الليبرالية بين التوحش والتوازن د. علي الدين هلال تعتبر قضية حدود العلاقة بين إطلاق الحريات الاقتصادية من ناحية ومدي تدخل الدولة لتنظيم الحياة الاقتصادية من ناحية أخري, من الموضوعات المثيرة للجدل الفكري والخلاف السياسي في الدول التي تمر بمرحلة الانتقال الي الاقتصاد الحر, فإطلاق الحريات الاقتصادية يوجد المناخ المناسب للاستثمار والمبادرات الفردية ولكنه يقود بالضرورة الي تفاوتات كبيرة بين الطبقات في الدخول والثروات, أما تدخل الدولة فهو ضروري لتحقيق التوازن الاجتماعي وتطبيق القواعد التي تضمن توزيعا عادلا لعائد النمو, ولكن هذا التدخل قد يؤدي الي تعويق التراكم الرأسمالي المطلوب لاستمرار هذا النمو اذا اتسم هذا التدخل بعدم الكفاءة أو عدم النزاهة, وهذه القضية هي جوهر عديد من المناقشات الصاخبة التي تحدث في مصر وكان آخرها حول موضوع الضريبة العقارية. ويدور الجدل تحديدا حول العلاقة بين الحرية المتوحشة والتوازن الاجتماعي في الفكر الليبرالي, فغلاة المدافعين عن الليبرالية يؤكدون أن الحرية هي القيمة العليا والرئيسية في المجتمع البشري, وان اطلاق الحريات في سائر المجالات يمثل أحد ملامح المشهد العالمي الراهن وحقائقه, وفي مواجهة ذلك, برز رأي آخر عبر عنه المفكر الاقتصادي المصري د. رمزي زكي في كتاب له بعنوان الليبرالية المتوحشة وجوهره أن التحرر الاقتصادي يؤدي الي تعميق الفجوة بين قمة الهرم الاجتماعي وقاعدته, بحيث يصبح مجمل النشاط الاقتصادي موجها لخدمة أولئك الذين يمتلكون قوة شرائية ذات شأن, وفي الحقيقة, فإن هذا الخلاف ظهر عبر تطور الأفكار الليبرالية في القرون الثلاثة الأخيرة. ومن المهم أن نتذكر أنه لا توجد نظرية متكاملة عن الليبرالية قام بصياغتها مفكر أو فيلسوف بعينه, ولكن تعبير الليبرالية يشير الي مجموعة متراكمة من الأفكار التي بلورها مجموعة من المفكرين في انجلترا وفرنسا وألمانيا والولايات المتحدة في الفترة ما بين القرنين السابع عشر والعشرين, وتنهض الفكرة الليبرالية علي مفهوم الحرية وأكد المفكرون الليبراليون الحقوق والحريات المدنية مثل حريات الملكية والفكر والتعبير والاجتماع, ودافعوا عن تلك الحريات باعتبارها جزءا من الحقوق الطبيعية للبشر ووصف الفيلسوف الانجليزي الشهير جون لوك حق الملكية بأنه من الحقوق اللصيقةب إنسانية الإنسان. ومن الناحية التاريخية تطورت هذه الأفكار في ارتباط وثيق مع تطور النظام الرأسمالي ونمو الطبقة البرجوازية ونشوء الدولة الوطنية الحديثة, وفي هذه الفترة, تم التركيز علي اطلاق الطاقات الفردية وهو ما أوجزه آدم سميث في تعبيره الشهير دعه يعمل دعه يمر, وكان من المفترض أن اطلاق الحريات سوف يؤدي الي تعظيم المنافع الفردية واتاحة أكبر قدر من حرية الاختيار, وان ذلك سوف يحقق المساواة بين البشر لأن جميع الأفراد لهم حق التمتع بكل الحريات, وهو الأمر الذي يؤدي الي تحقيق الاستقرار الاجتماعي والسياسي. ولكن الممارسة كشفت عن جوانب قصور جسيمة في هذا البناء الفكري, فعلي سبيل المثال, فإن كفالة الحريات لكل الأفراد لم تعن بالضرورة قدراتهم المتساوية علي التمتع بها, فكل حرية من تلك الحريات تتضمن من ناحية جانب الحق الذي كفله القانون والدستور, وجانب القدرة التي تحددها الظروف الاجتماعية والاقتصادية, وفي كل مجتمع, كم هناك من حريات نص عليها القانون ولكن لم يتمتع بها فعلا إلا تلك المجموعة المحدودة التي امتلكت القدرات اللازمة لذلك, فعندما تنشر الصحف اعلانات عن فتح الباب للتقدم لحجز فيلات أو شاليهات في هذا المنتجع أو ذاك, وعندما تعلن احدي الشركات السياحية عن تنظيمها لرحلات للسفر للخارج, من الناحية النظرية لكل مصري الحق في الشراء أو المشاركة, ولكن ممارسة هذا الحق عمليا تحدده القدرة الاقتصادية لكل فرد. كذلك تعرض مفهوم حرية الاختيار لسهام النقد علي يد عدد من المفكرين كان منهم هربرت ماركوز الذي كتب عن تضييق العالم السياسي وتقييد حدود الاختيار وذلك بفعل التقدم الهائل في مجال الاعلام والاعلانات التجارية ودورها في التأثير علي أذواق البشر ونمط احتياجاتهم واختياراتهم وترتب علي ذلك شيوع أنماط استهلاكية متقاربة في مجال الزي والطعام عبر ارجاء المعمورة وهو ما يشير الي قوة هذه الآلة الإعلامية الرهيبة وتقدم فنون الاقناع والتسويق, وصحيح ان الانسان يظل حرا في الاختيار, ولكنه يختار في اطار حددته له سلفا أجهزة الاعلام التي أثرت علي وعيه وعلي تصوره لاحتياجاته ولأولوياته. ومثل هذه النقلة التي حدثت في الفكر الغربي نجد نظيرا لها في مصر, ففي بداية القرن العشرين أكد استاذ الجيل أحمد لطفي السيد(1872 1963) مفهوم الحرية في كل أشكالها وصورها, وضرورة احترام الملكية الخاصة وحرية علاقات السوق وعدم تدخل الدولة في الحياة الاقتصادية, وبرر ذلك بأن هذه الحقوق هي حقوق طبيعية للبشر ترتبط بالطبيعة الانسانية وليس من حق الدولة التدخل فيها. ومع نهاية القرن العشرين تبلور في مصر تيار فكري عريض له روافد متنوعة من عديد من الاتجاهات السياسية, يؤكد أن سياسات التحرر الاقتصادي لا ينبغي أن تهمل المصالح العامة للمجتمع لحساب المصالح الخاصة لبعض الأفراد, وان الفكر الليبرالي وهو يحمي حرية النشاط الاقتصادي وحقوق الأفراد, فإنه يهتم وبنفس الدرجة بحماية الصالح الاجتماعي وتوفير مظلة واقية للضعيف والفقير, وأن تحقيق ذلك هو احدي الوظائف الرئيسية للدولة, فالدولة هي الأداة التي تحقق التوازن بين حقوق الأفراد ومصالح المجتمع, وهي أداة المجتمع والأفراد معا لضبط ايقاع العلاقات بين المصالح المختلفة. لقد أفصح تطور الفكر الليبرالي والممارسة الرأسمالية في الدول الغربية عن تطورات مهمة أفرزت أفكار الديمقراطية الاجتماعية واقتصاد السوق والرأسمالية الشعبية والطريق الثالث وجوهرها جميعا أهمية وضرورة التوفيق بين الدولة والسلطة السياسية من ناحية, وبين الاعتراف بشرعية المصالح الخاصة, واطلاق طاقاتها, وتوفير الشروط الموضوعية لتحقيقها من ناحية أخري, وبحيث تتبلور العلاقة بين الدولة والمصالح الخاصة في اطار مجموعة من القيم الأخلاقية التي تضع حدود المقبول وغير المقبول اجتماعيا وقانونيا, وبذلك تعمل السياسة والاقتصاد والأخلاق معا, وبالشكل الذي يحقق التوازن في الأدوار بين الفرد والمجتمع والدولة, وبحيث تكون العدالة التوزيعية أحد مكونات المفهوم المتطور لليبرالية كما أكد جون راولز استاذ الفلسفة بجامعة هارفارد في كتابه الضخم عن العدالة. والدول التي تتحول الي اقتصاد السوق تشهد العديد من الخلاف والنقاش حول هذه الموضوعات ومصر ليست استثناء من ذلك, وفي بعض المجالات الاقتصادية تم اطلاق الحريات دون أن يرافقها الاطار التشريعي والتنظيمي المناسب وترتب علي ذلك أن صاحب نمو هذه المجالات ممارسات تحتاج الي وقفة ومراجعة, من ذلك مثلا مجال بيع وتخصيص اراضي الدولة والنظم والقواعد المنظمة لذلك, ومجال التنمية العقارية بشكل عام وما صاحبه من ارتفاعات غير مبررة للأسعار يتحملها في النهاية المواطنون, ونفس الشيء ينطبق علي مجالات حماية المستهلك وضمان المنافسة ومنع الاحتكار. عن صحيفة الاهرام المصرية 21/6/2008