عودة إلى الديمقراطية التوافقية في لبنان مسعود ضاهر بعد أن أفلست كل من الموالاة والمعارضة في تسويق مشروعهما الأحادي الجانب والذي يغلب تكتلاً لجماعات طائفية ضد أخرى، شهدت الساحة اللبنانية مؤخراً موجة من التفاؤل الحذر. فتصريحات الساسة المعنيين بحل المسألة اللبنانية اتجهت جميعها لتفضيل الحل التوافقي وانتخاب رئيس جديد للبنان وفق الأصول الدستورية، ويكون مقبولاً من جميع الأطراف المتنازعة، وقادراً على تجديد الحياة السياسية في لبنان. كان اللبنانيون بغنى عن هذا التشنج وعن سياسة حافة الهاوية لأن تاريخهم السياسي حافل بالمساومات. فالنظام السياسي اللبناني قائم على توازنات طائفية هشة لكي يتلاءم مع مبادئ الديمقراطية التوافقية التي شكلت صمام الأمان للبنان واللبنانيين منذ قيام دولة لبنان الكبير عام 1920 حتى الآن. وغالباً ما قاد الخروج عنها أو تجاهلها إلى تدخلات إقليمية ودولية كانت تفضي إلى حرب أهلية لم يجن منها اللبنانيون سوى الدمار والخراب. اليوم، وبعد أن استباحت التصريحات النارية والاتهامات المتبادلة بين أطراف الموالاة والمعارضة كل المحظورات الأخلاقية والسياسية، عاد الرهان مجدداً على المبادرات الوفاقية التي أطلقها كل من الرئيس نبيه بري، والبطريرك الماروني، والرئيس سليم الحص وغيرهم من عقلاء لبنان. وشهد لبنان سيلاً لم ينقطع من الوسطاء الإقليميين والدوليين ليذكروا زعماء الطوائف بألف باء الصيغة اللبنانية التي بني عليها نظامهم السياسي. فالمفكر اللبناني ميشال شيحا، وهو الأب الروحي للصيغة اللبنانية ودستورها وميثاقها الوطني، رأى أن لبنان هو بلد الطوائف المتعايشة. وسياسة العنف لا تحل أي مشكلة فيه، لأنه محكوم دوماً بالتوافق. وهي صيغة متقدمة لإقامة نظام ديمقراطي توافقي في مجتمع يضم ثماني عشرة طائفة وعدة قوميات عرقية. وبالتالي، فهي صيغة عملية للحفاظ على الهدوء والاستقرار على الطريقة السويسرية دون أن يتساوى فيها الجميع في الحقوق والواجبات. ويكمن دورها الأساسي في منع الصدامات الدموية، وتغليب التوافق في جميع القضايا المصيرية حتى لا يتحكم زعيم طائفة واحدة أو حلف طائفي بزعماء الطوائف الأخرى. عندئذ يبحثون عن الدعم من خارج الحدود، ويتحول لبنان إلى ساحة لصراع الآخرين على أرضه كما حصل في العقود الماضية. دلالة ذلك أن الديمقراطية التوافقية هي صيغة عقلانية لإدارة مجتمع متعدد الطوائف والمذاهب والقوميات. لأن الشعب اللبناني ليس مستعداً بعد لبناء نظام علماني يتجاوز الولاء الطائفي أو المذهبي إلى المواطنة والولاء الوطني. لكنها صيغة للتعايش بين الطوائف وليس للاندماج الوطني. وهناك دراسات علمية تؤكد أنها أكثر تطوراً من النظام “الإسرائيلي" الذي يعتمد سياسة التمييز العنصري بين الأديان والقوميات. وتعمل “إسرائيل" دوماً على ضرب الصيغة اللبنانية عبر تحريك العصبيات الطائفية والمذهبية لإفشال الديمقراطية التوافقية ومنع قيام دولة عصرية مستقرة في لبنان. ويتحمل زعماء لبنان منذ الاستقلال حتى الآن المسؤولية الأساسية في عدم الاستقرار السياسي وتعطيل المؤسسات الإدارية والعسكرية والسياسية فيه بسبب حرصهم الشديد على تغليب مصالحهم الشخصية الضيقة على حساب مصلحة لبنان العليا. لذلك تبدو الديمقراطية التوافقية اليوم عاجزة عن تجديد بنية النظام اللبناني لأن تحالف زعماء الميليشيات الطائفية ورأس المال الريعي بات يهدد المجتمع والدولة معاً. وفي حال عجز هذا التحالف عن انتخاب رئيس جديد للجمهورية وفق الدستور اللبناني ستنهار مؤسسات الدولة بأكملها، وقد تصعب إعادة إحيائها. وهذا ما دفع وزراء الترويكا الأوروبية (فرنسا وإسبانيا وإيطاليا) إلى دعم لبنان الموحد، وتنفيذ قرار مجلس الأمن الدولي ،1701 والحرص على بقاء قوات الأممالمتحدة في جنوب لبنان حتى تنفيذ كامل بنوده. ولمحوا إلى مباركة أمريكية ضمنية للتوافق على الاستحقاق الرئاسي. وأول واجبات الساسة اللبنانيين العمل الجاد على تهيئة أجواء إيجابية تشجع على الوفاق واحترام الدستور، والتزام الأطر السياسية والوسائل الديمقراطية لحل الخلافات القائمة، وتغليب منطق التفاهم على منطق التصادم. فموقع رئاسة الجمهورية هو الموقع الأول في الدولة ويرمز إلى فرادة الصيغة اللبنانية في المشرق العربي. فرئيس الجمهورية مؤتمن على الدستور اللبناني وعلى وحدة أرض لبنان وشعبه، وإعادة التوازن الحقيقي بين المؤسسات. أما التلويح بانتخاب الرئيس بصورة مخالفة للدستور، أو بالفوضى وتأليف حكومة ثانية فيرهن مستقبل لبنان واللبنانيين للمحاور الدولية بقيادة أمريكية، أو الإقليمية بقيادة إيرانية. بعد إعلان الرئيس بري عن تأجيل جلسة انتخاب رئيس الجمهورية إلى 12 نوفمبر/ تشرين الثاني 2007 “من أجل المزيد من التوافق على رئيس يشكل رمزاً لوحدة لبنان ومنعته"، بدا أن جميع الجهود تتجه إلى انتخاب رئيس توافقي وفق الأصول الدستورية، وبما يضمن أمن لبنان واستقراره. في حين، أعربت بعض الأوساط السياسية عن خشيتها من الإغراق في التفاؤل. فحظوظ النجاح والفشل لا تزال متساوية. إلا أن الأغلبية الساحقة من اللبنانيين، على اختلاف طوائفهم وميولهم السياسية، يرفضون كل أشكال الوصاية والهيمنة، ويتمسكون بالديمقراطية التوافقية التي تتطلب تضافر الجهود المحلية والإقليمية والدولية للوصول إلى توافق داخلي حقيقي. فالأزمة اللبنانية لا تحل بمجرد انتخاب رئيس توافقي للجمهورية بل أيضاً بتهدئة مخاوف اللبنانيين من جميع الطوائف بما يضمن استقرار النظام السياسي، وتفعيله، وإعادة إحياء المؤسسات الرسمية، وتطبيق بنود الدستور، واحترام مبدأ الفصل بين السلطات، ومواجهة الدين العام، وبناء الدولة العصرية القادرة على تحقيق التنمية البشرية والاقتصادية المستدامة. عن صحيفة الخليج الاماراتية 28/10/2007