منذ أيام قدم مدير المخابرات الأمريكية تقريره السنوى إلى لجنة الأمن القومى بالكونجرس, والذى تعرض فيه إلى التهديدات التى تواجه السياسة الأمريكية فى مختلف أنحاء العالم ومنها الشرق الأوسط بالطبع, وهو ما يهمنا فى هذا المقام. ومن يقرأ هذا التقرير المطول, لابد وأن يلحظ مدى تركيزه على التحديات التى تعترض هذه السياسية. وبنظرة سريعة على ما يتضمنه التقرير سنجد أن قضية مواجهة الإرهاب مازالت تحظى بأهمية محورية. إذ على الرغم من الضربة القاصمة التى وجهتها الولاياتالمتحدة إلى تنظيم القاعدة باغتيال زعيمه أسامة بن لادن، فإن احتمال استعادته لمكانته مازال يشكل خطرا ماثلا بقوة لدى صانع القرار الأمريكى وخاصة مع تزايد نشاطه وقدرته على توفير مصادر للتمويل. أما ثانى أهم تلك التحديات التى يرصدها فتتمثل فى الانعكاسات السلبية لمرحلة ما بعد الربيع العربى على السياسة الأمريكية. فبخلاف التوقعات لم تؤد الثورات العربية إلا إلى مزيد من الفوضى مع تزايد الصراعات الطائفية و المذهبية المسلحة وتحول أغلب الدول التى اجتاحتها تلك الموجات الثورية إلى ساحة للصراع على النفوذ الاقليمى و الدولى، والأكثر من ذلك أن بعض تلك الدول التى كانت تعد حليفة أو صديقة للولايات المتحدة، أصبحت الآن على مسافة أبعد منها (مثل حالة مصر)،كما يتوقف التقرير أيضا عند علاقات أمريكا بدول الخليج تحديدا - خاصة السعودية - التى يقر بحدوث فجوة بينهما ما قد يؤدى إلى تغيير نمط هذه العلاقات مستقبلا. وفى هذا السياق يرصد أيضا حالات بعينها، ففى العراق, يعتبر أن العملية السياسية متعثرة حتى مع اقتراب موعد الانتخابات فى أبريل القادم و أن الصراع مازال حادا بين الفصائل السنية من ناحية والحكم الشيعى لنورى المالكى حليف واشنطن من ناحية أخرى، وأن الحرب الدائرة فى سوريا تؤدى إلى مزيد من الاضطرابات فى العراق بحكم تدفق «المتطرفين» بين البلدين، حيث يلعب تنظيم القاعدة دورا بارزا فيهما، وينسحب الأمر على لبنان أيضا، الذى يشهد موجات متزايدة من الاضطرابات. وفى ليبيا، فإن المشهد السياسى والأمنى هو الأكثر سوءا بعد مرور ثلاث سنوات على الإطاحة بنظام القذافى، فلم تعد هناك سلطة مركزية للدولة والبلد غير موحد وينذر بمزيد من التفكك والصراع. وفى اليمن ما بعد نظام على عبد الله صالح، فقد أضحت المقر الرئيسى «للقاعدة» فى شبة الجزيرة العربية، ومازالت الخلافات محتدمة حول شكل الدولة فى المستقبل . أما إيران، فعلى الرغم من تغير السياسة الأمريكية حيالها بمزيد من الانفتاح والتقارب، يتوقع التقرير بأنها ستستمر فى انتهاج سياسات تتعارض مع مصالح الولاياتالمتحدة سواء باستمرار دعمها للنظام السورى أو المقاومة الفلسطينية المسلحة (حماس وحزب الله) فضلا عن دعمها للشيعة فى الخليج من «الحوثيين» فى اليمن إلى المعارضة الشيعية فى البحرين وغيرها إلى جانب استمرار تدعيم نفوذها فى أفغانستان من خلال المساعدات التى تقدمها «للمجاهدين» هناك. وتبقى المحطة المهمة وهى المتعلقة بمصر. واللافت للانتباه أن التقرير عكس تقريبا نفس التوجهات المترددة للادارة الأمريكية معتبرا إدراج الحكومة المصرية لجماعة الإخوان على قوائم التنظيمات الإرهابية بأنه معرقل للاستقرار والتحول الديمقراطى، أما تركيزه الأساسى فجاء حول سيناء, التى وصفها بأنها أصبحت نقطة انطلاق للجماعات الإرهابية. وربما هذا الجانب تحديدا هو ما يهم الإستراتيجية الأمريكية لكونه يتعلق بالحدود مع إسرائيل، وهو نفس السبب الذى جعلها تراهن على حكم الإخوان سعيا لاحتواء خطر الجماعات المتطرفة فى سيناء وامتداداتها فى غزة . وكما يتضح من هذه الملامح العامة التى حملها التقرير فإنه يفتح الباب لكثير من التساؤلات حول مستقبل السياسات الأمريكية فى الشرق الأوسط دونما إجابات واضحة أو حاسمة عليها . وانطلاقا من ذلك فلابد من مناقشة قضايا أكبر تتجاوز التفاصيل التى توقف عندها تقرير المخابرات الأمريكية، وأهمها هل سيتغير شكل النظام الدولى، أى هل ستقبل الولاياتالمتحدة بالانتقال من نظام القطب الواحد الى نظام متعدد الأقطاب؟ وإلى أى مدى ستكون القوى الدولية الأخرى - بالأخص روسيا قادرة على الدفع باتجاه إعادة تشكيل هذا النظام؟ إن موسكو تعود بقوة إلى الشرق الأوسط سواء من البوابة السورية أو الإيرانية مثلما تستعيد علاقاتها التاريخية مع أحد أهم القوى الإقليمية وهى مصر (ومن هنا حظيت زيارة المشير عبدالفتاح السيسى لها بأهمية كبيرة) كذلك ومع اقتراب الانسحاب الأمريكى من أفغانستان - البلد الذى دفع فيه الاتحاد السوفيتى ثمنا باهظا - فإن روسيا تستعد لملء الفراغ هناك. والقضية الثانية، تتعلق بكيفية تعامل الولاياتالمتحدة مع خسارتها للرهان على ما يسمى «الإسلام السياسى المعتدل». فهل ستعيد المحاولة مرة أخرى من خلال المراوغة و المناورة، أم ستتقبل الأمر الواقع و تعيد صياغة إستراتيجية جديدة تعتمد فيها على قوى سياسية أخرى؟ وثالث هذه القضايا، هى ما يتعلق بنتائج «الربيع العربى» الذى أدى إلى تقويض دعائم الدولة و اهتزاز كيانها فى أكثر من حالة وليس الى التحول الديمقراطى، وهو ما أقره التقرير المشار اليه. ولكن ما لم يخبرنا به هو هل هذا الواقع الجديد هو ضد ما ترغبه الولاياتالمتحدة أم أنه على العكس يخدم إستراتيجيتها الخاصة ب «الشرق الأوسط الكبير» الذى يمكن أن يكون مقسما وفق رؤى سياسية وإستراتيجية أمريكية سبق طرحها؟ ما يمكن قوله فى النهاية إن الولاياتالمتحدة لا تقبل تحدى إرادتها بسهولة، كما أن سياستها لا تسير وفق نهج، واحد فدائما ما تزاوج بين القوة «الناعمة» و «الخشنة»، و أنها مهما أعطت من إشارات مغايرة، فإن تمسكها بسياسة «الهيمنة» كقوة عظمى وحيدة هو أمر محورى لا تتنازل عنه، وربما ما حدث أخيرا فى أوكرانيا - بهروب رئيسها المدعوم من روسيا واستمرار واشنطن فى دعم المعارضة هناك - لهو دليل على ذلك، وأنها وفق هذا المنظور لن تصيغ سياساتها على «مقاس» حلفائها وأصدقائها، فقد تقترب منهم أحيانا أو تخذ لهم فى أحيان أخرى وفق فقط ما تقتضيه مصالحها المتغيرة التى غالبا لا تحددها سوى رؤيتها الخاصة . نقلا عن صحيفة " الاهرام " المصرية