ترجمة: د. علي محمد سليمان كتب الناقد جيم لويس مؤخراً مراجعة نقدية ممتازة لرواية "شجرة من دخان" للروائي الأمريكي المعروف دينيس جونسون، وهي رواية جديدة صدرت مؤخراً. وفي الحقيقة أنا من المعجبين بروايات جونسون، وأعتبره من أفضل الأدباء الأحياء. لقد انتظرت روايته الأخيرة منذ أن اقترب موعد نشرها، وكنت من أوائل الذين توجهوا لاقتنائها من المكتبات. وأنا أتفق تماماً مع جيم لويس في اعتبار "شجرة من دخان" قطعة فنية متقنة من اللغة والعمق اللذين يصل فيهما الكاتب إلى مستوى نادر من أناقة التعبير وأصالته الفنية. لكني أختلف مع نقطة أثارتها دراسة لويس تتعلق بشخصية جونسون خصوصاً وبمسألة دلالاة وتأثير شخصية الكاتب في قراءتنا للأدب بشكل عام. في بداية دراسته، يشير جيم لويس إلى أنه لم ير صورة هذا الروائي من قبل إلا على غلاف روايته الأخيرة، ويستنتج من ذلك أن دينيس جونسون ليس من أولئك الكتاب الذين يهتمون بتسويق شخصياتهم إعلامياً. ويضيف لويس في هذا السياق أن جونسون لا يتصنع التواضع ولا يمارس العزلة، لكنه في الوقت نفسه لا يعاني من تضخم الذات. ويخصص جيم لويس في دراسته مقطعين ليعالج سمة التواضع والزهد بالشهرة عند جونسون كظاهرة صحية في الأديب ويقارنها مع ظواهر النرجسية وتضخم الذات لدى روائيين آخرين لم يسمهم، ثم يستنتج أن موقف هذا الروائي البعيد عن الأضواء يمثل نموذجاً يجب الاحتذاء به، رغم ما كلف هذا السلوك الشخصي جونسون من خسارات في علاقاته المهنية وفي قلة الدعم المقدم له من المؤسسات الثقافية والإعلامية وفي كونه ما زال خارج لعبة التسويق التي يتقنها ويمارسها أغلب معاصريه من الروائيين. إن "شجرة من دخان" رواية عظيمة، لكني أشك أنها ستحافظ وحدها على موقع كاتبها وشهرته. إننا لا نحتاج المزيد من الروائيين الاستعراضيين أو المغرورين أو النرجسيين، بل نحن بحاجة ماسة إلى روائيين يمارسون الكتابة مقترنة بسلوك شخصي يشبه سلوك دينيس جونسون. ربما يكون كل ما ورد في دراسة لويس عن شخصية كاتب "شجرة من دخان" صحيحاً، لكنه يثير أسئلة إشكالية. ما أهمية السلوك الشخصي في إبداع الروائي، وما الذي يهم القارئ إن كان الكاتب نرجسياً أو مغروراً أو متضخم الذات؟ هل يؤثر هذا على القيمة الفنية للرواية ويحدد مستواها الفني أو عمقها؟ إذا كان دينيس جونسون ذاته نرجسياً، فهل ستفقد روايته شيئاً من قيمتها الفنية أو جماليتها الأسلوبية أو عمقها؟ لا أعتقد أني سأهتم فيما إذا كان جونسون من المهووسين بالظهور على شاشةات التلفزيون، ما يهمني فقط أن أستمتع بقراءة رواياته. وماذا عن أدباء آخرين مثل هنري ميلر أو جيمس جويس أو سوزان سونتاغ؟ وماذا عن المعجب بنفسه بلا نهاية ترومان كابوتي أو النرجسي الأكبر نورمان مايلر؟ وماذا عن الروائي مارتن أميس الذي يلاحق القراء أخباره الشخصية أكثر مما يتابعون نصوصه؟! وهل إرنست همنغواي روائي ذو قيمة متدنية فنياً لأن أغلب مواضيعه كانت تدور حول شخصيته؟! وماذا عن لويس ألبرتو يوريا الذي يحفظ ويلقي فصولاً كاملة من رواياته الطويلة؟ هل يجعل إعجابه بذاته من أدبه أدباً غير ذي قيمة أو جمالية؟ وهل يمكن لما يحيط بحياة ت. س. إليوت من تساؤلات وإجابات غامضة أن يؤثر على تراثه الشعري سلباً أو إيجاباً؟ لا تكمن المشكلة في شخصية الروائي أو سلوكه أو مظهره، بل تكمن في القارئ والناقد الذي يعير هذه الأمور انتباهاً لا تستحقه. إن الإنجذاب لكاتب بسبب تواضعه له نفس نتيجة الإنجذاب نحو كاتب بسبب نرجسيته أو مظهره أو قدراته الاستعراضية. إن كلاً من الأمرين وجهان لعملة واحدة. الشيء المهم هو الإنتاج الأدبي في كتاب نقرأه. ويجب على هذا الكتاب أن يحقق ذاته دون أي عوامل خارجية. إن ما يفعل الكاتب أو ما لا يفعل، ما يحب أو ما لا يحب أمور مناسبة لصفحات الشائعات في الصحف الشعبية، لكنها لا تناسب عمل الناقد. لقد رأينا مؤخراً العديد من الفضائح التي تخص العلاقة بين الحياة الشخصية للأدباء وبين كتاباتهم، وخصوصاً في أدب المذكرات. وعندما كتبت لورا ألبرت مجموعتها القصصية "القلب يخون في النهاية" استقبلها القراء بفضول كبير، لكنني شخصياً لم أتأثر بكل ما ظهر من معلومات تخص حقيقة تلك القصص، وبقيت بالنسبة لي عملاً مستقلاً عن عالم الشائعات. وبنفس الطريقة، فإن الإشكاليات الثقافية التي أثارتها أعمال ديف إجرس لن تجعل أعماله أقل فنية ولن تفقدها شيئاً من عمقها وجمالية أسلوبيتها. بالطبع للناس أذواقهم في التعامل مع الأدب. إنه لمن الطبيعي أن يكون لأناس مختلفين آراء متباينة في أعمال كاتب ما لأن القراءة تجربة ذاتية. ربما لا يحب قارئ ما كتابات لورا ألبرت، لكن ذلك لا يعود إلى من هي لورا ألبرت في الواقع و لا إلى ملامحها الشخصية و سلوكها. إن الأمر في جوهره يعود إلى ما هو أعمق من تحليل جيم لويس لنرجسية الكتاب بشكل عام، ولنرجسية الروائيين بشكل خاص. إن النرجسية لا تترافق بالضرورة مع الكتابة السيئة أو الجيدة. ولنتذكر في هذا السياق أن تشارلز بيوكوسكي كتب بكثافة وإتقان عن نفسه لأنه، وحسب تعبيره، القارئ لا يعرف شيئاً عن الكاتب، ومن هنا يمتلك هذا الكاتب دائماً إمكانية كتابة الذات أو صياغتها في الفضاء الاجتماعي عبر وسائل التسويق والإعلان التي أصبحت على تنوعها في متناول الكتاب في عصرنا. إن دور القارئ حاسم في المشاركة أو التواطؤ مع الكاتب في عملية التسويق الذاتي وتفعيل البعد النرجسي في شخصيته، وذلك في اهتمام ذلك القارئ بما هو خارج الأدب من الحياة الشخصية للأديب. ويصبح الأمر أكثر خطورة وتأثيراً في هذه العملية عندما يتعلق الأمر بالناقد أو بالمؤسسة الإعلامية أو الثقافية من خلال التركيز على المواد غير الإبداعية في حياة الأديب. لقد أصبح جزء كبير من الفعاليات الثقافية في عالمنا اليوم يتناول صورة الأديب الاجتماعية والشخصية باحثاً عن الجديد والمثير خارج النص الأدبي. لا ينفصل هذا بالطبع عن ثقافة التسويق والإعلان التي سيطرت على المجتمعات المعاصرة والتي يشارك فيها الأدباء في كثير من الأحيان. ولكن رغم سيطرة آليات ثقافة الإعلام والتسويق على الحياة الأدبية في كثير من جوانبها، فإن بنية النص الأدبي تبقى في منأى عن تلك التأثيرات محتفظة بطبيعتها الجمالية الخالصة. ومهما اختلفت الأذواق والأنماط الشخصية للأدباء لا يمكن لأي عامل خارجي يتعلق بالمظهر أو السلوك أن يحدد قيمة عمل أدبي ما، لأن قيمة هذا العمل تكمن داخله. وليست المشكلة كما يقول جيم لويس في أن يكون لدينا عدد أكبر من الكتاب الذين يشبهون دينيس جونسون في سماته الشخصية، بل تكمن المشكلة في النقاد والقراء الذين تشجعهم ثقافة التسويق الذاتي على البحث عن قيمة ومعنى العمل الأدبي خارج النص، وعن محتوى الكتب خارج صفحاتها. سيكون العديد من أفضل الروائيين في العالم نرجسيين وربما متضخمي الذوات. ولكن ما أهمية ذلك بالنسبة إلى النص الأدبي؟ من أجل مستقبل الأدب، ومن أجل حالة ثقافية صحية، يجب علينا أن نعيد الاعتبار إلى ثقافة القراءة الحقيقية وأن نستعيد القدرة على التركيز على ما في صفحات الكتب من غنى، لا على ما يقع خارجها من مواد لا تفيد القارئ أو الناقد في شيء. ناقد أمريكي. نشرت هذه المقالة في مجلة سان فرانسيسكو كرونيكال الثقافية الشهرية. المصدر: جريدة "الثورة" السورية بتاريخ 1 أكتوبر 2007