الرئيس عباس نمط جديد في السياسة الفلسطينية نصوح المجالي استمعنا مؤخرا للرئيس محمود عباس على مدى ساعة كاملة، يتحدث بشفافية وعمق لقناة العربية حول جميع القضايا المتصلة بالمفاوضات الفلسطينية الاسرائيلية، اين وصلت وكيف تدور وما هي احتمالاتها وافاقها المستقبلية، والمصاعب التي تحيط بها والوضع الفلسطيني الراهن وحالة الانقسام والوضع الحرج في غزة، والمخرج من هذه الحالة والوضع الاقليمي الراهن والوضع الدولي واثر كل ذلك على قضية السلام في المنطقة. لقد كشف الحديث الذكي، الذي ادارته مذيعة محترفة مع الرئيس عباس، عن شخصية سياسية مخضرمة شديدة الوضوح والواقعية، ملمة بجميع الابعاد المحيطة بالقضية الفلسطينية: الحق الفلسطيني وما يسنده من مشروعية دولية، والموقف الفلسطيني الراهن وما يعيقه على ارض الواقع، والموقف الاسرائيلي، وما يحيط به من مناورات سياسية، وتناقضات داخلية، ورؤى لا يخامره الشك بأنها تتناقض مع ثوابت الحق الفلسطيني ولا يثنيه ذلك من الاستمرار في المفاوضات ولتأكيد الحقوق الفلسطينية، وايجاد رأي عام دولي لمساندتها، لم يبدو في ذهن الرئيس عباس أي اوهام بشأن الموقف الاسرائيلي او احتمالات السلام، وهو لا يراهن على المجهول كما يعتقد البعض، بل ينطلق من فهم عميق، لوضع يعرف دقائقه، ويلم بتفاصيله بدون اوهام، ويدرك ان الظرف الراهن والاهتمام الدولي والاستعداد الشعبي الاسرائيلي لقبول فكرة السلام والدولتين جميعها تتيح فرصة من الخطأ التفريط بها مهما كانت احتمالات نجاحها، فهي معركة من نوع اخر، من اجل نفس الحقوق التي تنازع عليها الاسرائيليون والفلسطينيون طويلاً، وهي العودة لحدود عام 67، وعودة القدس العربية وحل قضية اللاجئين واقامة دولة فلسطينية مستقلة وسلام شامل في المنطقة، بغض النظر عما تضعه اسرائيل من عراقيل امام السلام. الرئيس عباس بما شف عنه في هذا اللقاء طراز جديد من السياسيين الفلسطينيين، يؤسس لمدرسة واقعية تسمي الاشياء باسمائها، ولا تغرق في الشعارات والاوهام، وتدرك ابعاد الموقف السياسي، العربي والدولي والفلسطيني والاسرائيلي بدقة، ما خفي منها وما بطن، وتبحر في تناقضاتها برؤية واقعية، بعيدة عن التفاؤل المفرط او التشاؤم المفرط بل الحسابات الدقيقة، وهي تدرك ما تريد. في الوضع الفلسطيني يقر الرئيس عباس بان حماس جزء من الشعب الفلسطيني، وانها جزء من الشرعية وان الانقسام الذي احدثه تمرد حماس في غزة لا حل له، الا بالرجوع الى صناديق الاقتراع، لان متغيرات كثيرة حدثت منها انقلاب حماس ومنها مؤتمر انابوليس وما يترتب عليه وعلى الشعب صاحب الولاية في الشرعية ان يقول رأيه في ذلك ويختار، فهو يحتكم للديمقراطية وخيار الفلسطينيين في الداخل فيما جرى وما سيجري. وفي حصار غزة يرى الرئيس عباس ان ايقاف الصواريخ وايقاف المداهمات الاسرائيلية بوساطة مصرية المدخل لهدنة، يتم فيها فك الحصار عن غزة واهلها، واعادة ترتيب البيت الفلسطيني، وان الصواريخ لا تشكل مقاومة بقدر ما تشكل محاولة للتشويش على المفاوضات واضعاف الموقف الفلسطيني فيها، فهي تشويش بثمن باهظ على اهل غزة الذين يدفعون ثمن ذلك من عذابهم. وفي الموقف الاسرائيلي من المفاوضات يدرك عباس ان السلطة الفلسطينية بين خيارين، اما ان ترفض المفاوضات ولا تحقق شيء، او تحاول رغم المواقف الاسرائيلية التي تحاول استباق الامور لتثبيت مبدأ الاستيطان واستثناء القدس وقضية اللاجئين وعدم الانسحاب الكامل من الاراضي المحتلة. ويستند الرئيس عباس الى ان جميع هذه القضايا يجب ان تكون على طاولة المفاوضات وان عدم شرعية الموقف الاسرائيلي يعزز الاصرار الفلسطيني، بتأكيد الحقوق الفلسطينية المشروعة فيها وانه بالنتيجة لا بد من مرجعية دولية، سواء كانت الولاياتالمتحدة او المجتمع الدولي تحدد ما هو مشروع او غير مشروع في مواقف الطرفين. ولا يخامر رئيس السلطة الفلسطينية شك بان المفاوضات مرتبطة بالنوايا وان نوايا اسرائيل حتى الان لا تتفق مع المطالب الفلسطينية او الشرعية الدولية وان احتمالات عدم الوصول لحل قبل نهاية ولاية الرئيس بوش في نهاية العام واردة لكن احتمال التوصل الى صفقة كاملة خلال اشهر امر ممكن ايضا اذا توفرت النوايا الاسرائيلية والدولية، وان الفرصة المتاحة تستحق ان تتابع الى نهايتها، بدون تفريط او اوهام، وتلك هي المفاوضات. وفي الموضوع الايراني اشار الرئيس عباس الى الدور الايراني وتفضيل ايران التعامل مع فصائل سياسية تخصها في الساحة الفلسطينية والعربية وليس مع الجهات الشرعية مما يربك العلاقة الايرانية العربية، مع ادراكه لدور ايران واثرها السياسي في المنطقة. وهو يرى من مؤتمر موسكو قناة اخرى لفحص نتائج مفاوضات اوسلو وحشد الدعم الدولي لقضية السلام وتعزيز العلاقة مع روسيا كطرف مهم في اللجنة الدولية الرباعية، احد مرجعيات مفاوضات السلام. ولم يتوان الرئيس عباس من الاقرار بانه رئيس لسلطة فلسطينية محتلة وانه يحتاج لاذن عسكري اسرائيلي للتحرك من مدينة فلسطينية الى اخرى، او للسفر الى الخارج ذلك هو الواقع. وانه شديد الحرص على اتمام عملية الاصلاح السياسي الداخلي في منظمة فتح، عبر الانتخابات الداخلية، وتعزيز مؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية وتجديدها لتكون الواجهة الشرعية والاطار الجامع ومركز القرار في العمل الفلسطيني السياسي. الرئيس عباس طراز جديد من الساحة الفلسطينية، لا يتعامل في هذه المرحلة بالشعارات، والمواقف الايديولوجية الجامدة، بقدر ما يتعامل مع الواقع وخطورته وهو يدرك حدود ضعفه، وعناصر قوة موقفه، ويدرك ابعاد الخصم وتلافيف موقفه الداخلي وتناقضاته، واطماعه، لكنه لا يخفي شيئاً ولا يخدع احداً، ويسعى لقضية بلاده بمنأى عن أي مجد شخصي، ولا يفوت فرصة سانحة لخدمة قضية فلسطين والسلام، مهما كانت احتمالات النجاح محدودة او ضئيلة، هذا ما شف من حديثه وهو شديد الوضوح والعمق، في قضية مصيرية في منطقتنا ما زال يكتف حلها الغموض والتعقيد الشديدين . عن صحيفة الرأي الاردنية 20/4/2008