«انتحر بالسم و ف جيبه تلاتة جنيه»، لم ينتحر شنقا لأنه لا يملك ثمن الحبل، عندما فكر في مغادرة الحياة لم يستهجن موقفه منها، فما فعلته به الدنيا كارثي بما يكفي، فهو لا يستطيع انقاذ ابنته الراقدة بين أحضان الموت ألما وفقرا، «لا علاج ولا مأكل ولا دولة» هذه هي فكرته عن وطنه الذي قرر أخيرا أن يغادره إلى الملكوت راضيا بنهايته، متوسلا لله ألا يضمه القبر ضمة عذاب لأنه عاشر الوجع في الدنيا مضاعفا. هو لم يتلق تعليما كافيا يجعله يفكر في التحريم الإلهي لإنهاء الوجود الإنساني، ربما يعلم أن هناك عقابا إلهيا لكنه لم يقدره حق قدره، ولم يجد بيتا يلملم ذاك «الخذلان» الذي عنفته به الدنيا، يا للوجع، واقع لا يحتمل وعلاجه في جرعة "سم فئران" بخمسين قرشا فقط، «يابلاش». علماء النفس يقولون إن "الاكتئاب أكثر الأمراض ألمًا"، ونسوا أن الفقر هو أشد "الأمراض" تأثيرا، واحتكار الأغنياء للوطن أكثر أنواع الغربة حقارة، كل "نفساني"، على وزن "فسخاني"، يتحدث من الشاطئ ولم يقترب من اللهب، يتحدث عن ضحية الانتحار كأنما يتحدث عن طفل حطّم دميته، وهو لا يعلم أن التجربة عظيمة تحبس الأنفاس انبهارا، التجربة قاسية لدرجة قدسية تستوجب العذاب الجهنمي. كان الرومانيون، وفق ويكيبيديا، يوافقون كليًا على ما يسمى وفاة "الانتحار الوطني"، كبديلٍ عن العار، بينما كانت الفلسفة الرواقية، جماعة فلسفية نشأت في اليونان، ترى أن الموت هو الضمان للحرية الشخصية وسبيل للتخلص من الوجود الذي لا يحتمل، ظني في تلك الفلسفة ليس رغبة مني في الانتحار، وليس تأييدا مني للفعل المخالف للشرع والدين وارادة الله في الأرض، لكنه محاولة لرسم خارطة التقارب بين عقلية المصري التي رأت في الانتحار حلا لمشاكل "انسانية ووطنية" لا تتحملها الدولة نفسها، أو لا تعيرها انتباها!. المنتحر قد لا يجد ثمن الحبال حقا وصدقا، لينتحر بها شنقا، لذا على الدولة أن تترفق وتوفر لراغبي "الانتحار الحرام" حبالا للمشانق، فأنا أرى أن هذا العدد الكبير من المنتحرين شنقا مارسوا أشد أنواع "الترف" في وطن لا يوفر رفاهية الاختيار بين وسائل "الراحة" إلا للعاهرات. المقال أرهقني نفسيا، خنقني الدمع وارتعشت يدي، وكبلني حديث الفقهاء عن المنتحرين، وأرعبتني خيالات المعلقين على مشانق الحاجة والظروف، فمشاعرهم لن تعبر عنها كلمات ولن ترسمها أحرف، لكن من الممكن أن نبكيهم سويا في مرثاة على الورق، مرثاة «وطن».