تعليم الفيوم يحصد 5 مراكز متقدمة على مستوى الجمهورية فى المسابقة الثقافية    «مصادرة الآلة وإلغاء مادة الضبط».. إحالة 12 طالبًا ب«آداب وأعمال الإسكندرية» للتأديب بسبب الغش (صور)    استقرار سعر الدولار مقابل الجنيه المصري في أول أيام عمل البنوك    أسعار البيض والفراخ فى الأقصر اليوم الأحد 19 مايو 2024    الاحتلال الإسرائيلي يرتكب 9 مجازر في اليوم ال226 للعدوان على غزة    الدفاعات الجوية الروسية تدمر 61 طائرة مسيرة أوكرانية خلال الليلة الماضية    قبل زيارة مستشار الأمن القومي الأمريكي.. مجلس الحرب الإسرائيلي يعقد اجتماعا اليوم    اليوم.. الزمالك يسعى للفوز على نهضة بركان للتتويج بالكونفيدرالية للمرة الثانية في تاريخه    بعد نشرها على «شاومينج».. «التعليم» تكشف حقيقة تداول امتحان اللغة الأجنبية في الإسكندرية    مصرع 6 أشخاص وإصابة 13 آخرين في تصادم أتوبيس على الدائري بشبرا الخيمة    كشف تفاصيل صادمة في جريمة "طفل شبرا الخيمة": تورطه في تكليف سيدة بقتل ابنها وتنفيذ جرائم أخرى    الإثنين المقبل.. إذاعة الحوار الكامل لعادل أمام مع عمرو الليثي بمناسبة عيد ميلاده    دراسة طبية تكشف عن وجود مجموعة فرعية جديدة من متحورات كورونا    ترامب: فنزويلا ستصبح أكثر أمانًا من الولايات المتحدة قريبا    حركة القطارات| 45 دقيقة تأخير بين قليوب والزقازيق والمنصورة.. الأحد 19 مايو    حقيقة فيديو حركات إستعراضية بموكب زفاف بطريق إسماعيلية الصحراوى    ماس كهربائي وراء حريق أكشاك الخضار بشبرا الخيمة    الأهلي ينشر صورا من وصول الفريق إلى مطار القاهرة بعد التعادل السلبي أمام الترجي    الفنان سامح يسري يحتفل بزفاف ابنته ليلى | صور    حظك اليوم وتوقعات برجك 19 مايو 2024.. مفاجأة للجوزاء ونصائح مهمة للسرطان    جانتس يطالب نتنياهو بالالتزام برؤية متفق عليها للصراع في غزة    تعرف على سعر الدولار اليوم في البنوك    ظاهرة عالمية فنية اسمها ..عادل إمام    بأسعار مخفضة.. طرح سلع غذائية جديدة على البطاقات التموينية    انخفاض أسعار الفائدة في البنوك من %27 إلى 23%.. ما حقيقة الأمر؟    خبير اقتصادي: صفقة رأس الحكمة غيرت مسار الاقتصاد المصري    رامي جمال يتصدر تريند "يوتيوب" لهذا السبب    8 مصادر لتمويل الجهاز القومي لتنظيم الاتصالات وفقًا للقانون (تعرف عليهم)    استهداف قوات الاحتلال بعبوة ناسفة خلال اقتحامها بلدة جنوب جنين    الخارجية الروسية: مستقبل العالم بأسرة تحدده زيارة بوتين للصين    القومي للبحوث يوجه 9 نصائح للحماية من الموجة الحارة.. تجنب التدخين    "التنظيم والإدارة" يكشف عدد المتقدمين لمسابقة وظائف معلم مساعد مادة    بوجه شاحب وصوت يملأه الانهيار. من كانت تقصد بسمة وهبة في البث المباشر عبر صفحتها الشخصية؟    الحكم الشرعي لتوريث شقق الإيجار القديم.. دار الإفتاء حسمت الأمر    مدرب نهضة بركان: نستطيع التسجيل في القاهرة مثلما فعل الزمالك بالمغرب    بن حمودة: أشجع الأهلي دائما إلا ضد الترجي.. والشحات الأفضل في النادي    مع استمرار موجة الحر.. الصحة تنبه من مخاطر الإجهاد الحراري وتحذر هذه الفئات    عماد النحاس: وسام أبو علي قدم مجهود متميز.. ولم نشعر بغياب علي معلول    باسم سمرة يكشف عن صور من كواليس شخصيته في فيلم «اللعب مع العيال»    تعزيزات عسكرية مصرية تزامنا مع اجتياح الاحتلال لمدينة رفح    رضا حجازي: التعليم قضية أمن قومي وخط الدفاع الأول عن الوطن    باقي كام يوم على الإجازة؟.. موعد وقفة عرفات وعيد الأضحى 2024    شافها في مقطع إباحي.. تفاصيل اتهام سائق لزوجته بالزنا مع عاطل بكرداسة    "التصنيع الدوائي" تكشف سبب أزمة اختفاء الأدوية في مصر    إجراء من «كاف» ضد اثنين من لاعبي الأهلي عقب مباراة الترجي    وظائف خالية ب وزارة المالية (المستندات والشروط)    رقصة على ضفاف النيل تنتهي بجثة طالب في المياه بالجيزة    أخذتُ ابني الصبي معي في الحج فهل يصح حجُّه؟.. الإفتاء تُجيب    مدافع الترجي: حظوظنا قائمة في التتويج بدوري أبطال أفريقيا أمام الأهلي    دييجو إلياس يتوج ببطولة العالم للاسكواش بعد الفوز على مصطفى عسل    نقيب الصحفيين: قرار الأوقاف بمنع تصوير الجنازات يعتدي على الدستور والقانون    اليوم السابع يحتفى بفيلم رفعت عينى للسما وصناعه المشارك فى مهرجان كان    بذور للأكل للتغلب على حرارة الطقس والوزن الزائد    وزير روسي: التبادلات السياحية مع كوريا الشمالية تكتسب شعبية أكبر    الأزهر يوضح أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة    تعرف علي حكم وشروط الأضحية 2024.. تفاصيل    هل يعني قرار محكمة النقض براءة «أبوتريكة» من دعم الإرهاب؟ (فيديو)    مفتي الجمهورية: يجوز التبرع للمشروعات الوطنية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



سيرة الأزاهرة .. بين رعاية الأعراف وغواية الاعتراف
نشر في محيط يوم 12 - 11 - 2014

يزخر التراث الإنساني بالسير والتراجم التي تنتقل عبر الأجيال حاملة أنباء الذين رحلوا من قبل ،تاركين آثارهم ؛لتعرف الناس بأخبارهم وقصصهم فيجدون فيها العبرة والمثل.
ومن بين هذه المذكرات التاريخية السيرة الذاتية ،وهي أن يسطر المرء بقلمه تاريخ حياته فيسجل حوادثه وأخباره ويسرد أعماله وآثاره ،ويروي قصة حياته من الطفولة حتى الكهولة ،ليقف الناس على ما جاء فيها،ويفيدوا منها.
ويقول الدكتور جونسون الأديب الإنجليزي الشهير:"إن حياة الرجل حين يكتبها بقلمه هي أصدق ما يكتب عنه".
وعلى الرغم من صحة العبارة في ظاهرها ،فإن قوله الرجل لا تسلم على إطلاقها ؛فقد يجنح بعض هؤلاء عند تسجيل مذكراتهم إلى مجاملة النفس وتحسين صورة الذات ،بإطرائها والمبالغة في الثناء عليها على حساب الحقيقة،وقد يجنح آخرون إلى ذم النفس والقدح فيها على حساب الصدق التاريخي.
كما أن السيرة ليست رصداً حرفيا أو تصويراً سينيمائياً لحياة صاحبها وإنما هي إجمال لها في عدد الصفحات،ووقوف على مواطن القيمة التي تدور عليها رحى العظمة في حياة العظماء.
ولما كان العرب الأوائل أحرص الناس على ستر حيواتهم الخاصة فإنهم لم يولوا هذا الضرب من السير كبير عناية،وإنما تركوا الأمر للمؤرخين يصورون الحياة كيف يشاءون،ولم يفكروا في كتابة سيرهم الذاتية إلا نادراً.فقد ترجم ابن سينا الفيلسوف (370- 428ه) لنفسه ترجمة اعتمد عليها تليمذه الجورجاني فيما بعد حين ترجم له.
كتاب الاعتبار
وكتب أسامة بن منقذ (488-584ه) "كتاب الاعتبار"وهو يعد نموذجا عاليا للمذكرات والتراجم الذاتية،وفي القرن نفسه كتب الشاعر عمارة اليمنى(ت.569ه) كتاب"النكت العصرية"،الذي ترجم فيه لنفسه،وترجم لغيره كذلك من الوزراء ورجال الحكم في أخريات العصر الفاطمي وعرّف كذلك ابن خلدون (732-808ه) بنفسه ورحلته شرقا وغرباً.
غير أن هذه الندرة ما لبثت أن أثمرت أعمالاً كثيرة في العصر الحديث،بدأ انتشارها في القرن التاسع العشر،على أيدي رواد عصر النهضة الذين وصلوا حبالهم بالغرب ،فسجلوا لنا حيواتهم فيه،ونقلوا تجاربهم وخبراتهم.
ومن هؤلاء علي باشا مبارك في كتابه "علم الدين"،ورفاعة الطهطاوي في "تخليص الإبريز في تلخيص باريز" ،وكذلك كتاب "الساق على الساق فيما هو الفارياق"لأحمد فارس الشدياق وغيرهم .
واستمر هذا الضرب من الكتابة كتب طه حسين "الأيام "وكتب العقاد"سارة"و" أنا"و"حياة قلم"وكتب المازني "إبراهيم الكاتب"و"إبراهيم الثاني"،وكتب آخرون سيرا كثيرة.
سير الأزاهرة
ولما كانت سير الأزاهرة تمثل فصلا شائقا في هذا الباب فإن هذه الورقة سترصد بعض سيرهم في القديم والحديث،لتبين خصائصها وموضوعاتها وبنيتها والقضايا التي عرضت لها، ودلالة ذلك على تطور المجتمع ،وتغير النظرة إلى السير بمرور الزمن من حيث جرأة الكاتب في الحديث عن نفسه ،ومدى خوضه في تفاصيل خياته الخاصة ،أو اقتصاره على ما رآه مفيداً للناس من ذكر القيم والمبادئ والدعوة إلى الخير.وذلك من خلال النظر في أربع تراجم لبعض كبار الأزاهرة وهي:لطائف المنن والأخلاق في وجوب التحدث بنعمة الله على الإطلاق ،وهو المعروف بالمنن الكبرى للعارف بالله عبد الوهاب الشعراني(898ه_ 973ه).
الحمد لله هذه حياتي ،للإمام عبد الحليم محمود (1910_ 1978).
حياتي في رحاب الأزهر_طالب وأستاذ ووزير ،للدكتور محمد البهي(1905- 1982)
قصتي مع الحياة (هاؤم اقرءوا كتابيه) ، للأستاذ خالد محمد خالد(1920- 1996)
فأما عن الإمام الشعراني فقد كان يخشى أن يصيبه إثم من وراء كتابة سيرته،ويرى حرجا كبيرا في تسجيل حياته ،لما قد يبدو في ذلك من الاعتداد بالنفس ، وما قد يظنه البعض كبرا وفخرا ورياء ، فقد غلب عليه الورع والتحرج من الآثام.ويمكن للمرء أن يستشف ذلك من طبيعة بنية عنوان سيرته الذاتية.
فإن العنوان لم يكشف أن الكتاب سرد لقصة حياته ومواقفه ومناقبه، وإنما جعله من التحدث بنعمة الله عليه ،وذكر المنن والأخلاق ،والميل إلى الوعظ والإرشاد ، ورغم أن العنوان ضارب في الجانب الشرعي وأمور الدين فإن الشيخ ما لبث ينفي عن نفسه شبهة الغرور ،أو تزكية النفس ، وأخذ يقيم الحجج لتبرئة نفسه مما قد يعرض من الشبهات.
فهو يعلن أن هذه السيرة إنما هي جملة من النعم والأخلاق تفضل بها عليه،وأن الباعث على كتابتها هو أن يقتدي به الناس فيها وأن يتخلقوا بها.وأن يكون كتابه هذا شكراً لله متصلاً بعد موته.
ثم إنه يريد أن يقف أهل عصره على درجته في العلم والعمل؛حتى يقتدوا به،وحتى يستغنى بهذا الكتاب من أراد من الناس أن يبحث عن مناقبه وأن يتتبعها؛وذلك لأن ما قد يجمعوه من أخبار ه عن الثقات لا يبلغ ما يذكره الإنسان عن نفسه ، إذا كان صادقا.
الظن لا اليقين
فإن ما يحكيه الإنسان عن غيره إنما هو الظن لا اليقين ، ويعضد الشعراني كلامه بقول للشيخ محيي الدين بن عربي،يقول :"ليس فوق مرتبة من يزكي نفسه إذا كان صادقا إلا مرتبة من زكاه الله تعالى".
ويبدو أن الإمام الشعراني لم يكن وحده في الرمى نحو هذا الهدف من كتابة سيرته،فقد كان حمد الله وبيان فضله سمة عامة عند كتاب السيرة في ذلك الزمان، وذلك أن جلال الدين السيوطي كتب سيرته الذاتية كذلك متحرجا منها ؛فاتخذ لها عنوانا ربانيا :"التحدث بنعمة الله"،ويؤكد في بدايتها في حديث ديني خالص،أن التحدث بنعمة الله مطلوب شرعا لقوله تعالى:"وأما بنعمة ربك فحدث"وأورد في هذا الشأن عدة أحاديث نبوية تحث على التحدث بنعمة الله شكرا،وتحذر ضمنا- من التحدث بها استطالة وتكبراً.فالشكر يقتضي الزيادة ،لقوله تعالى:"لئن شكرتم لأزيدنكم".
ولما بلغ الحرج وخشية الإثم من كتابة السيرة مبلغا عظيما ،وكان شيوخ ذلك الزمان يرون في تسجيل حياتهم فائدة جمة،،فقد أخذوا يلحون في تبرير كتابتها،فعلى الرغم مما أوردوه في مستهل سيرهم من أدلة نقلية وعقلية كثيرة تجيز التحدث عن النفس،فإن نفوسهم لم تزل تتراءى لها شبهة الإثم والتكبر والرياء ،وتخشى أن تقع في المحظور ،فعمد الشعراني ،ومن قبله السيوطي،إلى إيراد أسماء طائفة من العلماء الفضلاء الذين سبقوهم إلى الكتابة عن أنفسهم دون أن يقدح ذلك في أشخاصهم،وإنما كانت لهم في ذلك مقاصد حميدة كالتحدث بنعمة الله،والتعريف بأحوالهم ليقتدى بهم فيها ويفيد منها من لا يعرفها،ويعتمد عليها من أراد ذكرهم في تاريخ أو طبقات.ومن هؤلاء الإمام عبد الغافر الفارسي(451- 529ه) أحد حفاظ الحديث،والعماد الأصفهاني(519- 597ه) وياقوت الحموى (574- 626ه)ولسان الدين الخطيب(713- 776ه) وابن حجر(773- 852ه) وغيرهم.
يذكر الشعراني هؤلاء العلماء ممن سطروا سيرهم بأيديهم وكأنما يدفع بذكرهم عن نفسه،إذ يسير على نهجهم،شبهة الكبر أو الفخر أو الرياء.وذكر معهم السيوطي الذي ترجم لنفسه بيده في كثير من كتبه،وعلل حديثه عن نفسه بأنه تحدث بنعمة الله،وليس افتخارا على الأقرانولا طلبا للدنيا ومناصبها وجاهها.
ثم إن الإمام الشعراني بعد كل هذه الاحتياطات وتوقى المحاذير ،وكأن شبهة لم تزل تزايله،فأخذ يحذر القارئ من أن يبادر إلى الإنكار على هؤلاء العلماء أو عليه هو نفسه في ذكر مناقبه وأخلاقه في هذا الكتاب وغيره؛بحجة أن ذلك ليس من الأدب.
فهذا الإنكار عند الشعراني من الجهل وسوء الظن بالعلماء والعارفين،ولواجب على القارئ أن يحمل القوم على المحامل الحسنة كنحو أنهم ما ذكروا لإخوانهم شيئا من مناقبهم وأحوالهم إلا ليقتدوا بهم فيها ،فهذا هو اللائق بمقام العلماء.ويحض الشعراني على أن يذكرالناس كمالاتهم مااستطاعوا وألا يكثروا من ذكر نقائصهم،فإن ذلك من الشكر لله .
وأن ما يربحه المرء من جهة نظره إلى عيوبه يخسره من جهة تعاميه عن محاسنه التي جعلها الله فيه.وأن نبي الله يوسف "قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم"،قالها ولم ير أحد في ذلك تزكية للنفس أو فخرا أو رياء أو شبهة لإثم.
ثم يدلف الشعراي بعد ذلك إلى ذكر نسبه،وطول حديثه عن كريم الأخلاق وجميل الفعال،ويذكر من مواقفه ومناقبه أمثلة تؤيد الخلق موضوع الحديث.
الحمد لله هذه حياتي
وتمر القرون بالأزاهرة ،لنصل إلى العصر الحديث،فنجد أن حدة الخشية من إثم كتابة السيرة والتحدث عن الذات، تلك البادية في القرون الأولى،قد بدأت تخفت شيئا فشيئا،فيكتب الإمام محمد عبده مذكراته بناء على طلب بعض من عرف من علماء الغرب.
ونجد الشيخ الأكبر الدكتور عبد الحليم محمود لا يتحرج من أن يذكر في عنوان سيرته الذاتية أن هذا الكتاب هو قصة حياته ،غير أنه لاينسى العرف القديم الذي لحظناه جليا عند السيوطي والشعراني ،فضمّن عنوان سيرته حمد لله :"الحمد لله هذه حياتي".
ثم بدأ الكتاب بفصل "عن الحمد" وذكر أن هذا الكتاب سرد لحياته ،يسير معهافي تتابعها،وهو ليس سردا لحياته المادية فحسب وإنما هو تاريخ لحياته الفكرية،وتسجيل لخواطر مرّت به أثناء الكتابة،وهو محاولة لبيان بعض ما أشكل من آرائه وكتبه الماضية.فالكتاب قصة فكر قبل أن يكون قصة حياة يعيد فيه تقييم حياته عسى أن يجد الناس فيها ما ينفعهم أو يكون لهم مصدراً للتأمل والتفكير.
يحدثنا الإمام عن نشأته وحياته الأولى حديثا غير تقليدي؛يتفق وطبيعة الحمد التي بدأ به،فيذكر أنه ولد صحيحاً معافى من التشويه الجسدي ، ثم يجنح إلى شيء من الاعتراف ،فيقول إنه لم يكن حاد الذكاء،وقد أورثه ذلك عجزاً عن فهم ما كان يدبر له من مكر ومكائد من ذوي النفوس المريضة.وقد أورثه ما وجده من خبث الناس اشمئزازاً من الذين أقاموا حياتهم على المكر والمؤامرات،وأنه لم يدبر مكراً لأحد في حياته،وأنه لم يدبر مكراً لأحد في حياته، وأنه كان واضحاً بواحاً، وأنه وإن كان غير حاد الذكاء فإنه لم يكن بليداً،بل كان ترتيبه في الدراسة دائما ً في أوائل المتوسطين .ويمضي الشيخ فيذكر قصة أيامه في الأزهر ،ويربطها بالأحوال السياسية العامة كعودة سعد باشا من منفاه وخروج القاهرة كلها لاستقباله،وإضراب طلاب الأزهر،ويذكر علاقته بالصحافة وآراءه في الصحف، ويعلن عن افتتانه بالأزهر وشيوخه في قولة يرويها عن أحد المفكرين الغربيين يقول :"إن جدران الأزهر ،وجو الأزهر كل ذلك مشبع بالعلم منذ مئات السنين".
ثم يذكر سفره إلى فرنسا ويدون ملاحظاته بها، فيوصى بمنع الفتيات من السفر للدراسة بأوروبا خشية الإنزلاق في منحدر الجنس والخطيئة ، ويذكر حصوله على الدكتوراه في التصرف الإسلامي ، والتقاءه في مصر بعد عودته بالمفكر الفرنسي الكبير الذي أسلم عبد الواحد يحيى "رينيه جينو" ويتحدث كذلك عن جهاده في مقاومة الغزو الفكري والتصير.
حياتي في رحاب الأزهر
وإذا كان الدكتور عبد الحليم محمود قد حصل على الدكتوراه من جامعة السربون بفرنسا فإن الدكتور محمد البهي وزير الأوقاف قد حصل على الدكتوراه من جامعة هامبورج الألمانية.ويرى لناقصة حياته قبل سفره وبعده في كتابه "حياتي في رحاب الأزهر- طالب..وأستاذ.. ووزير" وقد بلغ حد الاعتراف، ومزج الشخصي بالعام في سيرته مبلغا عظيماً.حتى إنه راح يكشف بعض سوءات المجتمع وأدوائه وسريان الحقد والضغينة بين أهله.
سيرته التقليدية الأولى
فبعد أن يحكي سيرته التقليدية الأولى من القرية إلى دسوق ومنها إلى الإسكندرية ثم إلى الأزهر بالقاهرة،يتحدث عن استعداده للسفر إلى ألمانيا ،وأنه حين أذن له بالدخول على الملك فؤاد للقائه قبل السفر،راقته حكمة الملك في التفكير ولباقته في الحديث،وسعد بتشجيعه له على تحصيل اللغات والمعارف ، وأوجز الملك رأيه في ألمانيا بقوله :"إن الحياة في الشارع والمصنع في ألمانيا تعبر عن المعرفة في جامعاتها"،ونصحه بالجمع بين تحصيل العلم والحرص على المشاهدة .وعلى العكس من هذا الموقف المشجع من ملك البلاد كان موقف شيخ الأزهر الشيخ محمد الأحمدي الظواهري،فقد توجه إليه الدكتور محمد البهى قبل سفره لتحيته،وكان في مصيفه في الإسكندرية ،فظن الشيخ أن اللقاء لقضاء حاجة،فأعلن أنه لا يوافق على سفر المتخرجين في الأزهر إلى الجامعات الأوروبية ،لأنهم سيتعلمون الإلحاد هناك والفساد ،ثم أخبره بأن من يعود من هؤلاء المتخرجين إلى مصر ،فلا عمل لهم في الأزهر ولا مكان لهم بين علمائه.
وكثيرا ما تنحو سيرة الرجل منحى شخصيا،فهو لا يتحرج أن يقول إنه حين ركب السفينة اعتراه دوار البحر فذهب مسرعا إلى الكابينة وتقيأ هناك ووضع نفسه على السرير حتى الصباح.ولما وصل برلين أعيته اللغة في التواصل مع الألمان،إذ لم يكن يعرف لغة أجنبية على الإطلاق.وكان مكتب البعثات المصرية في برلين قد أرسلت إليه برقية عاجلة تطلب منه لقاء البعوثين اجدد عند وصولهم إلى برلين ،غير أن المكتب لم يفعل شيئا .لقد ساء ذلك الدكتور البهى ،ومازال يسوء المبعوثين حتى اليوم،فإن المكاتب الرسمية للحومة المصرية في الخارج كما يقرر البهى تهمل إهمالا شديدا في حق المصريين القادمين،وهو يجزم بأن المصالح الخاصة من تغيير النقود والبيع والشراء والتفتيش عن المتعة والملذات هي الهدف الأول والأخير لمن يسمون برجال السلك الدبلوماسي المصري،وهو هدف كل المكاتب الملحقة بالسفارات المصرية.
وإذا ما شغل هؤلاء أنفسهم بشئ ،فإنما يشغلونها بتتبع المصريين الذين يزورون البلاد الأجنبية ويتحسسون أخبارهم في أعقاب الثورة المصرية.
ثم يروي قصة أيامه في ألمانيا ،وماعاناه من حقد زملائه عليه بعد رجوعه ،وإشاعتهم عنه ما يسوء بين الطلاب ، ويروي ما كان من فساد وزارة التموين التي أصبح الخبز الأبيض فيها خرافة.وانتشار فتيات الليل في البلاد.وإقالة الملك فاروق الشيخ عبد المجيد سليم من مشيخة الأزهر، بسبب ما أفتى به من تحريم مراقصة الرجل للمرأة الأجنبية.
وكان الملك فاروق قد بلغه أنه المعنى بهذه الفتوى؛إذ كان يتردد على محل عام في شارع الهرم يسمى "الأوبرج".فعين الشيخ إبراهيم حمروش شيخاً للأزهر بدلا منه ،ثم أعيد الشيخ عبد المجيد سليم مرة أخرى بعد ثورة يوليو1952.
وإذا كان العلماء القدامى على عظم قدرهم يتحرجون ويتأثمون من كتابة سيرهم كما سبق البيان ،ويسوقون الحجج والبراهين التي تسوغ لهم هذا الصنيع فإن للمعاصرين رأيا آخر، فهذا هو جلال أمين ،وإن لم يكن أزهريا ،يؤكد في مقدمة سيرته الذاتية "ماذا علمتني الحياة"أن كاتب السيرة الذاتية لا يحتاج إلى البحث عن تبرير لكتابتها،ولا يحتاج إلى أن يكون شخصا عظيما أو سياسيا خيرا ،أو أن يكون قد قابل في حياته بعض الكبرياء والمشهورين ،أو أن يكون كاتبا مرموقاً أو فنانا موهوبا ؛فكل منا إنسان متميز،ولديه في مسيرة حياته ما يستحق أن يروى.
الميل إلى الاعتراف
وإذا كان الميل إلى الاعتراف قد أخذ يزيد تدريجيا ،في سيرة الأزاهرة ،فإن تلك الخشية الشديدة للإثم التي لاحظناها في سيرة الشعراني والسيوطي من قبله،قد بلغا في العصر الحديث درجة من البوح والاعتراف لا حد لها .وذلك في سيرة الأستاذ خالد محمد خالد.
لقد بدأ سيرته بالتعريف بأولاده،ثم عدّد مؤلفاته،وذكر أصدقاءه،وأطباءه،وعلاقته ببعض قرائه وذكر إجازاته العلمية،وبين علاقته بعالم الصحافة.ثم نعى على الذين يجاملون أنفسهم في كتابة سيرهم على حساب الحقيقة.فهو يرى أن هذه المذكرات والسير إنما هي ذاكرة التاريخ ،وكل غش وكذب وزيف يقحم على هذه الذاكرة يصيب الحياة الإنسانية بشر عظيم.ومن ثم فإن كاتب مذكراته شاهد على حياته؛فإن صدق كان شاهد عدل،وإن كذب كان شاهد زور.
ولم تكن كلمات خالد محمد خالد هذه إلا تمهيدا لرغبته الجامحة في البوح والاعتراف، والابتعاد عن التجمل الكاذب ، ومن الجدير بالملاحظة أنه ألصق بالعنوان الأصلي لسيرته"قصتي مع الحياة"عنواناً آخر فرعيا هو قوله تعالى :"هاؤم اقرءوا كتابيه"،وكأن هذه السيرة هي صحيفة أعماله وكتابه الذي يخرج يوم القيامة يلقاه منشورا،لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها،حسنت أو قبحت.ثم إنه يوحى،وفقا لهذا الاقتباس القرآني،بمباهاته بسيرته واستبشاره بها،وكأنها بكل ما حوته من أعمال واعترافات ،لم تشبها شائبة إثم وأنها كلها تحسب له لا عليه.فيذكر مولده ونشأته وبلوغه سن الرشد، ويعترف أنه صادق في شغف متنام مع الأيام ما يسمى ب"العادة السرية" وأنها استقطبته واستحوذت عليه شيئاً فشيئاً،وأنه وجد لها في سن المراهقة سحراً لا يقاوم.
وهكذا تتنوع سير الأزاهرة في القديم والحديث من حيث طبيعة القضايا التي تعرض لها،ومن حيث ترددها بين العام والخاص،وكذلك من حيث خشية الإثم والولع بالبوح والاعتراف،كل ذلك وفقا لطبيعة العصر وأعراف المجتمع.وإن هذه الورقات إلا إشارة يسيرة تفتح الباب لمزيد من القول في هذا الباب.
نقلا عن مجلة الثقافة الجديدة
اقرأ فى الملف " الأزهر المرجعية.. القيمة والقدوة"
* «الشعراوي».. فسَّر القرآن.. وعارض الرؤساء.. واعتُقل وهو طالبًا
* محمد الغزالي..عالم موسوعي وداعية يواجه المادية والإلحاد
* «عبد المجيد سليم».. شيخ الأزهر الذي لا يخشي السلطان
* بكري الصدفي .. المفتي الذي رفض إعدا مقاتل «بطرس غالي»
* حسن الشافعي .. الشيخ الذي اتفق على حُبه الجميع
* أسامة الأزهري.. علم غزير ومستقبل واعد
* خبيران: مصر في «ورطة» ونحتاج علماء لطرح الإسلام الوسطي
** بداية الملف


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.