الحرب الباردة تتوهج والساخنة تشتعل د. جلال فاخوري إن اصطلاح الحرب الباردة الذي شاع استخدامه في العلاقات الدولية بعيد الحرب الكونية الثانية كان يحمل في طيّاته و جنباته الملتوية حالة عداء و توتر شديدين بين المعسكرين الرأسمالي و الاشتراكي السوفييتي السابق و منذ سنة 1950 حين نشأ هذا المفهوم على يد ستالين لكنه ظل هذا الصدام غير المعلن يجسّد تناقض المصالح بين الرأسمالية و الشيوعية سابقاً و لقد شهد العالم تناقضاً جذرياً بين المصالح لدول الكبرى حيث أن مضمون المعتقدات الأيديولوجية ظلّت تسيطر و إن لم تصل في حدودها العليا إلى حدود الحروب الساخنة بسبب توازن القوى الكبرى في الرعب النووي لذلك فجميع الصراعات التي دارت منذ ذلك الحين بقيت مقتصرة على وسائل الإعلام و التجسس او الصراعات الإقتصادية أو المبيعات العسكرية... و لعل من ميزات المراحل الاولى للحرب الباردة أنها كانت تغيض بأسباب الصراع العقائدي مما حدا ببعض الحروب الإقليمية و ليست الدولية إلى الاستعار في حدود قابلة للسيطرة عليها ففي خمسينات القرن الماضي قامت حروب إقليمية في فيتنام و كمبوديا و كوريا و لاوس و الهند و باكستان و الشرق الأوسط و هي جميعها تتدرج تحت عنوان و اسم حروب النيابة أو النائبة التي تنشأ نيابة عن الدول الكبرى أي حروب غير مباشرة دفاعاً عن المصالح و لعل أسوأ ما يُقال عن هذه الحروب أن الفقراء في العالم كانوا يدافعون عن مصالح الأقوياء في حروب هم ضحاياها. و لقد بقي نظام القطبية الثنائية قائماً على هذه الأشكال من المصالح و الحروب إلى ان انتهى القطب السوفييتي سنة 1991 و تولت الولاياتالمتحدة إدارة العالم بأن نصّبت نفسها الشرطي الحامي لحرية العالم و هي طبعاً تندفع وراء هذا الشعار لخلق فضاء حيوي أمريكي يصب كله في مصلحة الجيب و المفهوم الأمريكي. وبهذه السيطرة الكلية الأمريكية على العالم أصيب مجلس الأمن بالشلل التام ولم يعد بمقدوره كبح جماح أية دولة عن القيام بمغامرات عسكرية فتقوقع الروس داخل بلادهم يلملمون ما تساقط من جراحهم و أصبح بإمكان الولاياتالمتحدة أن تطارد بخيولها الجامحة في كل العالم فمن حرب أفغانستان التي خرج منها الروس في سبعينات القرن الماضي بخيبة كبيرة إلى العراق التي لم يستطع الروس ان يمنعوا الأمريكان من غزوها إلى الصومال التي خرج الأمريكان منها منهزمين لكن الطموح الأمريكي لم يكتف بجر الأقاليم السوفييتية السابقة إلى حلف الأطلسي بل بدؤوا يمدون جيران الروس بالعون و الدعم لتشديد المضايقة على الروس فنصبوا في جورجيا رئيساً تابعاً لأمريكا و كذلك في أوكرانيا و لاتفيا و غيرها الكثير على الحدود الروسية لكن المصالح الروسية لم تنته بالانكفاء داخل موسكو و لم يضعف الروس عسكرياً إلى الحد الذي تستطيع معه دولة كجورجيا التي كانت جزءاً من الاتحاد السوفييتي أن تفرض مصالحها و تنتزع أقاليم روسية كابخازيا الإنفصالية عن جورجيا و مثلها أوسينيا الجنوبية لجورجيا و بدفع أمريكي علني قامت جورجيا و بغباء سياسي بالغ بمحاولات استعادة أوسينيا و أبخازيا عسكرياً و حيث أن المصالح الروسية ما تسمح لجورجيا بهذه اللعبة الخطرة و حيث أن المخابرات الروسية لا زالت نشطة في متابعة اللعب السياسي الأمريكي الخطر في العالم فتحركت فوراً و بقوات عسكرية كبيرة لحماية مصالحها في هذه الأقاليم و اتهمت أمريكا بأن عسكريين أمريكان و أسلحة إسرائيلية في حرب جورجيا على هذه الأقاليم مما حدا بالروس إلى محاولة شطب الحكومة الجورجية عسكرياً و التي قالت عنها جورجيا بأن الروس يحتلون جورجيا و هكذا و على مدى التاريخ تشتعل الحروب تارة الباردة و تارة الساخنة لكنها دوماً تتوهج تبعاً للمصالح فالحرب الباردة تتوهج و الحرب الساخنة تحترق أو تحرق غيرها . إنها لعبة السياسة و التي لا يمكن التفريط بها أو إهمالها لأنها تعبير عن الوجود و لم يعد في السياسة ما يسمى حروب باردة و ساخنة و لكن دوماً يوجد مصالح و حروب لاجلها. إن استغفال البشرية ممكن لفترة و لكنه لن يطول و جورجيا لم تتعلم درساً من لبنان أو العراق و كذلك أمريكا لم تستفد من درس العراق و لبنان و أفغانستان و أيضاً لم تستفد من حرب إسرائيل على لبنان، فلم يعد من الحكمة الدولية أن تُبقي على الثقة العمياء بأمريكا فالمصالح أهم من الشعوب و المبادئ و أقوى من العسكريتاريا نفسها. عن صحيفة الرأي الاردنية 11/9/2008