شخصية المعتوه تعبر عن طرح واقعي للشخصية الأمريكية في أدب فوكنر فوكنر يستخدم تقنية الملحمة الاغريقية في عرضه الزمني للأحداث سارتر درس استخدام الزمن واتجاهه عند فوكنر يقدم الجنون على أنه جزء لا يتجزأ من شخصياته المتطرفة العنف الجنسي والفوضوية اللا أخلاقية تشكل تيمة أساسية في تراث فوكنر الروائي يصور سقطات المجتمع الأمريكي الجنوبي المليء بالشذوذ والتستر أوروبا تحتفي بفوكنر وتقرأه بشكل هوسي بقلم: باسم توفيق : (الحياة قصة يرويها معتوه مليئة بالضجة والغضب ولا تعني شيئا) وليم شكسبير من مسرحية ماكبث الفصل الخامس المشهد الخامس. إذن ماذا قصد شكسبير بهذه الجملة القاسية التي أوردها على لسان ماكبث؟ هل قصد بها أن العنف والصخب قانون من قوانين السرد الحياتي المعاش أو حتى قصد بها أن الضجة والألم هما احد أبرز خطين رئيسيين في الحدث الدرامي ربما لكنه لم يكن يدرك ان هذه الحكمة الصغيرة سوف تشكل مدرسة فكرية كبيرة في أزهى عصور الفكر الروائي الأمريكي ولعل هذا يدفعنا للتساؤل عن بعض ماهيات الفكر الأمريكي من خلال الطرح الأدبي لهذه الأمة التي والحق يقال لم تشكل أمة فعلية متماسكة ومتجانسة لفترات طالت حتى ثلاثينيات القرن الماضي حيث كانت كما يقول الكاتب الأمريكي هنري ميلر (عبارة عن ثوب كبير ومترام لم يكن له نسيج اساسي بل هو مكون من عدة رقاع لانهائية وكل رقعة من هذه الرقاع تتكون بدورها من عدد آخر من الرقاع وهكذا فتبدوا مثل مهرج عملاق ليس له أي هوية) ولم يكن ميلر مبالغا حين قال ذلك حيث لازالت الولاياتالمتحدة تعاني مخاضا وجوديا لم يسفر إلا عن بعض الشكليات التي قد تعطي لها رهبة بين المجتمع العالمي كأمة عملاقة لها مذهب وشعب موحد على اية حال ليس هذا التصدع الأنثولوجي هو ما ننشد ان نلج لصلبه لكن ما نريد ان نستخلصه هنا ان الأدب الأمريكي ايضا كنتاج فكري لهذا التصدع الأنثولوجي والتفكك العرقي المستتر هذا النتاج اصبح طبيعيا ان يضم كل هذه السمات لهذا المجتمع ذي الرقاع اللانهائية على حد تعبير ميلر وتتمحور سمات هذا الأدب حول عدة قضايا لازالت تشكل محورا رئيسيا لنقد الأدب الأمريكي ومنها على سبيل المثال العنف ولامعقولية الكره والنفعية كل هذه السمات تمثل محاور رئيسية للأدب الأمريكي ولعلنا قد نقول بشيء من القطع ان تأخر الأدب الأمريكي لحوالي ثلاثة قرون قد كان إحدى نتائج عدم تمازج هذا المجتمع وحيث كان الصراع بين الشمال والجنوب إحدى البذور التي نمى عليها الأدب الأمريكي في بدايته لكن ايضا الشخصية الأمريكية العريقة إذا صح تعبير (عريقة) شخصية لا تميل الى الفكر والأدب بل تميل أكثر إلى الصخب والعنف ومن هنا نمت هذه الفكرة في الأدب الأمريكي بشكل مطرد حتى بلغت زروتها عند كتاب بعينهم مثل وليم فوكنر وارنست هينمجواي وقد يتساءل البعض هل هذا التهور كان اساس الراوية الأمريكية على اساس انه تحليل للشخصية الأمريكية في مجملها ؟ بالطبع لم تكن هذه هي الشخصية الأمريكية التي دخلت الأدب وخاصة الفن الروائي بل كان هناك شخصية اخرى تشكل ردا فعليا على تهور الشخصية الأمريكية وتخلق نوعا من التنوع والتلون في تخطيط الشخصية وهذه الشخصية الأخرى هي شخصية (المعتوه) أو على حد التفسير الحرفي (العبيط) وهذه الشخصية هي البديل الطبيعي لشخصية الطيب أو الصالح في الرواية الأوروبية لكن الفرق بين الشخصيتين ان الطيب في الرواية الأوروبية مدرك لكل فضائله وفاعلا للخير عن قصد لكن (العبيط) أو المعتوه في الرواية الأمريكية خيرا رغم انفه لدرجة انه في بعض الروايات يكون عليه فعل الخير أو الرمز اليه دون ان يتبين أو يدرك فضائله وهذه الشخصية تفجر بها الأدب الأمريكي في معظم عصوره وحتى الآن حيث استخدمها همنجواي عدة مرات وأصبحت هي احدى الشخصيات المحببة والرئيسية عند فوكنر ايضا ونقف هنا عند فوكنر بعض الشيء باعتباره هو سيد الحدث الآن في اكثر من 6 ولايات امريكية في الجنوب حيث قررت بومبي هيد وهي احدى مدن الجنوب ومالبوري وكان على رأسهم (نيو البالي) بالميسيسبي والتي هي مسقط رأس هذا الأديب اللامع قررت كل هذه الولايات بتأسيس رابطة تحافظ على أدب وليم فوكنر ولجنة شعبية لتنظيم احتفال شعبي بفوكنر كل عام باعتبار ان فوكنر هو الذي عبر عن الجنوب الأمريكي بكل أحلامه وأحزانه بالطبع استوقفنا هذا الحدث الذي قد يعيد لفوكنر كل ما سلب منه مع مرور السنوات بالرغم انه حصل على جائزة نوبل في الآداب عام 1942 إلا أن يد النسيان كادت تلحق به وخصوصا على المستوى الشعبي بالرغم من انه لازال من الكتاب الأكثر مبيعا في سوق الكتاب العالمي عامة والأمريكي خاصة . قبل أن نترك معاتيه فوكنر الى حياته الشخصية وفكره يجب ان نعرض لهذه الشخصية عند فوكنر بالطبع قد يكون فوكنر قد استخدمها مثلما استخدم شكسبير شخصية المهرج فوق خشبة المسرح حيث حملها بعض الحكم والمواعظ لكنها أيضا عند فوكنر تشارك في الحدث وتشارك في خطايا الآخرين بل ويستخدمها كأداة في التيار السردي للروايات الأكثر ضخامة مثل شخصية (بنجي) في رائعته (الضجة والغضب) ذلك المعتوه الذي تم اخصاؤه بعد محاولته اغتصاب طفلة صغيرة ثم يستخدم شخصية المعتوه الأكثر خطرا الذي يتنبأ بوقوع الأخطار وهو (داريل) في روايته الملحمية (بينما استلقي محتضرا) ثم شخصية المعتوه الذي يقتل لمجرد انه رأى جريمة لاذنب له فيها (تولي) في روايته شبه البوليسية (الحرم) وتتوالى المعاتيه في روايات فوكنر بشكل قد نصفه بالمرضي في بعض الأحيان وقبل ان نعول على هذه التيمة بشكل نقدي لنسمع رأي فوكنر نفسه في هذه الشخصية حيث يقول في روايته البعوض (وبينما كنت انتظرهم جلست احدث رجلا قصيرا رجلا زنجيا ..... لا انه ابيض لوحته الشمس بصورة هائلة يرتدي ثيابا رثة ولا يضع ربطة عنق أو قبعة. اخبرني أنه كاذب محترف وانه يحيا من هذه المهنة الغريبة ويربح من المال ما يكفي لأن يشتري سيارة فورد إذا استوفى كافة المبالغ التي يستحقها .. اعتقد انه مجنون ... انه ليس خطرا انه مجنون وحسب) وقد يرى البعض هنا انه يصف نفسه كما أكد البير كامو لكن هذا يعطينا تخيلا لماهية الجنون عند فوكنر فقد يرى فوكنر انه محرك للشخصية لكنه في معظم الأحيان ليس خطرا وهذه المداخلة بالفعل هي ما استخدمه الأدب الأمريكي الحديث فيما بعد حيث جعل من الجنون أو العته سببا للابداع والتفوق اما بالعبقرية شبه المرضية أو بالعته الإبداعي مثل شخصية فورست جامب والتي قدمتها لنا السينما الأمريكية في إطار أشد ما يكون من الجاذبية وحملتها عمقا فلسفيا وفنيا خليقا بأن يلخص الشخصية الأمريكية وهي كما يصفها سيناريو الفيلم (حاصل على ثماني جوائز اوسكار وقام ببطولته النجم توم هانكس) شخصية تعاني انخفاضا شبه مرضي في نسبة ذكائها لكن فورست جامب هذا المعتوه المسالم يكون هذا العته بالنسبة له هو اهم نقاط نجاحه وتفوقه فهو على الرغم من انه معتوه إلا انه شديد الايمان بنفسه وبعطف المحيطين به (قارن ذلك بالسياسة الأمريكية الحالية) كذلك يجد فورست في الطاعة وسماع الأوامر وتنفيذها نجاحا كبيرا ومن هنا يتفوق فورست في كل ما يفعله حتى في الجيش في خضم معارك فيتنام الخاسرة يتفوق لاطاعته الأوامر من هنا تكون شخصية المعتوه والقاصر الذكاء تراثا امريكيا تعبر عن التفوق الأمريكي المرتبط بالسير قدما نحو تنفيذ خطط محددة من خلال كسب عطف الآخرين حتى ولو قصرا . ونعود لفوكنر حيث نرى انه ايضا يستخدم الزمن في رواياته كتقنية سردية مختلفة تماماً بحيث يجعل من الزمن أداة للتعبير عن الفوضى والصخب كما في روايته (الضجة والغضب) فهو ليس ككل الروائيين التقليدين يسرد الحدث بمنطقية زمنية مرتبة بل هو يستخدم تقنية اغريقية قديمة استخدمها اعظم كتاب الملحمة هوميروس أي انه لا يبدأ بالترتيب الزمني في سرد الأحداث بل يبدأ بأن يضعك في خضم الأحداث اولا وهو ما يعرف بتقنية الولوج الى الحدث (In Medias Res) كما يقول النقاد الرومان ثم يعود فيحلل هذه الأحداث من خلال المنولوج الداخلي لأبطاله ولا يتبع الترتيب ايضا حيث انه يستخدم ما يشبه ايضا مذهب السببية وتداعي المعاني عند الفيلسوف (هيوم) حيث يقودنا التداعي في المنولوج الداخلي عند ابطاله الى هذه المساحة من الذكريات والتفسيرات التي تكشف عن غموض الحدث اذن هذا الاستخدام الابداعي لخاصية الزمن في السرد الروائي عند فوكنر هي أحد اهم خصائصه المميزة والعبقرية لدرجة ان هذه الخاصية دفعت الفيلسوف والروائي العظيم جان بول سارتر الى كتابة دراسة عن هذه الخاصية عند فوكنر بعنوان (مفهوم الزمن عند فوكنر) اذن فوكنر من اهم كتاب الرواية الذين كان لهم وجهة نظر فلسفية في ادارة اتجاه الزمن في السرد الروائي . هناك ايضا ما يجعلنا نتساءل عن حدود الفعل الجنسي عند فوكنر حيث ان رواياته امتلأت بايماءات واحداث اقل ما يطلق عليها انها تعرض للعنف الجنسي واللاسواء في المجتمع الأمريكي فمعظم رواياته يسيطر عليها الاغتصاب والاخصاء وغيرها من التيمات التي تعبر عن العنف الجنسي في الجنوب الأمريكي فمثلا يحاول بنجي المعتوه اغتصاب طفلة صغيرة فيقوم اهله بإخصائه ليتمكنوا من السيطرة على رغباته الجامحة في رواية (الضجة والغضب) كما يتم اخصاء جو كريسماس البطل الزنجي لرواية (نور في اغسطس) لأنه قتل امرأة بيضاء عجوزة لانهاء علاقته المشينة معها وفي راوية الحرم يستخدم المجرم العاجز جنسيا (بوبي) كوز ذرة في اغتصاب تمبل دريك الفتاة الشابة.... والأمثلة كثيرة في روايات فوكنر على هذه الفوضى اللاأخلاقية والتي تتسم بعدم السواء الجنسي في معظم الأحيان مما دفع بعض النقاد مثل هاري هارتريك ان يصف فوكنر بالسادية الروائية في كتابه (اسس الرواية الأمريكية) إلا ان معظم النقاد اعتبروا ان تناول فوكنر لهذه الأحداث جزء من التنبيه الأخلاقي كنقد للكف الخاطيء في العملية الجنسية عند أهل الجنوب كما أن المجتمعات الجنوبية كانت كما عاصرها فوكنر لازالت تتمتع بهذه الخاصية المنغلقة والتسترية من الناحية الجنسية . ولد فوكنر عام 1897 في نيو البالي المسيسيبي، احدى مقاطعات الجنوب الامريكي. وكانت عائلته فقيرة للغاية مما أدى بالطفل الى التشرد والتنقل طويلاً وعدم الانتظام في الدراسة والعمل في مهن شاقة عديدة. وفي تلك المرحلة بدأ الفتى يكثر من المطالعة. وكان جد فوكنر أسس مصرفاً متواضعاً، فجاء بحفيده ليعمل عنده. وهناك تعرف الحفيد على محام شاب يدعى فيليب ستون متابع للحركة الادبية في امريكا ومطلع على التيارات المتفاعلة فيها. وراح فوكنر يرافق المحامي لحضور المناقشات الادبية والاطلاع على نتائج الادباء اللامعين آنذاك في فضاء الثقافة الامريكية كشروود اندرسون وإزارا باوند. واستمرت تلك المرحلة من المعاناة والتشرد والفقر واكتشاف الحياة وقراءة الأدب والتنقل بين المهن المختلفة حتى وصل فوكنر الى عشرينيات حياته. قضى وليم فوكنر معظم حياته فى الجنوب، حيث ولد ونشأ باستثناء فترات قصيرة غادر فيها منطقة المسيسبي الى نيويورك، أو الى نيو أورليانز، ومرة الى كندا، وأخرى الى أوروبا - وكلها زيارات قصيرة لا تقارن بما فعله الكُتّاب الأمريكين من أبناء جيله. ولم يكمل تعليمه الثانوي، ودرس فترة بسيطة في جامعة المسيسبي، حيث كانت نتيجته متوسطة باستثناء اللغة الإنجليزية، ثم أخذ يتصرف وكأنه يبحث عن ذاته، فارتدى نظارة أحادية الزجاجة، وأطلق لحيته ومشى حافى القدمين في الشوارع وارتدى الملابس الغريبة كما انه جرب العديد من الأعمال؛ بائع كتب فى مخزن تجاري، مدير بريد في الجامعة، ثم نجار وغير ذلك، واكتسب بذلك سمعة الشخص الذي لا يصلح لشيء. بدأ حياته الأدبية بكتابة الشعر، وبعد سفره الى نيواوريانز واختلاطه بالوسط الأدبى هناك، اتجه - تحت تأثير شيروود اندرسون - الى كتابة النثر، كتب روايتين لم يكتب لهما النجاح، ولكنه كان يتحسس فيهما طريقه الى عالمه الخاص، ولكن الفترة العظيمة فى حياته ككاتب هي من 1929 حتى 1942 . وقد كتب روايته بينما أرقد محتضرة 1930م في ستة أسابيع صيفية خلال الثانية عشرة من منتصف الليل الى الرابعة صباحاً اما تركة فوكنر عند وفاته فبلغت 19 كتاباً بين الرواية والقصة القصيرة ويُذكر ان الروائي الشهير ألبير كامو أعد له رواية للمسرح وتم تمثيلها في المسارح الفرنسية والأوروبية. لم تكن كتاباته فى الأربعينيات والخمسينيات فى مستوى الفترة الغنية التى ذكرت سابقا، وفى عام 1950 حصل على جائزة نوبل للآداب، وألقى خطابا يعتبر قطعة فنية وموقفا انسانيا رائعا يقول الناقد مالكولم كاولي عن روايات فوكنر: الرواية لدى فوكنر هي كالعمل النحتي، فبوسع المرء ان يدور حولها كما يدور حول تمثال لكن في كل مرة على مشهد مختلف من الكتلة الصلدة ذاتها، وأكثر من هذا فالرواية عنده ليست محض تمثال بل هي صرح كامل. وبات وليم فوكنر كاتباً عالمياً من الطراز الأول، وتم تتويج الاعتراف به عام 1950 بمنحه جائزة نوبل للآداب، وخلال حفل تسلمه الجائزة أدلى فوكنر بحديث قصير وصف فيه الانسان بأنه كائن روحي، وبأن عالم هذا الكائن الروحي يرتكز على حقائق أخلاقية ومعنوية ثابتة لا تتغير أبداً. لقد حشد الكاتب في كلمته تلك، أهم أفكاره التي ناضل من أجلها طوال حياته واشتهر خطابه كنص أدبي ثمين آخر، جاء فيه: ان مأساتنا اليوم تتجلى بخوف مادي يعم الكون، وقد طال أمده حتى ألفناه فأمسينا قادرين على تحمله، لم تعد هناك مشاكل تتعلق بالروح، وليس لدى الفرد منا سوى سؤال واحد: متى أتدمر؟ لهذا نسي شباب اليوم من الكتّاب مشاكل القلب الانساني في نزاعه مع نفسه، وهو الشيء الوحيد الذي يخلق كتابة جيدة لأنه هو وحده الجدير بالكتابة عنه والجدير بالعذاب والضنى. ولقد وصل فوكنر الى اوج تألقه بين الأدباء الأوروبيين حث اعجبت به اوربا بشكل هوسي واصبح من اهم كتاب الرواية عندهم ونختتم كلامانا عن فوكنر بمقولة بسيطة على لسانه هو يصف فيها الكلمات حيث يقول (لا ادعي بأن للكلمات حياة مستقلة ولكني اعتقد ان الكلمات إذا جمعت بمهارة فائقة تنتج شيئا حيا كما تخلق الجو والأرض والأحوال الملائمة الأشجار فإن الكلمات كالأغصان لا تخلق الواحدة منها شجرة ولكن إذا جمعت فانها ولاشك تنتج شجرة). ** منشور بموقع "حكومي" بتاريخ 22 نوفمبر 2008