ترجمة عن الروسية قبل 140 عاما ولد الكاتب (اليكسي بيشكوف) المعروف باسم (مكسيم غوركي), الذي كان داعية الثورات الروسية في القرن العشرين واشد المنتقدين لها في نفس الوقت... فقد كان بمثابة بوتقة انصهرت فيها عواطف تلك المرحلة الحرجة على اختلافها, وقصة موته, كما قصة حياته تبقى وحتى يومنا هذا مليئة بالاسرار والالغاز... "الحياة أصبحت لا تطاق..." مباشرة بعد الثورة البلشفية وجد الكاتب, الذي كان معروفا بولائه للفكر الشيوعي, نفسه معارضا وبشدة للاساليب القمعية تجاه المثقفين الشاعرين بالضياع لعدم ادراكهم للواقع الذي يجري حولهم. قام (غوركي) بالانسحاب من الحزب الشيوعي في اللحظة التي كان زعماؤه في أمس الحاجة إليه ليقوم بتهدئة وتنظيم الطبقة المثقفة وطلاب الجامعات وفقا لمعايير السلطة الجديدة وإيديولوجيتها. لجأ (غوركي) للتعبير عن افكاره وصراعه في صحيفة (نوفايا جيزن) إلى حد إغلاقها في عام ,1918 وبعد ذلك حاول الكاتب التأثير على السلطات بطرق مختلفة لكنها باءت بالفشل... فكتب إلى (لينين) رسالة قال فيها أن حياته, حياة (غوركي) بعد ثورة 1917 لم تصبح "صعبة فقط بل إنها لا تطاق...". (لينين) - يسوع المسيح الجديد ولكن هل كان يأس (غوركي) من الثورة وقائدها مطلقا؟ لا! وازداد شكه وتردده بعد موت (لينين) في 1924 ... وفي غربته بدأ (غوركي) يرسم صورة تقديس ل (لينين) تقرب شخصيته من شخصية يسوع المسيح!!! فيقول أنه إنسان "ضحى بنفسه من أجل إقامة الحب..." وعندما ازدادت شكوكه بدأ (غوركي) يفكر بالعودة إلى روسيا, وأخيرا استسلم, ربما لتأثره برسالة إنتقادية بعثها إليه شاعر سوفييتي (مايكوفسكي), او موافقا على دعوة (كرملن), الذي وعده بمنصب رفيع في اتحاد الكتاب السوفييت. وعاد الكاتب حقيقة في عام 1931 إلى موسكو وكانت السلطات الروسية عند وعدها موفرة له كل شيء... توالت تصريحات (غوركي) مثل "مجرد دموع لا تزيل لا قذرا ولا دما", و"إذا لم يستسلم العدو لا بد من القضاء عليه", متطرفة في مضمونها أكثر من جميع خطابات (ستالين) لصياغتها بأسلوب أدبي مميز... ومن هنا بدأ يتحول الكاتب الممجد - رائد الادب الشيوعي - إلى أسير في يد السلطة... صيف 1935 كان موعد المؤتمر العالمي للكتاب الذي اقيم في باريس, أما حالة (غوركي) آنذاك فكانت غريبة: فلم يكن راغبا للمشاركة به... ربما كان السبب يعود إلى صحته المتدهورة, او إلى... خيبة أمله بالنظام الشيوعي في روسيا الذي واصل تنفيذ سياسته بطريقة اكثر من صارمة... كان من الممكن أن يتوفى (غوركي) مباشرة بعد عودته من المهجر, ولكن في هذه الحالة لا تهم الجميع (ستالين) باستدراج الكاتب للعودة من أجل اغتياله... فنجا آنذاك. خطأ طبي مقصود؟ توفي (غوركي) في 18 حزيران ,1936 وبعد ذلك أجرت الجهات الرسمية تحقيقا في موته ومثل اطباؤه امام المحكمة في 1938 واسندت إليهم اتهامات بارتكاب اخطاء طبية مقصودة لدى العلاج و"تهيئة الظروف للجسم الضعيف ليمرض ومن ثم اتباع اساليب علاج خاطئة تعرض المصاب لمضاعفات صعبة وخطيرة وتودي به إلى الموت." إلا ان خطاب المدعي العام في هذا التحقيق يفتقر إلى أدلة تشهد على سبق اصرار الاطباء على الجريمة... ويبقى القول بتساهل الهيئة الطبية في التعامل مع صحة العجوز المصاب منذ صغره بمرض السل مقنعا اكثر. النظرة إلى الماضي إلى لحظة موته بقي (غوركي) متشككا في اهمية الشيوعية للمجتمع الروسي, صراع الذي حاول ان يحله في اعظم مؤلفه "حياة كليم سامغين", رغم التدهور الحاد لصحته خلال ايامه الاخيرة لم يودع الكاتب امله في إيجاد الحل... وهكذا فلو لم يمت الكاتب بنفسه لبات اغتياله ضروريا للبلشفيين... فما الحاجة لزرع كل هذه الشكوك الخطيرة في تفكير الناس واصعب حرب تدق الابواب؟ (غوركي) الممجد والمكرم من السلطة ومن (ستالين) شخصيا بدأ يعدي بشكوكه المجتمع واصبح يشكل خطرا... فقد كان مذنبا وتائبا وبرجوازيا مليئا بالانسانية من جهة ومحاميا صارما للحركة العمالية من جهة اخرى في نفس الوقت, إلا ان تلك المرحلة القاسية لم تتقبل إلا الجواب المحدد اما نعم او لا. ** منشور بصحيفة "العرب اليوم" الأردنية بتاريخ 10 يوليو 2008