئة البحرية" معالم الحياة في المناطق الساحلية منذ القدم، التي انعكست واضحة في بيئات وورش تفاعلية، شارك فيها العديد من الحرفيين المهرة في شتى المجالات التي كانت معروفة قديما، علاوة على المتاحف والمعارض وساحة بناء السفن، وغيرها، واستخدمت التقنيات الحديثة بأجمل صورها لجعل الزوار يتفاعلون مع أحداث المهرجان ويشاركون الأجداد القدماء في تفاصيل حياتهم في الصناعة والمأكل والملبس والكثير غيرها. ويعتبر "متحف رائد علم الملاحة العربي الإماراتي أحمد بن ماجد" من أهم المعالم الرئيسية ضمن البيئة البحرية، إذ يعود كبير الفضل في جمع إرثه التاريخي العلمي والثقافي "للمغفور له بإذن الله" الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان "طيب الله ثراه"، لما لهذا العالم من بصمات وضعت الأسس لعلم البحار العربي، وأسهمت في ازدهاره، واستفاد منها الكثير في بلدان العالم الأخرى، وأضاءت ظلمات المحيطات، وأرست مؤلفاته في علم الفلك والبحار قواعد علم الملاحة للعالم. وأسهم اكتشافه لرأس الرجاء الصالح في تحديد وتوسيع مسارات وطرق الملاحة بين البحر الأحمر والخليج العربي وبحر الصين. علاوة على مؤلفاته التي بلغت قرابة ال40 كتابا، وكذلك مخطوطاته، وخرائطه، وأدبياته وأشعاره، وكذلك إختراعاته والتي يأتي على رأسها استحداثه للبوصلة البحرية والتي كان يسميها "الحقة"، وقسّم دائرتها إلى 22 درجة، ومازال يُعمل بها إلى يومنا هذا. حيث قدم موسوعة علمية شكلت في المحصلة كنزاً وفيرا أثرى علوم الفلك والبحار، وعلوم طبقات الأرض، والرياضيات، والفراسة، والإشارة، والتجارة، وكذلك علم النفس والاجتماع، بالإضافة إلى الذائقة الشعرية التي أشارت إليها أراجيزه. أمير البحار وقد لقب البرتغاليون الملاح العربي بن ماجد "بأمير البحار"، ويطلق عليه كذلك "أسد البحار"، وأشاد الكثير من المستشرقين بمؤلفاته وعلومه، حيث عمت شهرته في شتى بقاع بلدان العالم، واستفاد الكثير من الباحثين في علم الفلك والبحار من علومه، ووثقوا الكثير منها، وأثنوا عليها. واستلهم التصميم العام للمتحف من سفينة الملاح أحمد بن ماجد ليتكامل المظهر مع المضمون في أروع صوره، ويمكن للزوار الإطلاع على العروض والشروح التفصيلية لمخطوطاته واختراعاته، من خلال التجوال داخل المتحف، إضافة البيئة التفاعلية للتقنيات الحديثة التي استخدمت للتعريف بشخصية عالم الملاحة أحمد بن ماجد، حيث تم استحداث وسائل عرض بتقنية "الهولوغرام" ثلاثية الأبعاد لتجسيد شخصية الملاح الإمارتي، إذ سيفاجئ الزوار وهو يتحدث عن نفسه، منذ نشأته، وتاريخه، ورحلاته، ومؤلفاته، واختراعاته.. بطريقة شيقة تعكس الواقع. وتشير الوثائق والمخطوطات أن الملاح الإماراتي ولد في بيئة بحرية عام 1421م، حيث نشأ في أسرة اشتهرت آنذاك بالملاحة البحرية، واستفاد من خبرة أبيه وجده في علوم البحار وطورها، وخاض غمار البحار في سن مبكرة، إذ كان في العاشرة من العمر عندما كان يرافق والده في الرحلات البحرية، وعند بلوغه سن السابعة عشر قاد السفينة في أول رحلة بحرية برفقة والده، حيث أمضى حياته بعد ذلك بين البحار والتأليف والإختراعات، وتوفي في سنة 1502م، عن عمر يناهز الثمانين عاماً، وترك رصيداً ثرياً تتناقله الأجيال، وبلغت سمعته أقاصي الأرض. ومن بين أهم مؤلفاته : "الفوائد في علم البحر والقواعد"، "حاوية الاختصار في علوم البحار". صناعة السفن وتبرز "ساحة صناعة السفن" أيضا من بين المعالم الهامة التي أثْرت مكونات البيئة البحرية في موقع المهرجان، حيث سيشهد الزوار بيئة تفاعلية حية لصناعة تقليدية توارثتها الأجيال منذ مئات السنين، إذ إنها تحفل بالكثير من الحرفيين المهرة، الذين يبدعون في صناعة السفن وبالطرق التي تماثل تماماً السفن التي استخدمها الآباء والأجداد منذ القدم. حيث كانت السفن تمثل أهم دعائم الإرث التاريخي والحضاري للمناطق الساحلية، وشكلت الوسيلة الأهم لكسب العيش، والتجارة، والترحال بين دول الجوار، لذلك صنعوها بأشكال وأحجام ومواد مختلفة بحيث تتماشى مع الأهداف التي صنعت من أجلها، فمنها ماهو للصيد، وأخرى يخوضون بها غمار البحر لغرض التجارة أو التواصل مع جيرانهم في المناطق والدول المجاورة. وسيطلع الزوار خلال تجوالهم في ساحة صناعة السفن كذلك، على تصنيع قارب الصيد الصغير، والذي كان يطلق عليه قديماً "الشاشة" وجمعها "شوش"، ويعد هذا القارب إرثاً تاريخياً قديماً، يدل على إبداع الأوائل في الاستفادة من المواد المتاحة في بيئتهم، ورغم صغر حجم هذا القارب إلا أنه يتسع لأربعة صيادين، ويحتاج تصنيعه إلى رجلين وعلى مدار ثلاثة أيام، حيث يصنعه الحرفيون ضمن الورش التفاعلية في الساحة وبالمواد نفسها التي كانت تستخدم قديماً، إذ أنه يصنّع من جريد النخل، بعد إزالة الخوص والأشواك وأي زوائد أخرى، ويترك حتى يجف تماماً، ينقع بعد ذلك بماء البحر ليوم كامل لإكسابه المرونة، حيث سيرصف جريد النخل بعد ذلك بشكل متلاصق عبر تمرير حبل داخل عصي الجريد، بالإضافة إلى شده بالحبال في عدة مواضع للحفاظ على الجريد متلاصق، ثم تثبت جوانب الشاشة وقاعها، وكذلك ظهرها والمصنوع أيضاً من جريد النخل، وله مجدافين من الجريد تربط بحبال إلى جوانب القارب. ومن بين الصناعات المتاحة أمام الزوار في الساحة، وهي كذلك من الصناعات القديمة المتوارثة عن الأجداد القدامى، "صناعة الليخ" وهي التسمية المعروفة قديما لشباك الصيد، وقد كانت تصنع قديماً من خيوط الغزل، ويعمل على حياكتها عدد من الرجال يزيدون أو ينقصون حسب طولها، وتظهر مهارة الحرفيين من خلال الفتحات المتماثلة في الشباك، والتي تختلف كذلك حسب أحجام الأسماك المراد اصطيادها، ويستخدم "الليخ" في الاصطياد عبر وضعه بشكل قائم في قاع البحر حيث يثبت في القاع بواسطة صخور تسمى"بالمسو" تترك مسافة ثلاثة أمتار بين الواحدة والأخرى، وكذلك يتم ربط "الكرب" في الشباك بواسطةالحبال، وهي عبارة عن قطع صغيرة من عصي النخيل بحجم اليد حيث تثبت على مسافة متر ونصف بين الواحدة والأخرى، وتبقى الكرب طافية على وجه الماء، حيث تساعد في تحديد أماكن الشباك وسحبها. كما تتم عمليات الصيانة لليخ بشكل مستمر ، والذي يصل طوله في بعض الأحيان إلى مئتي متر. وتأتي "صناعة القرقور" من بين الصناعات القديمة المتوارثة، وهو عبارة عن قفص كبير مختلف الأحجام، يصنع يدوياً ويستخدم منذ القدم لاصطياد الأسماك سواء في الإمارات أو الخليج العربي، وكان يصنع قديما من جريد النخل، وأما في الوقت الراهن فهو يصنع من أسلاك حديدية على شكل شبك بفتحات متساوية، ويصل طوله إلى متر وربع، وله مدخل مخروطي بفتحتين يضيق في الداخل لمنع هروب الأسماك، ويستخدم القرقور في صيد السمك من خلال إنزاله بواسطة حبل قوي إلى قاع البحر ، ويجذبه بالحبل بعد انتهاء عملية الاصطياد، ويستغرق تصنيع القرقور من يوم إلى يومين. وجاءت مشاركة نادي أبوظبي للرياضات الشراعية واليخوت ب"ركن الشراع" ضمن البيئة البحرية، مميزة جداً، حيث يقدم النادي شروحاً تفصيلية لمختلف نشاطات النادي حول السباقات باليخوت والقوارب الشراعية والتقليدية بالإضافة إلى السرد التاريخي لهذه الرياضة، والأهم من ذلك العروض المختلفة التي يقدمها للتجديف بالقوارب التراثية التي اشتهرت بها دولة الإمارات كجزء هام من ثقافة وحضارة المناطق الساحلية. ويطلع الزوار أيضاً على "معرض أسلحة الصيد" من خلال تجوالهم ضمن موقع "البيئة البحرية"، ويمكنهم مشاهدة آخر الإبداعات والإبتكارات الوطنية الحديثة في مجال أسلحة الصيد بأنواعها وأشكالها المختلفة، وكذلك الذخائر، وكذلك الإطلاع على نوادي الرماية، وخدمات التدريب، وغيرها من المهارات والإبداعات. كما شيّدت "مقهىً" شعبيا على الطراز القديم وتماثل تماماً حال المقاهي في السنين الخوالي، ضمن موقع "البيئة البحرية" وتحضر القهوة، وتقدم للزوار بالطريقة والأدوات التي كانت تستخدم منذ القدم, وتعد المقاهي كذلك من الإرث التاريخي، حيث كان يلتقي فيها الصيادون ضمن المناطق الساحلية. صناعة الملابس وتعتبر الأزياء والملابس والخياطة وتزيين النساء وغيرها من الأمور التي كانت سائدة منذ القدم، من الثقافات التراثية التي تناقلتها الأجيال، ونقلت صورة حية عن الأحوال الاجتماعية والطقوس والمناسبات وغيرها، وحفل موقع البيئة البحرية بالعديد من هذه المكونات لإطلاع الزوار على إرث الأمهات والجدات الذي يزهو ببريقه وألوانه، ومازال موضع فخر الأجيال حتى يومنا هذا. وكانت "خياطة الملابس" إرثاً تقليدياً تتوارثه النساء وتتعلمه من أقرانها، أو ممن كانت أكثرهن احترافية في هذا المجال، حيث كانت المرأة تقوم بحياكة ونسج وخياطة الملابس لها ولزوجها وأولادها، وكذلك كل متطلبات البيت الأخرى، فقد جرت العادة أن تجتمع النساء في باحة بيت إحداهن أو ممن برعت في الخياطة لمزاولة وتعلم هذه الحرفة، ويبدأ ذلك بعد صلاة العصر، حيث يبدأن العمل سواء في الحياكة أو التطريز أو الخياطة بكل دقة وإتقان، ورغم أن الأقمشة والخامات والمواد التي كانت تستخدم تعدّ بسيطة جداً إذا ما قورنت بأيامنا، حيث خيارات جلبها من الدول الأخرى كانت محدودة بأنواعها وألوانها، إلا إنهن أبدعن في صناعة الأثواب والمنسوجات، وتتناقلها الأجيال، ومازال الثوب التقليدي يحظى بقيمة كبيرة، وتتمسك به أمهات وفتيات الإمارت إلى يومنا هذا ويتباهين به، تأكيداً منهن على إنتمائهن وتمسكهن بهويتهن وثقافتهن الوطنية. لقد حفلت البيئة البحرية بتنوع إرثها الحضاري والتاريخي والثقافي والعلمي، ويمكن للزوار الإطلاع على أدق التفاصيل، من خلال المعارض والمتاحف، ومتابعة النشاطات والورش التفاعلية، التي نقلت جميع الحقائق التاريخية التي بقي أكثرها شاهداً على عظمة إنجازات الآباء والأجداد الأوائل. والذين سطروا تاريخاً وإرثاً ثقافياً، ستبقى الأجيال على امتداد الزمن تفخر به، وتعتز بالانتماء إليه.
