الغرب يريد الدول العربية وإيران سوقا لاستهلاك التكنولوجيا نقولا ناصر يبدو ان هناك اطارا عاما للاستراتيجية العربية يتبلور الان تجاه البرنامج النووي الإيراني بخاصة وتجاه ادخال التكنولوجيا النووية للمنطقة سواء امتلاكا أو شراء بعامة. وتتضح ملامح ثلاث ركائز لهذه الاستراتيجية اولها الرفض العربي ل «تسييس» موضوع التكنولوجيا النووية، وثانيها حق المنطقة في امتلاكها للاغراض السلمية بما في ذلك حق إيران، وثالثها اخلاء المنطقة من الاسلحة النووية واسلحة الدمار الشامل بما في ذلك الاسلحة النووية الاسرائيلية. وكان المقرر ان تبدأ في مقر الامانة العامة لجامعة الدول العربية بالقاهرة اجتماعات الدورة الثالثة والعشرين للجنة العربية لمتابعة النشاط النووي والصاروخي الاسرائيلي ومتابعة تنفيذ القرار الوزاري العربي الخاص ببلورة موقف عربي موحد لاخلاء منطقة الشرق الأوسط من السلاح النووي ووضع خطط مرحلية للتحرك دوليا لكسر سياسة الغموض النووي الاسرائيلية وبحث التنسيق العربي لاعمال مؤتمر الدول الاطراف في معاهدة عدم انتشار الاسلحة النووية لاستعراض المعاهدة عام 2010 والتحضير للجنة التحضيرية الثانية عام 2008 المقرر انعقادها بجنيف في 28 ابريل المقبل. وحسنا فعلت الدول العربية التي زارها بوش في جولته الأخيرة عندما تحفظت على الضغط الاميركي لتجنيدها ضد برنامج إيران النووي بالرغم من كون الولاياتالمتحدة «صديقا وحليفا وشريكا» كما قال عاهل البحرين الملك حمد بن عيسى آل خليفة وفعلت مصر افضل من ذلك عندما دافعت بقوة عن حق إيران في امتلاك التكنولوجيا الذرية للاغراض السلمية، لانها في الحقيقة كانت تدافع عن حقها وحق بقية العرب والشعوب النامية في دخول القرن الحادي والعشرين وهي غير محرومة من تكنولوجيا يمتلكها الغرب منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. فإيران موقعة على معاهدة حظر انتشار الاسلحة النووية وخاضعة لرقابة الوكالة الدولية للطاقة الذرية ومتعاونة معها، حيث تزامن وجود رئيس الوكالة البرادعي في طهران مع وصول الرئيس الاميركي جورج بوش الى الخليج العربي للتحريض ضدها اواسط الشهر الجاري، والاهم ان الخبراء يقولون انها غير قادرة على صنع اسلحة نووية لا بل إن المخابرات الاميركية اكدت انها اوقفت محاولات لها لصنعها منذ عام 2003 ، لكن طهران تقول انها تريد امتلاك التكنولوجيا النووية للاغراض السلمية، ويبدو ان المشكلة هي هذه على وجه التحديد، اي امتلاك إيران أو غيرها من الدول النامية للتكنولوجيا النووية بحيث تكسر احتكار النادي النووي لها ليظل العالم النامي أو الثالث أو المتخلف متخلفا ومشتريا مستهلكا فقط لهذه التكنولوجيا. ان إصرار الغرب على ان «المجتمع الدولي» مصمم على ان «الازمة حول برنامج إيران النووي باقية.. على جدول الاعمال» كما قال وزير الخارجية الالماني فرانك - وولتر شتانميير عشية اجتماع المانيا والدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الامن الدولي للاتفاق على حزمة ثالثة من العقوبات على إيران ليس اصرارا على عدم «السماح بتلك التكنولوجيا للاسلحة النووية» بل هو اصرار على عدم السماح لغير النادي النووي بامتلاك «تلك التكنولوجيا» سواء لاغراض حربية أو سلمية. ويتضح هذا الاصرار الغربي جليا في قوس الاحتياطي النفطي العالمي الاستراتيجي الممتد من آسيا الوسطى الى السعودية مرورا بالعراق وإيران حيث تتوافر اكبر قوة شرائية لمنتجات التكنولوجيا النووية وغير النووية الغربية وبخاصة العسكرية منها نتيجة لوفرة العائدات النفطية التي يحرص الغرب على اعادة تدويرها بمبيعاته التكنولوجية قبل ان تتراكم لتتحول الى احتياطي مالي إستراتيجي يمكنه ان يحقق قفزة نوعية في تنمية المنطقة. وخلال الايام القليلة الماضية كان هناك خبران يكشفان «الصمت» الاميركي بخاصة والغربي عامة حولهما الاهداف الحقيقية للحملة على إيران بقدر ما يكشف ازدواجية المعايير الغربية. الخبر الاول كان تسليم روسيالإيران الشحنة الثالثة من ثماني شحنات متعاقد عليها تزن كل منها احد عشر طنا من الوقود النووي وهو خبر لم يثر اي احتجاجات من النادي النووي لان هذا هو النموذج الذي يسعى النادي لترسيخه للعلاقة بينه وبين المستهلكين لمنتجاته النووية لكنه بالتأكيد كان سيثير عاصفة من الاحتجاجات لو ان إيران قد انتجت هذه الكمية أو اكثر أو اقل منها بنفسها، وكان الغرب بقيادة الولاياتالمتحدة قد أثار عاصفة كهذه عندما اعلنت طهران امتلاكها للمعرفة العلمية اللازمة لانتاج هذا الوقود. اما الخبر الثاني فكان نجاح دولة الاحتلال الاسرائيلي في اطلاق صاروخ باليستي طويل المدى ليقابل اطلاقه ب «صمت» غربي مطبق يذكر بالعاصفة الغربية الاحتجاجية على الصواريخ العراقية الاكثر تواضعا التي اتخذ منها الاميركان احدى الذرائع لغزو العراق وكذلك العاصفة التي اثيرت حول نجاح إيران في اطلاق صواريخ مماثلة اقصر مدى. وكان تحريض وزيرة خارجية دولة الاحتلال الإسرائيلي لروسيا من موسكو لكي تتخذ موقفا «حازما» من برنامج إيران النووي ذروة العجرفة المستقوية بدعم حليفها الاميركي فيما كان رئيس وزراء حكومتها في تل ابيب - وهي الوحيدة في الشرق الاوسط التي تمتلك اسلحة نووية دون أن تكون موقعة على معاهدة حظر انتشار الاسلحة النووية ولا خاضعة لاي رقابة دولية - يسوغ برنامجها الصاروخي الممول اميركيا بتكرار القول إن «جميع الخيارات على الطاولة» لمنع إيران من امتلاك اسلحة نووية. ان هذا الخلط الإسرائيلي الغربي المتعمد بين امتلاك إيران للتكنولوجيا النووية وبين «احتمال» امتلاكها لاسلحة نووية يستهدف منع إيران من امتلاك هذه التكنولوجيا لا منعها من امتلاك اسلحة نووية قال الخبراء الدوليون والوكالة الدولية للطاقة الذرية وتقرير الاستخبارات الاميركية نفسها انها لا تملكها ولا تملك حتى الآن القدرة على صنعها وانها اوقفت محاولة لبرنامج كهذا قبل اربع سنوات. اما الاستخدام المزدوج العسكري - المدني للتكنولوجيا النووية فهو حجة من غير المقبول رفعها سيفا مسلطا على برنامج إيران النووي فقط في وقت يتوزع فيه اكثر من «460» مفاعلا نوويا على بلدان العالم كافة، خصوصا بعد التوجه الاميركي الجديد برفع الحظر الذي كانت تفرضه واشنطن على امتلاك العرب لهذه التكنولوجيا أو في الاقل لمنتجاتها. ألم تكن مفارقة تكشف الازدواجية والتناقض في السياسة الخارجية لواشنطن ان يؤكد وزير الطاقة الاميركي صموئيل بودمان يوم الخميس المنصرم «اننا يجب ان نعترف بأن الطلب العالمي على الطاقة لا يمكنه إلا ان يزداد وان العالم لا يستطيع الاعتماد على الهيدروكربون وحده» ليعترف في عمان بحق الاردن وبلدان عربية اخرى في تنويع مصادر طاقتها بالاستثمار في الطاقة النووية بينما تنكر ادارته هذا الحق على إيران؟ ان هذا الاعتراف الاميركي المتأخر اكثر من ستين عاما لا تفسير له سوى ان واشنطن تسعى الى تلبية احتياجات السوق العربية لاستخدامات التكنولوجيا النووية قبل أن تمتلك إيران أو غيرها في العالم النامي هذه التكنولوجيا لتبيع منتجاتها بأسعار منافسة في هذه السوق الطبيعية المجاورة لإيران. ويبدو ان إيران اصبحت بعد إسرائيل المثال الصارخ لازدواجية المعايير الاميركية فقد كانت الولاياتالمتحدة هي اول من اسهم في انشاء محطات نووية إيرانية في عهد الشاه، وهي تدرك امكانية الاستخدام المدني - العسكري المزدوج لها، املا في ان تجعل من إيران الشاه قوة ردع في مواجهة الاتحاد السوفياتي السابق وربما من المفيد التذكير بأن روسيا ورثت محطة بوشهر من شركة سيمنز الالمانية التي ينساق وزير خارجية بلادها الآن متحمسا وراء الحملة التي تقودها واشنطن ضد البرنامج النووي الإيراني. لقد تزامنت ثلاثة احداث سلطت الضوء على حقيقة ما يرى الغرب فيه مشكلة في برنامج إيران النووي واظهرت المنطقة سوقا استهلاكية كبرى للتكنولوجيا الغربية تجعل من المنطقي تماما ان يبذل الغرب كل ما وسعه ليس فقط لكي لا يخسرها بل ايضا لمنعها من امتلاك المعرفة العلمية التي يمكن ان تحولها إلى منتج منافس لهذه التكنولوجيا. كان الحدث الاول هو الاستئناف الروسي لشحن الوقود النووي لمحطة بوشهر الإيرانية وكان الحدث الثاني هو الدخول الفرنسي القوي تحت مظلة «الصداقة» الفرنسية - الاميركية «الجديدة» إلى المنطقة العربية لتسويق المنتجات الفرنسية للتكنولوجيا النووية بصفة رئيسية وكان الحدث الثالث هو استغلال بوش خلال جولته في المنطقة ل «البعبع الإيراني» لتسويق منتجات التكنولوجيا العسكرية الاميركية، والقاسم المشترك بين الاحداث الثلاثة يتلخص في تصميم غربي واضح على اعادة تدوير العائدات النفطية الاقليمية، عربية وإيرانية على حد سواء، وكذلك على ابقاء المنطقة مستهلكة لا منتجة للتكنولوجيا نووية كانت أو عسكرية، باستثناء الحليف الإستراتيجي الإسرائيلي طبعا. عن صحيفة الوطن القطرية 31/1/2008