إسكان النواب: إخلاء سبيل المحبوس على ذمة مخالفة البناء حال تقديم طلب التصالح    بكام الفراخ البيضاء اليوم؟.. أسعار الدواجن والبيض في الشرقية السبت 4 مايو 2024    اليوم، تطبيق أسعار سيارات ميتسوبيشي الجديدة في مصر    شهداء وجرحى في قصف لطيران الاحتلال على مناطق متفرقة بقطاع غزة (فيديو)    5 أندية في 9 أشهر فقط، عمرو وردة موهبة أتلفها الهوى    احذروا ولا تخاطروا، الأرصاد تكشف عن 4 ظواهر جوية تضرب البلاد اليوم    تفاصيل التحقيقات مع 5 متهمين بواقعة قتل «طفل شبرا الخيمة»    الداخلية توجه رسالة للأجانب المقيمين في مصر.. ما هي؟    المطرب هيثم نبيل يكشف كواليس فيلم عيسى    وفاة الإذاعي الكبير أحمد أبو السعود.. شارك في حرب أكتوبر    إغماء ريم أحمد فى عزاء والدتها بمسجد الحامدية الشاذلية    دراسة جديدة تحذر من تربية القطط.. تؤثر على الصحة العقلية    الإسكندرية ترفع درجة الاستعداد القصوى لاستقبال أعياد القيامة وشم النسيم    إسماعيل يوسف: «كولر يستفز كهربا علشان يعمل مشكلة»    صحيفة: ترامب وضع خطة لتسوية سلمية للنزاع في أوكرانيا    رسالة من مشرعين ديمقراطيين لبايدن: أدلة على انتهاك إسرائيل للقانون الأمريكي    لو بتحبي رجل من برج الدلو.. اعرفي أفضل طريقة للتعامل معه    تشكيل الأهلي المتوقع لمواجهة الجونة    المحكمة الجنائية الدولية تحذّر من تهديدات انتقامية ضدها    مالكة عقار واقعة «طفل شبرا الخيمة»: «المتهم استأجر الشقة لمدة عامين» (مستند)    عيار 21 الآن بعد الارتفاع الجديد.. سعر الذهب والسبائك بالمصنعية اليوم السبت في الصاغة    مصطفى بكري عن اتحاد القبائل العربية: سيؤسس وفق قانون الجمعيات الأهلية    دفنوه بجوار المنزل .. زوجان ينهيان حياة ابنهما في البحيرة    جوميز يكتب نهاية شيكابالا رسميا، وإبراهيم سعيد: بداية الإصلاح والزمالك أفضل بدونه    37 قتيلا و74 مفقودا على الأقل جراء الفيضانات في جنوب البرازيل    العالم يتأهب ل«حرب كبرى».. أمريكا تحذر مواطنيها من عمليات عسكرية| عاجل    وكالة فيتش تغير نظرتها المستقبلية لمصر من مستقرة إلى إيجابية    صوت النيل وكوكب الشرق الجديد، كيف استقبل الجمهور آمال ماهر في السعودية؟    رشيد مشهراوي ل منى الشاذلي: جئت للإنسان الصح في البلد الصح    معرض أبو ظبي للكتاب.. جناح مصر يعرض مسيرة إبداع يوسف القعيد    ارتفاع جديد.. أسعار الحديد والأسمنت اليوم السبت 4 مايو 2024 في المصانع والأسواق    حسام موافي يوضح خطورة الإمساك وأسبابه.. وطريقة علاجه دون أدوية    سبت النور.. طقوس الاحتفال بآخر أيام أسبوع الآلام    هبة عبدالحفيظ تكتب: واقعة الدكتور حسام موافي.. هل "الجنيه غلب الكارنيه"؟    مصرع شاب في حادث اليم بطريق الربع دائري بالفيوم    برش خرطوش..إصابة 4 من أبناء العمومة بمشاجرة بسوهاج    هييجي امتي بقى.. موعد إجازة عيد شم النسيم 2024    حازم خميس يكشف مصير مباراة الأهلي والترجي بعد إيقاف تونس بسبب المنشطات    عرض غريب يظهر لأول مرة.. عامل أمريكي يصاب بفيروس أنفلونزا الطيور من بقرة    عضو «تعليم النواب»: ملف التعليم المفتوح مهم ويتم مناقشته حاليا بمجلس النواب    «البيطريين» تُطلق قناة جديدة لاطلاع أعضاء النقابة على كافة المستجدات    سلوي طالبة فنون جميلة ببني سويف : أتمني تزيين شوارع وميادين بلدنا    دينا عمرو: فوز الأهلي بكأس السلة دافع قوي للتتويج بدوري السوبر    أول تعليق من الخطيب على تتويج الأهلي بكأس السلة للسيدات    تعثر أمام هوفنهايم.. لايبزيج يفرط في انتزاع المركز الثالث بالبوندسليجا    250 مليون دولار .. انشاء أول مصنع لكمبوريسر التكييف في بني سويف    برلماني: تدشين اتحاد القبائل رسالة للجميع بإصطفاف المصريين خلف القيادة السياسية    توفيق عكاشة: الجلاد وعيسى أصدقائي.. وهذا رأيي في أحمد موسى    أحمد ياسر يكتب: التاريخ السري لحرب المعلومات المُضللة    دعاء الفجر مكتوب مستجاب.. 9 أدعية تزيل الهموم وتجلب الخير    دعاء الستر وراحة البال .. اقرأ هذه الأدعية والسور    كندا توقف 3 أشخاص تشتبه في ضلوعهم باغتيال ناشط انفصالي من السيخ    تقرير: 26% زيادة في أسعار الطيران السياحي خلال الصيف    وكالة فيتش ترفع نظرتها المستقبلية لمصر وتثبت تصنيفها عند -B    طبيب يكشف سبب الشعور بالرغبة في النوم أثناء العمل.. عادة خاطئة لا تفعلها    أخبار التوك شو| مصر تستقبل وفدًا من حركة حماس لبحث موقف تطورات الهدنة بغزة.. بكري يرد على منتقدي صورة حسام موافي .. عمر كمال بفجر مفاجأة    «يباع أمام المساجد».. أحمد كريمة يهاجم العلاج ببول الإبل: حالة واحدة فقط بعهد الرسول (فيديو)    المفتي: تهنئة شركاء الوطن في أعيادهم ومناسباتهم من قبيل السلام والمحبة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



«صبرا وشاتيلا» بعد خمسة وعشرين عاماً
نشر في محيط يوم 12 - 09 - 2007


«صبرا وشاتيلا» بعد خمسة وعشرين عاماً
بيان نويهض الحوت
ضحايا المجازر لا يُقتلون، فقط، يوم يُقتلون، تلك هي المرة الأولى؛ إنهم يُقتلون في كل مرة تعجز فيها الأصوات الحرة عن الجهر بالحق والحقيقة، وعن إدانة القتلة.. وتلك هي المأساة الكبرى، مأساة الضحايا الأحياء، الذين يحملون في ذاكرتهم، وفي وجدانهم، وفي عيونهم، رسالة ضحاياهم الراحلين.
مجزرة صبرا وشاتيلا ليست واحدة من أبشع مجازر القرن العشرين، فحسب، وليست مجرد رقم على لائحة المجازر الإسرائيلية ضد الفلسطينيين والعرب؛ سرها في أنها مأساة لم يُسدل الستار عليها بعد، وهو لن يُسدل ما دام الأحياء من أبنائها يعيشون كوابيسها، يتنقلون ويسافرون ويعملون ويتزوجون وينجبون، لكنهم بوعي منهم أو بلا وعي يكتشفون أن مجزرة صبرا وشاتيلا هي التي تقود حياتهم، بعد أن ظنوا أن بعض النجاح هنا أو هناك، أو أن الإقامة في بلد يبعد آلاف الأميال عن أرض المجزرة، قد تنسيهم عذاباتهم؛ هؤلاء هم الضحايا الأحياء.
كانت ساعة البداية في «صبرا وشاتيلا»، مع غروب يوم الخميس في السادس عشر من أيلول/ سبتمبر سنة ,1982 وكانت النهاية إن تكن للمجازر من نهاية الساعة الواحدة في عز الظهيرة من يوم السبت في الثامن عشر من الشهر نفسه. وبلغة الساعات، فالمجزرة امتدت ثلاثاً وأربعين ساعة متواصلة.
كان ليل «صبرا وشاتيلا» قد تحول إلى نهار نتيجة الإنارة الإسرائيلية المتواصلة بالمدفعية وبالطائرات، كما تحول مخيمها وأحياؤها الشعبية إلى «جزيرة» مستباحة لميليشيات «القوات اللبنانية» وغيرها من الأحزاب والميليشيات المؤازرة لها، وقد أحاط بهذه «الجزيرة» جيش الدفاع الإسرائيلي؛ غير أن عناصر هذا الجيش تصرفت وكأنها أشبه بعناصر فرقة مسرحية، تقوم بتنفيذ التعليمات التي تتلقاها صراحة أو ضمناً من المخرج أرييل شارون ومساعده رفائيل إيتان، وملخص التعليمات أن عليها أن تحيط بمسرح شاتيلا من كل جانب وكل منفذ، وعلى سطوح كل بناء مرتفع، وأنه مهما حصل، فهي لا يجدر بها أن ترى، أو تسمع، أو تشهد!
كثيرون من الإسرائيليين المحاصِرين كانوا يعلمون جيداً بما يجري من قتل للعائلات وللصغار وللكبار، ومن عمليات تعذيب وخطف، ومن دفن للأحياء، ومن طمس لمعالم المجزرة بالبولدوزرات.. ومنهم من أرسل التقارير، غير أن التقارير لم تصل إلى القادة العسكريين والسياسيين الكبار الذين يعرفون جيداً أحكام القوانين الدولية، فالمسؤولية الجنائية وفقاً لاتفاقية جنيف الرابعة (1949)، والبروتوكول الأول (1977)، تقع على عاتق المسؤولين المحتلين الذين يثبت أنهم كانوا يعلمون، أو أنهم كانوا يجب أن يعلموا، بأن هناك جرائم كانت ترتكب بشكل منظم، وبأنهم كانت لديهم السلطة للتدخل من أجل منع الممارسات الإجرامية.
من مهازل التاريخ أن يصدق العالم أن قادة الجيش الإسرائيلي لم يكونوا على علم بما يجري، كما ورد في التقرير الإسرائيلي الرسمي (تقرير كاهان)، الصادر في شباط/ فبراير سنة ,1983 وهو التقرير الذي اشتهر بأنه رمز للديموقراطية في إسرائيل!
اليوم.. وبعد خمسة وعشرين عاماً على مجزرة صبرا وشاتيلا لم يحاكَم المجرمون القتلة الذين قاموا بارتكابها من عناصر الميليشيات اللبنانية، كذلك لم يحاكَم أحد من الإسرائيليين الذين قاموا بحماية المجرمين القتلة وتسهيل مهماتهم!! غير أن أصحاب الضمائر الحية، تكلموا. في تاريخ المجازر يتكلم الموت أولاً، ثم يتكلم القتيل، ثم يتكلم القاتل.
وتكلم الموت أولاً.. تكلم طويلاً في مرحلة رفع الأنقاض والبحث عن الضحايا وأشلاء الضحايا، فمنذ منتصف يوم السبت في الثامن عشر من أيلول/ سبتمبر أصبحت «صبرا وشاتيلا» البقعة الأكثر شهرة في العالم، وراحت وسائل الإعلام العالمية تنقل المشاهد والتفاصيل والشهادات. في تلك الأيام لم يكن في استطاعة أحد أن يمنع أحداً من الكلام أو الصراخ أو البكاء الهستيري، فمرحلة «المنع» و«القمع» تلت مرحلة انفضاض مسرح الجريمة من المراسلين والمصورين الأجانب، مباشرة.
كانت الصور أكثر بلاغة من الكلام، فأبدعت المصورة الأميركية مايا شون، كما أبدع المصور الياباني ريوشي هيروكاوا، وتميز هذان بحرصهما المستمر على عرض صورهما في المعارض والمحافل الدولية حتى يومنا هذا.
أمّا التقارير والمقالات في الصحافة العالمية، فكانت الفصل الأول في سفر المجزرة.
كان من أبرزها مقالات روبرت فيسك، وكارل بوكالا، وتوماس فريدمان، ومارك فاينمان، وراي ولكنسون، وكولن كامبل، ولورين جينكينز، وزئيف شيف؛ أمّا شهادة جان جينيه: «أربع ساعات في شاتيلا»، فتستحق أن يطلق عليها شهادة العصر، لبلاغتها، وفلسفتها، وإنسانيتها، وعمقها، وتحليلها الذي لا يصدر إلاّ عن عقل جبار، ووجدان مرهف؛ هكذا راح يصف الحب والموت وهو يقف أمام ضحية:
«الحب والموت. هاتان الكلمتان سرعان ما تقرن الواحدة بالأخرى كلما كُتبت إحداهما. كان عليّ أن أذهب إلى شاتيلا لأدرك فحش الحب وفحش الموت. في الحالتين ليس لدى الجسد شيء أكثر ليخبئه؛ الأوضاع، التعرجات، الإيماءات، العلامات، حتى الصمت، يخص هذا العالم وذاك.
كان جسد رجل بين الثلاثين والخامسة والثلاثين من العمر ممدداً ووجهه إلى أسفل. كأن الجسد كله لم يكن شيئاً غير مثانة على شكل رجل، انتفخت هكذا من الشمس، ومن التحلل الكيماوي، حتى التصق السروال به بشكل محكم وكأنه سيتشقق عند الردفين والفخذين.
الجزء الوحيد من الوجه الذي تمكنت من أن أراه كان بنفسجياً وأسود. وقليلاً فوق الركبة تستطيع أن ترى جرحاً في الفخذ تحت القماش الممزق. سبب الجرح: حربة، أو مدية، أو خنجر؟ الذباب متجمع على الجرح ومن حوله. رأسه كان أكبر من بطيخة، بطيخة سوداء. سألت عن اسمه؛ كان مسلماً».
من هو؟ «فلسطيني، أجابني رجل في نحو الأربعين من عمره بالفرنسية...».
باللغة العربية، كانت المقالات الموقعة أندر من قطرات الماء في صحراء، لكن هذا لا يلغي أهمية القلائل الذين تصدوا للكتابة وجمع الشهادات، فكان منهم زكي شهاب وليلى شهيد برّادة ومنى سكرية. وفي الذكرى الرابعة للمجزرة يوم كان الصمت يسود لبنان كله، كان إلياس خوري أول من كسر أجواء الصمت على صفحات «السفير».
سرعان ما انتقل «الموت» من عالم المقالات إلى عالم الكتب بلغات متعددة، إذ شهدت الأعوام الأولى غزارة في الإنتاج لم تشهدها الأعوام اللاحقة. فقبل انتهاء سنة 1982 كان أمنون كابليوك أصدر كتابه الصغير «صبرا وشاتيلا: تحقيق حول مجزرة»، وهو من أكثر المراجع دقة؛ وفي السنة التالية أصدر آبي فايسفيلد كتابه «صبرا وشاتيلا: أوشويتز جديدة»؛ أمّا كتاب المحامي الأميركي فرانكلين لامب: «المسؤولية القانونية الدولية عن مجزرة صبرا وشاتيلا»، فأضحى مرجعاً قانونياً بارزاً، كما أضحت الصور التي التقطها لمقر القيادة الإسرائيلية المؤقت وللأمكنة القريبة قبل أن تحدث فيها أية تغييرات، وثيقة دامغة تؤكد معرفة الإسرائيليين بما كان يجري؛ ثم أصدر إيلان هاليفي، سنة ,1984 كتابه «إسرائيل: من المجازر إلى إرهاب الدولة»، ويغني عنوان الكتاب عن شرح مضمونه، وهاليفي هو المتميز بالتحليل الدقيق.
هناك الكثير من الكتب التي احتوى بعض فصولها عن صبرا وشاتيلا، فقبل انتهاء سنة 1982 صدر كتاب جاكوبو تيمرمان «الحرب الأطول: إسرائيل في لبنان»؛ والكاتب روسي يهودي ولادة، وأرجنتيني نشأة، وإسرائيلي موطناً، وكان دفع بكتابه إلى المطبعة قبيل حدوث المجزرة، ثم عاد وأضاف فصلاً أخيراً عنها، تساءل فيه:
«لماذا يعجز الإسرائيليون عن إدراك المستوى الإجرامي العالي في حملة جيشهم ضد الشعب الفلسطيني؟ ... ما هو الشيء الذي حوّلنا إلى مجرمين على هذه الدرجة من الكفاءة؟
«أنا أخشى أننا في لاوعينا الجماعي، ربما نحن لا نرفض بشكل كلي إمكان إبادة الشعب الفلسطيني...».
في العامين الأولين بعد المجزرة كانت أبرز الكتب: «معركة بيروت: لماذا غزت إسرائيل لبنان؟» لميشيل جانسن، و«المثلث الحاسم: الولايات المتحدة، إسرائيل والفلسطينيون» لناعوم تشومسكي، و«المضيّ حتى آخر الطريق: أمراء الحرب المسيحيون، المغامرون الإسرائيليون، والحرب في لبنان» لجوناثان راندال، و«الصراع النهائي: الحرب في لبنان»، لجون بالوك.. وغيرها كثير.
كذلك كانت مرحلة الأعوام الثلاثة الأولى غنية بالمؤتمرات والتحقيقات «القضائية»، وقد عقدت في كل من: نيقوسيا؛ أوسلو؛ أثينا؛ طوكيو؛ وبون. ونشرت الشهادات والتقارير التي قدمت إلى هذه المؤتمرات في مجلدات، وتم تصوير بعضها على شرائط فيديو، كالشهادات التي قدمت إلى اللجنة القضائية المؤلفة من دول اوروبا الشمالية، في أوسلو، وما زالت «محكمة أوسلو» التي عقدت في تشرين الأول/ أكتوبر ,1982 هي الأهم في «أرشيف الغزو الإسرائيلي للبنان ومجزرة صبرا وشاتيلا»، وذلك لاتباعها أدق الأصول في استجواب الشهود.
أمّا أكثر التحقيقات شهرة فكان تحقيق اللجنة الدولية التي أرسلت موفديها إلى لبنان للتحقيق في الانتهاكات الإسرائيلية للقوانين الدولية في اجتياحها للبنان، خلال صيف ,1982 واشتهر تقريرها باسم رئيس اللجنة القاضي ماك برايد، وتميز «تقرير ماك برايد» في إدانته للجانب الإسرائيلي.
أمّا الدور الأكبر فكان لنشرات الأنباء على شاشات التلفزة العالمية حين راح مراسلوها ينقلون إلى العالم أحداث المجزرة المروعة، وما كان مثل هذه الأجواء ليتوفر في مجزرة دير ياسين، ولا في سواها من المجازر السابقة. وهذا ما فتح أعين الصهاينة على أهمية التوثيق المرئي والمسموع بالنسبة إلى «الهولوكوست»؛ فهم، على الرغم من إصدارهم أكثر من كتاب جديد شهرياً عن الهولوكست، وبتواصل، طوال العقود السابقة، فقد باشروا فقط منذ صيف 1982 بتسجيل مقابلات مطولة مع الناجين من الهولوكوست، ومسجلة على أشرطة فيديو، وكانت هذه الأشرطة منطلق «أرشيف الهولوكست» الذي افتتحته جامعة ييل الأميركية، بعد عام.
توقفت الكتابة عن «صبرا وشاتيلا» إلى حدود النسيان بعد ثلاثة أعوام أو أربعة على الأكثر من الحدث المروع؛ غاب زخم المقالات والأفلام الموثقة، وغابت الكتب، ونكاد نقول غابت الأحاديث.
وحدهم أهل صبرا وشاتيلا ما كان ممكناً لهم أن ينسوا ما حدث. كانوا يفضلون النوم في الملاجئ حتى بعد أن عادت بيروت إلى الحياة من غير قصف ولا اعتداءات. استمروا يخافون الأشباح، فالموت جماعة أيسر قليلاً من الموت فرادى.
غير أن الموت ما عاد هو الموت. والحياة ما عادت هي الحياة. كل شيء تغير.
في تلك الأعوام الصعبة الأولى، وبينما كان كل شيء يتغير، كنت أقوم بتدوين شهادات الناجين من المجزرة، من ذوي الضحايا، ومن الشهود، وكانت السلطات العليا تحرّم ذكر كلمة «المجزرة»، لكنه على الرغم من ذلك، بقيت هناك عدة طرق ووسائل لإجراء المقابلات، فأهل المنطقة تعاونوا معي تعاوناً مذهلاً. صحيح أن الكثيرين تكلموا في المرحلة الأولى يوم كانت أشباح الموت، ورائحة الموت، وبولدوزرات الموت، هي الطاغية على مسرح شاتيلا، لكنهم تكلموا في ذهول، ومنهم من كان يصرخ ولا يتكلم. أمَا بعد ذلك، فهم راحوا يتكلمون بألم شديد، لكنه مصحوب بوعي عميق أيضاً. يا إلهي، كم كانوا بأمس الحاجة إلى من يستمع إليهم في زمن القهر.
انتهيت في منتصف الثمانينيات من مشروع التاريخ الشفهي، ومن مشروع الدراسة الميدانية، كذلك انتهيت من جمع ما أمكن من وثائق، وخصوصاً لوائح الأسماء التي كانت من أولى المحرمات. لكنني ما أن انتهيت من ذلك حتى وجدتُ نفسي أكتفي بحفظ الملفات والأشرطة في أكثر من مكان، كي أعود إليها مستقبلاً، أو يعود إليها غيري. كنت أشعر وكأن مهمتي الرئيسية قد انتهت، وهي مهمة التوثيق.
غير أن «صبرا وشاتيلا» بقيتْ إلى جانبي، في أعماقي، في أيامي، وبقيتُ على تواصل مع أم علي، وأم زينب، وأم أحمد، وأم ماجد، وسهام، وخديجة، وأحمد، ومنير. لم تنقطع الزيارات، ولم تتباعد الذكريات. ومن خلال تواصلي مع الأحباء هؤلاء، ومع غيرهم، كنت أدرك جيداً أن «صبرا وشاتيلا» ما زالت تمشي وراء ماضيها، وقد تعيش أيامها، لكنها لا تحيا.
لسنا في صدد الحديث عن العذابات التي عانى منها مخيم شاتيلا في الأيام الدامية المعروفة ب «حرب المخيمات» ما بين سنتي 1985 و,1987 ولا عن التحولات الديموغرافية التي أعقبتها، وخصوصاً بالنسبة إلى نزوح الفلسطينيين إما إلى مكان آخر في الداخل، حتى لو كان من «الحرش» المقابل لمستشفى عكا إلى قلب مخيم «شاتيلا»، أو إلى خارج لبنان كله، وخصوصاً نحو الدول الإسكندنافية.
قالوا إن الزمان تغير. وإن الحكم في لبنان تغير. وأقفلت صفحة «الحروب الداخلية»، أو «الحرب الأهلية»، او «حروب الغير على أرضنا»، وأصبح لبنان منذ سنة ,1989 يعيش مرحلة ما بعد «الطائف»، وارتفع الشعار «عفا الله عمّا مضى».. أمّا بالنسبة إلى «صبرا وشاتيلا» فلم يكن هناك أي اعتراف بما جرى، كي يكون هناك عفو من الله سبحانه وتعالى، أو من عبيده المقهورين؛ ما كان هناك سوى الاستمرار في سياسة التعتيم، أو التجاهل في أحسن الحالات. وهكذا..
استمرت غياهب النسيان تطوق المكان، وتقضي على حقوق الإنسان، حتى انتهى القرن العشرون، أو كاد.
غير أنه كان هناك بعض الأصوات الحرة التي تذكرت «صبرا وشاتيلا» بين سنة وأخرى، وكان من رموزها الطبيبة البريطانية سوي شاي آنج، ابنة سنغافورة، وهي التي عاشت أيام مستشفى غزة الصعبة، وأجرت آخر العمليات الجراحية حتى اقتحامه صباح اليوم الأخير؛ وهي الطبيبة التي أحبها الفلسطينيون كثيراً وأطلقوا عليها لقب «الدكتورة الصينية».
ففي عز سنوات الصمت والنسيان، في سنة ,1989 أصدرت الدكتورة سوي كتابها الرائع من لندن بعنوان: «من بيروت إلى القدس». كذلك كان من رموز الأصوات الحرة، ومن لندن أيضاً، صوت روبرت فيسك في مقاله المدوي: «خمسة عشر عاماً بعد حمام الدم: العالم يدير ظهره».
ثم كانت المفاجأة الكبرى. في الذكرى الثامنة عشرة لصبرا وشاتيلا، في أيلول سنة ,2000 فوجئت بيروت بقدوم وفد إيطالي لإحياء ذكرى «صبرا وشاتيلا».
بلا مقدمات، وبلا سابق إنذار، هبط أعضاء الوفد في مطار بيروت الدولي، وراحوا يقابلون الرؤساء الثلاثة، والمسؤولين، ويزورون الأهالي المعذبين الذين راحوا يتحدثون من جديد عن ضحاياهم، عن مأساتهم، وعن حياتهم اليومية، وكان يكفيهم أن يستمع إليهم أعضاء الوفد ورئيسه ستيفانو شياريني، الكاتب اليساري التقدمي في صحيفة «إل مانيفستو». لم يحلم الضحايا الأحياء بأن الزيارة سوف تصبح تقليداً سنوياً، وبأن الأصدقاء الجدد، من كتاب وفنانين ونواب ومخرجين ومناضلين، من أمثال مونيكا ماوري، وستيفانيا ليميتي، وموريتسيو مسولينو، وأنّا أسوما، لن يتخلوا عنهم.
على مدى الأعوام السبعة الماضية، تكررت الاحتفالات بذكرى صبرا وشاتيلا، وجاءت وفود أخرى كبرى من فرنسا، ومن إسبانيا، وجاء كثيرون من مناصري الحرية وحقوق الإنسان، من ألمانيا والسويد وبريطانيا والولايات المتحدة واليابان.. وما عادت مهمة الاحتفالات بحد ذاتها، ولا حتى المسيرات وإضاءة الشموع، فالمهم هو الشعار الذي تحول إلى نهج وبرامج عمل: «كي لا ننسى صبرا وشاتيلا»؛ أمّا الأكثر أهمية فهو الصداقات التي تجذرت، والمحبة التي تعمقت.
في سنة 2001 تذكر التلفزيون البريطاني BBC «صبرا وشاتيلا» في برنامج «بانوراما»، وعرض فيلماً وثائقياً بامتياز، عنوانه: «المتهم»، وفيه وجه الاتهام إلى شارون. وبادرت صحيفة «لوموند ديبلوماتيك» الفرنسية بإرسال مندوب خاص من كبار مراسليها، بيير بان، لتغطية «صبرا وشاتيلا» في ذكراها العشرين، وصدر مقاله بعنوان: «عشرون عاماً بعد المذابح في صبرا وشاتيلا: الماضي يبقى دائماً حاضراً»، في أيلول سنة ,2002 وتناقلت الصحف الأوروبية مقتطفات منه باللغات المتعددة. وفي السنة نفسها، أصدرت الكاتبة الإيطالية، وعضو الوفد الإيطالي لإحياء ذكرى صبرا وشاتيلا، ستيفانيا ليميتي، كتابها عن «مذبحة الفلسطينيين في صبرا وشاتيلا»، وتضمن مقالات لكتّاب أحرار.
عن صحيفة السفير اللبنانية
12/9/2007


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.