تناولنا في الحلقة الأولي جانبا من الليبرالية كسند للعدالة الاجتماعية من جوانب مختلفة. وفي هذه الحلقة التتمة.. ولايخفي أن الحديث عن الفردية كثيرا ما يوقع في سوء الفهم وإختلاط المفاهيم. ولذلك فيجب أن يحدد المقصود بالفردية علي نحو واضح لا لبس فيه ولعل النقطة الاولي التي ينبغي استجلاؤها هو اننا حينما نتحدث عن الفردية كمفهوم سياسي اقتصادي, فإننا نشير في الواقع إلي مفهوم اجتماعي يتعلق بطبيعة وشكل المجتمع وأولوياته فهو ليس حديثا عن الفرد ومن باب أولي, ليس حديثا عن إمكانية وجود الفرد مستقلا أو منعزلا عن المجتمع فالفرد لاوجود له خارج المجتمع أو سابقا عليه. الفرد دائما عضو في جماعة فالفردية هي نظرية للمجتمع وليست نظرية للفرد, ولكن هذا المجتمع الذي يؤمن بالفردية يضع حقوق الفرد وحرياته في صلب إهتماماته فالفرد هو اللبنة الاساسية لنجاح المجتمع وتقدمه, ومن ثم فإن احترام هذه الحقوق والحريات هو أساس المذهب الفردي. أما القول بأن الفردية تقصد وجود الفرد مستقلا عن المجتمع أو مكتفيا بذاته, فهو تشويه لمفهوم الفردية وهو قول خاطئ تماما فالدعوة إلي الفردية ليست ادعاء بأسبقية وجود الفرد علي وجود المجتمع أو في إمكان انعزاله عنه, ولكنها دعوة للتأكيد علي أن حريات وحقوق الافراد التي لايمكن تصورها خارج المجتمع يجب أن تتمتع بالاحترام الكامل. وهناك من ناحية أخري سوء فهم آخر لايقل شيوعا أو انتشارا, وهو الاعتقاد بأن الفردية ووضع حريات الفرد وحقوقه في موقع الصدارة يعني أن كل فرد لايبالي إلا بمصالحه الخاصة, بمعني مصالحه الانانية( الفرد أناني بالطبع) والحقيقة أن المقصود بالفردية هنا هو أن كل فرد مستقل في قراراته ويخضع لبواعثه الخاصة, وهذه البواعث قد تكون أنانيةegoist أو إثارية أو خليطا بين الامرين. فالمهم في كل هذا هو أننا بصدد تعدد في القرارات: بعضها يتوافق, والبعض الاخر يتناقض مع بعضها البعض فالكلمة الرئيسية هنا هي كلمة تعدد فالافراد مستقلون ويأخذون قرارات متعددة لاعتبارات تخص كلا منهم ولايخضعون لسلطة عليا تفرض عليهم سلوكا موحدا. فالفردية هنا أقرب إلي التعددية ولذلك فليس صحيحا أن الفردية تعني الانانية أو المصالح الضيقة للافراد, وانما هي تعني استقلال الافراد وتعدد بواعثهم وبالتالي امكان تعارضها وتناقضها وإتفاقها في نفس الوقت. فالمجتمع يتطور نتيجة لهذا التلاقي في الإرادات والمصالح المختلفة وليس نتيجة لرأي واحد أوسلطة عليا تفرض علي الجميع. وإذا كانت هذه المفاهيم المختلفة للحرية( الحرية الجمهورية, الحرية الليبرالية, الحرية المثالية أو التدخلية), يمكن أن تتعارض إذا لم يتوافر لها قدر من الاتساق والانسجام, فإنها تتكامل ايضا. وبوجه خاص فإن الديمقراطية الليبرالية وهي تستند إلي المفهوم الليبرالي للحرية لايمكن ان تتجاهل المفهوم الجمهوري للمشاركة أو المفهوم المثالي أو التدخلي لضمان حقوق دنيا للمواطنين. فالليبرالية المعاصرة لايمكن أن تستقيم مالم يسندها نظام سياسي ديمقراطي حر علي المشاركة السياسية للمواطنين في اختيار حكامهم ومراقبة أعمالهم ومساءلتهم عنها, وفقا للمفهوم الجمهوري للحرية كذلك لايمكن أن تحقق اللبيرالية أهدافها في الاستقرار والتقدم والرخاء مالم توفر الحد الأدني من المزايا والضمانات الفعلية للمواطنين وفقا للمفهوم المثالي أو التدخلي للحرية. وعلي أن يظل الاساس والجوهر في هذا التكامل بين المفاهيم المختلفة هو ضرورة إحترام المفهوم الليبرالي في ضمان حقوق الأفراد وحرياتهم الأساسية فالحرية الجمهورية وكذا الحرية المثالية تأتي لدعم حرية الافراد وحقوقهم الأساسية وليس للمساس بها أو الاعتداء عليها. وهكذا, فالديمقراطية الليبرالية لاتستطيع أن تتجاهل الحرية الجمهورية وضرورة المشاركة السياسية عبر الانتخابات وتداول السلطة وقيام المسئولية, ولكنها لابد أن تحترم في نفس الوقت, الحقوق الأساسية للأفراد بحيث لايمكن التطاول عليها أو المساس بها ولو باسم الاغلبية بمقولة, إنه حكم الاغلبية فالقانون المعتمد هو القانون الدستوري الليبرالي الذي يحمي الحريات وهو الحكم والفيصل الاخير. وأخيرا فإن هناك حدودا دنيا من المسئولية العامة لتمكين الافراد من مباشرة حقوقهم وذلك بضمان توفير الخدمات العامة, وبذلك فإن الديمقراطية الليبرالية تتضمن ايضا عناصر من الحرية المثالية فالمطلوب هو تحقيق التوازن والتكامل بين وأولوياته الحرية المختلفة. والكلمة الاساسية في كل هذا هي التوازن, أم مايجري الاصطلاح بالانجيزي بالتعبير عن الضبط والتوازنChecks&Balances أي التوازن بين مفاهيم الحرية المختلفة, والتوازن بين حقوق الفرد وسلطة الدولة ودور المجتمع المدني, والتوازن بين السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية والسلطة القضائية, والتوازن بين الاعتبارات الاقتصادية والمصلحة الخاصة من ناحية, وبين السلطة السياسية والمصالح العامة من ناحية ثانية, وبين المبادئ الاخلاقية والمثالية من ناحية ثالثة وأخيرا فإنه ينبغي الاعتراف بأن النظم الليبرالية وهي تسعي إلي تحقيق التوازن في مختلف المجالات فإنها لاتدعي أنها تحقق المجتمع المثالي أو أنها تنجح في الوصول إلي الكمال, بل أن جوهر النظم الديمقراطية الليبرالية هو الاعتراف بالقصور المستمر والأخذ بالتجربة والخطأ وأن هناك, بالتالي حاجة مستمرة وإمكانية دائمة للتغير والتقدم, وأنه لاوجود ولا حاجة إلي المنقذ أو البطل فعبقرية التقدم إنما هي, في المفهوم الليبرالي, نتاج الرجل العادي فالمجتمع الليبرالي لايتعامل مع حكام من الآلهة أو أنصاف الآلهة, وإنما يتعامل مع مجموعة من البشر العاديين الذين يخطئون ويصيبون, وهي لاتعترف بدوام للسلطة أو تأبيدها فالأصل هو تداولها وفكرة المجتمع المثالي أو المدينة الفاضلة علي الأرض وبالمثل فإن مفاهيم الزعيم الملهم أو رجل المقادير هذه كلها أفكار تتناقض في جوهرها مع الفكر الديمقراطي الليبرالي وتتعارض مع مبادئ الحرية والمساواة الليبرالية. فالفكر الليبرالي فكر إنساني يعترف بقصور الانسان وحدوده كما يؤمن بقدراته وإبداعاته كذلك فإن هذه الديمقراطية ليست مجموعة محددة بين المعالم بقدر ما هي عملية مستمرة تزداد تعمقا مع التجربة والزمن, فالديمقراطية الليبرالية طريق طويل قد يكون له أول ولكن لا نهاية له]. نهاية الاقتباس من الكتاب هذا نص ما أوردته في كتابي سابق الاشارة إليه. وما أود التأكيد عليه في هذه المقالة هو أننا كثيرا ما نختلف لعدم وضوح إصطلاحات المفاهيم التي نتحدث عنها أو لأننا نعطي لها مدلولات مختلفة. والخلاصة عندي وعند الكثيرين هو أن الحديث عن الليبرالية هو بالدرجة الاولي حديث عن دولة القانون وعن إحترام حقوق الانسان وحرياته الأساسية وعدم جواز المساس بها ولو بحكم الاغلبية. ومع ذلك فإن هذه الحريات الليبرالية لاتتحقق إلا من خلال رأي الاغلبية والانتخابات والمساءلة كما أنها لاتكتمل إلا بتوفير التمكين للأفراد بممارسة هذه الحريات وذلك بأشكال العدالة الاجتماعية التي توفر للأفراد الظروف المناسبة لممارسة هذه الحريات والحقوق والله أعلم. المزيد من مقالات د.حازم الببلاوي