الطبيعة تسبح مع أوراد الشيخ في بلدة العثمانية التحديث حين يطل على بدو الصحراء كشبح يهدم صرح الذكريات من "تحدث في الحكومة" ذهب وراء الشمس! .. حكمة عربية سر ضريح الشيخ الذي افتدى بلدته من بطش السلطان مسجد مضيء .. بيوت موحشة .. وأبطال بدلتهم أقدارهم "حين لا يبقى شيء من الماضي، وبعد فناء الأشخاص وتحطم الأشياء وتبعثرها، تبقى الروائح والمذاقات بعدها ترفرف كالأرواح لمدة طويلة، حاملة بمرونة داخل قطرات جوهرها المتناهية الصغر صرح الذاكرة الهائل" .. ربما تلك الذكريات البعيدة عن سكان بلدة العثمانية بشبه الجزيرة العربية، هي التي خاض الروائي السعودي عبدالله الوصالي تخومها في رائعته "أقدار البلدة الطيبة" ، مستدعيا ما كتبه سلفه مارسيل بروست الروائي العالمي . هل يمكن أن يصوغ الأديب مصائر الآخرين حين يكتب عن أشباههم في روايته؟ يتساءل الكاتب، فقد جرى ذلك فعلا في الواقع معه، وكاد جسده ينتفض ، ولكنه فضل الذهاب بباقتين من الورود لصديقين في قبريهما ، حيث الزهور هي اللون الوحيد النابض بالحياة والذي يمكن أن تدركه الأرواح الهائمة في فضاء المقبرة الكاتب يتمسك بكل ما هو إنساني يلتقطه في زحام الأحداث اليومية أو أيام الأجداد في أوائل القرن العشرين، ويمتلك ببراعة ناصية اللغة ، تأتيه المفردات التراثية عذبة بلا تكلف تتجول رشيقة بين ثقافات زمنية ومكانية رحبة ، كما يبدو احتكاكه العميق بالتراث العربي والإسلامي .. سنذهب لشيخ العثمانية ، سليل القائمين على الوقف العثماني وراعي قريته، وهو يتلو ورده في خشوع وقت السحر بينما يجلس في باحة المسجد يتنفس عطر زهور ويستمع ارتعاشات سعفات النخيل وصوت فرار هوام أرضية كانت تسترق السمع .. يجاهد في مناجاته لله ليمنع نفسه من تذكر أحداث "الجار المؤذ" والذي استتبعه انفلات الأمن وسفك الدماء وفساد عظيم منذ بسطت الخلافة سلطانها على المنطقة وما حولها لقرون .. لقد نما إلى علمه أن سلطانا مهيبا قادما من الوسط لاستعادة ملك أجداده من جزيرة العرب، أراد أن يخضع البدو المتمردين على دفع إتاوة الجهاد التي يفرضها على كل من لا يستجيب لنداء القتال إلى جانبه . فكر الرجل في أن يستقبل السلطان الغازي ليحل عليه ضيفا، رغم أنه يعلم أن " مصاحب السلطان كراكب الأسد، الناس تحسده وهو أعلم بموضعه " . وبصحبة الشيخ سنتعرف على الفارس "التميمي" شيخ قوي الشكيمة يكاد يكون مصدر الإفتاء الوحيد بالقرية، وتنشأ راحة متبادلة بين الشيخ والسلطان تمهد لسماح الأخير لأهالي العثمانية بأن يحافظوا على حيادهم التاريخي، خاصة وأنهم ليس لهم ثأر مع غيرهم ، نظير دفع الفدية للسلطان وحمايتهم ، وسمى من وقتها بعام الفدية، ولم يكن له ثمة عيب سوى أن وصم أبناء العثمانية بالجبن من بعده . وتتناول الرواية مقطعين زمنيين دالين على أثر الانفتاح الاقتصادي على المنطقة العربية ككل، وشبه الجزيرة بشكل أخص، فترى تصوير لبدايات القرن العشرين حيث جيل الآباء، ثم حقبة الستينات حيث جيل الأبناء . أما المكان فيحتل مساحة بارزة من الرواية، فالعثمانية التي كانت شامة خضراء في مفازة من الرمال، سكنها أهل البادية، وبنوا دور أعيانهم الشاسعة قريبا من مسجدها الضخم وبستانها.. وهي بقعة كيان يقع إلى الجنوب من شرق جزيرة العرب، وقيل أن أول من بنا مسجدها وأوقف بستانها ومقبرتها لزوجته التي قضت نحبها على يد جمل أهوج، وكان رجلا تقيا سخيا يدعى عثمان. أزقة العثمانية تشبه جهاز الإنسان الهضمي، لها فم ومريء وساحة فسيحة يلعب فيها الأطفال، هؤلاء الذين يستدلون على الوقت بالشمس، كما الطير تماما . سنجد بين أبطال الرواية نماذج متنوعة، فهناك "رشدي" ذلك المعلم المتغطرس القادم من مصر والذي يبث الرعب بنفوس طلابه البسطاء، أما البطل الراوي فهو "سمير" ، وهو لا يتحدث كثيرا عن نفسه، بقدر ما يراقب تصاريف القدر في رفاقه، بعضهم ك "محسن" متمرد يترك الدراسة رفضا لقيود صارمة تفرضها عليه، ويصطحب معه كلبيه "سويد " و"حمرين" ثم يصطاده مسن يدعى "الحنطي" ويعيشان حياة بائسة بين المقابر ، يخبرون فيها السرقة والقتال وما سواها من معارك تفتعل مع أبناء البادية . "فريد" الذي سيغير اسمه تبرؤا من ماض يريد نسيانه في العثمانية، سيندرج بجامعة حكومية خارج بلدته، لقد ظل معتقدا أن أبيه هو الرجل المهيب ذو البزة العسكرية الأنيقة في صورة تعلو حائط حجرته، لكنه وبعد أن عاد الأب من سفره البعيد سيصدم بأن أبيه كان معتقلا لأنه "تكلم في السياسة" .. لقد اعتقل والد فريد في ليل بهيم 1964م ، ضمن اعتقالات السلطة ضد أتباع القوميين الناصريين، لقد علا آنذاك صوت بعض المتعلمين ضد الأوضاع السائدة، لكن الحزم الذي جوبهوا به كان صارما .. ولطالما حلم "سمير" بأبي صاحبه ينشد : السجن قارض للأعمار ، يوقف نهر الحياة ويسمح للأجساد أن تشيخ، سره البغيض يكمن في تشابه أوقاته، فالاعتياد ألم" تلقي الرواية الضوء على الخوف التقليدي لدى أبناء البدو من أي بادرة للتحديث والتغيير، فقد عزمت السلطة على بناء طرق جديدة وشبكات للصرف، وكان ذلك يعني بالنسبة لأهل العثمانية إما نهب الثروات البترولية الكائنة بباطن الأرض أو إجبارهم على ترك ديارهم التي طالما سكنوها. ويعبر "الوصالي" عن تلك الفجيعة في قطع النخلات الممتدة بجذورها لعمق الأرض، وتأثير ذلك على أطفال العثمانية الذين طالما سمعوا أجدادهم يقولون أن النخلة تصرخ حين تهوي داعية على قاتلها بالويل! لكن البيئة في العثمانية بدأت بالفعل في الفساد بفضل سوء شبكات الصرف عموما، ما أدى لحالة غزو شاملة للفئران الكبيرة لكل شبر بالقرية الوديعة، وزحفت المياه الملوثة بدورها لكل المباني، ما استلزم تنظيف البئر العميقة التي تذهب بالماء المتجمع إلى باطن الأرض، وكان ذلك سبب رحيل اثنين من رجال البلدة، بينهما والد الطفل فيصل الذي مات غرقا في مياه الصرف الآسنة التي تبعث رائحة الحمأ الداكن، وكان يحلم أن يكون غواصا كوالده يصطاد اللؤلؤ ؛ لكن الزمن كان لحلمه بالمرصاد ، خاصة وأنه رغم عوزه كان يستحيي من سؤال شيخ المسجد عن إمكانية أخذ نصيبه من مال التثمين ومشروعات الحكومة ، في حين أن الشيخ يؤكد مرارا أن الطمع في مال الدنيا مقيت! بالطبع ، تتجول الرواية بين تقاليد تلك المجتمعات من تبرك بأولياء الله، حتى الدجال منهم، والخوف من الاقتراب من ضريح الشيخ القائم بعدما توفي حتى أنهم بنوا جدار سميكا يمنع السلطان من معرفة أسراره .. وبعد ثلاثة عقود ، وحين يكون "سمير" في طريقه لعيادة صديق الطفولة "محسن" لشدة مرضه، يبرق شريط الذكريات ، ويروي "محسن" حكاية "الحنطي" الذي سرق اثنان من اللصوص نعزته، وكان بالسوق يتكسب ببيع اللبن، وسيكتشف أن أحدهما شقيق محبوبته الرائعة "جهير" والتي حلمت معه يوما في أن تستحم بمياه العثمانية وتطرز شعرها بورق الريحان والورد الأحمر! .. ضاع الحلم وتحول الحنطي لشخص قاس يمتهن هو نفسه السرقة والإكراه، حتى أنه ذات يوم سيحاول قتل ذراعه الأيمن "محسن" .. لم تكن تلك الحكايات من باب التندر، فقد وعاها سمير برعشة ووجل، ولم لا ، وهؤلاء : محسن والحنطي، شكلا له في عالم الطفولة نماذج التمرد على التقاليد الصارمة القاسية .. سيرحل "محسن" بسرطان الكبد، والذي ربما ساقته إليه حادثة وقعت بالطفولة حين كانوا يلعبون بقرب المستشفى فوخزته إحدى الإبر الملوثة هناك .. لماذا حين نكبر تتولد لدينا رغبة في البحث عن الحكايات الناقصة ؟ تلح الذكرى الآن على الراوي بصورة أكثر حدة، سيرى في عزاء صديقه، ثالثهما : فيصل، والذي امتهن التجارة وصار ميسورا ولكنه لم يكمل تعليمه .. لم يخبره أحد بأن أباه مات ميتة بشعة في مصرف مسموم، برغم أن البئر كان يستعد للردم ضمن أعمال الطريق الجديد .. أما ابنه فكاد يموت عند مقبرة الشيخ أو ضريحه بمعنى أدق .. سيتذكر الراوي أيضا قوانين بلدته الظالمة التي أجبرته على الزواج ممن لا يحب .. حين يسير "سمير" بين طرق بلدته القديمة، تصادفه بيوتها الموحشة بلا أبواب وشابيبكها دون درف أشبه بأفواه تجمدت في لحظة صراخ ولى في الفضاء، تماما كالهاويات من النخيل في ذلك الزمن .. سيقترب من المسجد كان صحن المسجد على نفس اتساعه منورا بأنوار بيضاء على ضوئها تظهر زخات المطر الساقط من السماء، وقد لاحظ العبث بالجدار الجنوبي السميك المغلف للضريح!!، ورأى المصلين في الرواق المسقوف يخشعون رغم المطر .. عاد سمير في اليوم الذي شم فيه الرائحة الزكية القديمة .. سيرى بينهم فريد بلحيته الطويلة وشماغه الذي يذكر بأجداده من بيت القائم العريق ذوي البشرة البيضاء .. ثم ينظر لعبارة أثيرة مكتوبة بالجص "يهب المقدس كنوزه إلا لمن يؤمن به " .. * الرواية صدرت عن دار "كفاح" للنشر والتوزيع، وأهداها صاحبها لتلك الأرواح التي ترفعنا ليبصرنا الأخرون ، ويخص صديقه الكاتب أنور علي . أما المؤلف عبدالله الوصالي، فهو أديب وناقد، إلى جانبه كونه مشرفا طبيا، ونائبا سابقا لرئيس نادي المنطقة الشرقية الأدبي. وقع الاختيار عليه مؤخرا للاشتراك ببرنامج الكتابة العالمي بجامعة "ايوا" الأمريكية، وله مجموعات قصصية وروايات بينها "بمقدار سمك قدم" ، "وميض الأزمنة المتربة" وجميعها تعكس الرغبة في جمع الأصالة والمعاصرة ونبذ القيم المتخلفة بالمجتمع.