سليمان جودة حزنت لأن بلدنا لم يكن له مكان، في قائمة أعلنوها مؤخرا، عن أفضل الدول التي يمكن أن يعيش فيها الإنسان، علي امتداد دول العالم. وقد جاءت فرنسا في المرتبة الأولي، ولابد أن الذين زاروها، أوحتي قرأوا وسمعوا عنها، يدركون تماما مبررات اختيارها، وأسباب مجيئها في هذه المرتبة المتقدمة علي 192 دولة أعضاء في الأممالمتحدة !
ولم يكن أي واحد فينا يتوقع، أن تأتي مصر في المرتبة الاولي ولا حتي العاشرة، فالواقعية تدعونا الي الاقرار بأن هناك دولا أفضل منا بكثير، رغم أنها كانت بعدنا، ولكننا في المقابل كنا نتمني أن يكون لنا مكان، وأن يكون لنا موقع في قائمة من هذا النوع، وأن يكون لنا فيه ولو موطئ قدم.
وهو ما لم يحدث، رغم ما نملكه في بلدنا من امكانات طبيعية من الواجب أن تُفرد له، ثم لنا، مساحة بين دول جاءت في القائمة، وليس عندها ربع ما عندنا من شواطئ، ولا طقس، ولا شمس، ولا طبيعة في الاجمالي!
وربما يكون الكاتب الأستاذ جهاد الخازن، قد حاول في مقالته في صحيفة " الحياة " اللندنية، أن يجبر بخاطرنا، حين استعرض الدول الواردة في القائمة، من أولها الي آخرها، ثم قال إنه لو كان له ان يختار بين أربع عواصم، هي: القاهرة، ودمشق، وعمّان، وبيروت، فسوف يختار الأخيرة، لأنها ساحلية أولا، ولأن فيها حرية شخصية ثانيا، حتي ولو كان لبنان بلدا غير ديمقراطي، ولأنها بلد الصغر، والشباب، والجامعة بالنسبة له.. لقد اختار بيروت، بعد أن وضع القاهرة، ضمن هذه العواصم الأربع التي تتساوي في تقديره، في نظر أي واحد يريد أن يقضي وقتا جميلا وممتعا فيها!
ورغم أن عددًا لا بأس به، من المقيمين في البلد، يرغبون في الهجرة منه، اليوم قبل غد، ولا ينصحون أحدا بالتالي بأن يأتي إليه، باعتباره - افتراضا - من أفضل الأماكن عالميا، الا أننا جميعا أمام قائمة كهذه، نشعر بالغيرة علي البلد، ونحزن، وربما نكابر بيننا وبين أنفسنا ونقول بأن بلدنا أفضل كثيرا من أغلب الدول التي وردت أسماؤها في القائمة !
ولم يكن الاستطلاع الذي جري، يقيس المسألة بالنسبة للسائح الزائر فقط، وإنما كان يتكلم في المسألة علي إطلاقها، بمعني أن السؤال المطروح لاختيار دول القائمة، كان علي النحو الآتي: ما البلد المفضل لك، إذا كان لك أن تختاره لتعيش فيه، سواء كنت أنت من رعايا هذا البلد، ومواطنيه، أو كنت سائحا سوف يأتي ليزور، ثم يمضي إلي حال سبيله؟!
وليس هناك شك، في أن البلد.. أي بلد.. لا يمكن أن يكون مكانا مفضلا لأي سائح، ما لم يكن مكانا مفضلا لأبنائه أولا، بحيث يشعر كل واحد فيهم، بأنه لا يمكن أن يفضل بلدًا آخر، علي بلده، لا لشيء إلا لأن الحدود الدنيا من الحقوق الآدمية متوافرة له فيه، ولذلك فهو، والحال هكذا، لا يمكن أن يتطلع إلي بلد آخر، ولا يمكن أن يحن إلي أرض أخري ليحيا فيها!
ومنذ وقت طويل، ونحن نقرأ كل فترة، عن أن الهواء في القاهرة، ليس علي ما يجب أن يكون عليه، من حيث نظافته، ومن حيث عدم تلوثه، وقد تتالت الأرقام والنسب والبيانات التي تتحدث، يوما بعد يوم، عن ارتفاع معدل التلوث في العاصمة، ويبدو أننا من طول تكرارها، قد فقدنا الإحساس بمعناها، ولم تعد تلفت نظرنا، كما كانت في البداية، وكما يجب أن تكون في البداية، وفي النهاية !
وحين يكون هواء عاصمتنا ملوثا، إلي هذه الحدود المخيفة، التي تذاع عنها الأرقام، مرة بعد مرة، فلا يجب أن نطمح إلي أن يكون لنا موضع محترم، في قائمة أفضل الدول معيشا بالنسبة لأي إنسان !
وقد جاء علينا وقت قلنا فيه، بيننا وبين أنفسنا علي الأقل، أن تلوث الهواء في القاهرة، أمر قد يكون مقدورًا عليه، لأن كل عواصم الدنيا تعاني من التلوث بنسب مختلفة.. صحيح أننا الأعلي، أو من بين الأعلي تلوثا، علي وجه التقريب، ولكن تلوث الهواء، بفعل طبيعة الحياة المعاصرة، ومخلفاتها، موجود في كل عاصمة، بلا استثناء!
غير أن الشيء الذي لم يكن علي البال، ولا علي الخاطر، أن يتجاوز التلوث، هواء البلد، وهواء عاصمته علي وجه التحديد، ليصل إلي الطعام الذي يأكله كل إنسان، في كل يوم، وقبل الطعام يصل إلي الماء نفسه !
ومنذ فترة، كان الدكتور عبدالعزيز حجازي، رئيس وزراء مصر الأسبق يقول: إن ماء الحنفيات في القاهرة، غير صالح للشرب، وأنه يسبب أمراضا علي المدي الطويل، وأنه إذا كان لابد من أن تشربه، فلابد من أن يوضع علي النار، ليصل إلي درجة الغليان، في وعاء مفتوح، فإذا انخفضت درجة حرارته، بعد ذلك، كان لك أن تشربه وأنت مطمئن..
أما قبل ذلك فهو لا ينصح أحد بأن يشرب كوب ماء، من أي حنفية، إلا إذا مر بهذه الدورة، من حيث الغليان، ثم ما دون الغليان، الي ان يمكنك ان تتناوله !
والدكتور حجازي، لم يؤلف هذا الكلام، عندما أذاعه في وسائل الاعلام، وإنما كان قد أخذ عينة من الماء، من ثلاثة أماكن مختلفة في العاصمة، ثم بعث بها إلي ألمانيا لتحليلها في معمل متخصص، فتبين له ان شرب الماء، علي طبيعته هكذا، من الحنفية، ضار بالصحة !
والدكتور حجازي، ليس رجلا عاديا، ولا هو من عابري السبيل، ولا هو يقول أي كلام، وإنما يقول كلاما علي أسس وقواعد، ومع ذلك، فقد مر الكلام، وكأن أحدا لم يقل شيئا، رغم خطورته، ورغم أهميته، ورغم انه كان المتوقع في بلد لديه حد أدني قدر من الإحساس بالمسئولية، أن تقوم الدنيا ثم لا تقعد، حتي نصل إلي حل !
وما يقال عن تلوث الماء، والهواء، يمكن أن يقال بالدرجة نفسها، عن تلوث الطعام.. فماذا يتبقي للإنسان، كي يعيش عليه، ويتناوله، وهو آمن علي صحته ؟!
وفي صباح الثلاثاء 19 يناير الحالي 2010خرجت الصحف تقول : إن مجلس الشعب قد أسقط عشرة استجوابات عن التلوث، وانتقل بعدها إلي جدول الأعمال.. وكانت الصحف تنشر الخبر، عن إسقاط استجوابات بهذا العدد، وكأنها تزف بشري سارة إلي الناس.. مع أنها، ومع أننا، كان يجب ان تستحي هي، وأن نخجل نحن من أنفسنا.
لأن البرلمان الذي عليه أن يراقب أعمال الحكومة، في المقام الأولي، لم يجد لديه الشجاعة الكافية، ليسائلها، ويحاسبها، عن التلوث أيا كان نوعه، وأيا كان مكانه، وأيا كان مصدره !
وعندما قرأت خبر إسقاط الاستجوابات العشرة، تذكرت علي الفور، كيف أن صديقا عزيزا من المقتدرين قال: إنه يفكر في أن يأتي لأسرته ببقرة في حديقة بيته، يشربون من لبنها، وأغنام يأكلون من لحمها، ويفكر في أن يزرع ويأكل مما يزرعه هو، لا غيره، علي طريقة ما تفعله السيدة ميشيل أوباما في حديقة البيت الأبيض.. لولا أنها تفعل ذلك هناك، علي سبيل الترف، وقضاء وقت الفراغ، وإذا فعل أحد منا ذلك هنا، فسوف يكون مرغمًا، وسوف يكون مضطرًا، للهرب من تلوث يحاصرنا من كل اتجاه!
ثم يبقي عندي سؤال للدكتور سرور، الذي كان شاهدا علي إسقاط الاستجوابات إياها: بالله عليك، هل أنت مرتاح الضمير، بعد إسقاطها، وهل تؤمن حقا، بأنه لا تلوث عندنا، من النوع الذي كانت ترصده الاستجوابات العشرة، أو غيره، وهل- وهذا هو المهم- تشرب من حنفية بيتك؟!