مستقبل الصراع العربي الإسرائيلي في إستراتيجية التطور الإقليمي القادم
* عماد صلاح الدين
في الرؤية السياسية الإستراتيجية الإسرائيلية الثابتة المستندة إلى مشروع الحركة الصهيونية ككل متكامل تجاه الصراع على ارض فلسطين التاريخية ،هناك مبدآن أساسيان يحكمان سير عملها، بل وجودها في الأصل ، وهذان المبدآن هما:-
1-أن المشروع الصهيوني ل "إسرائيل" يقوم أساسا على مزيد من الاستيطان والهجرة اليهودية من كافة أرجاء الدنيا والمعمورة، في سياق حالة إحلالية وفوق احتلالية مكان السكان الأصليين للأرض والبلاد ؛ بحيث تصل هذه الحالة الاحلالية ،كما جرى في نكبة عام ثمانية وأربعين وما قبلها وبعدها أيضا ،القائمة على الاستيطان والهجرة إلى وضع تكون فيها بالديمغرافيا اليهودية المحكومة بالسيادة الإسرائيلية على الأرض هي الأغلبية على مساحة ارض فلسطين التاريخية ، تحقيقا لحلم الحركة الصهيونية ب"الدولة اليهودية النقية ".
2- والمبدأ الثاني الملازم للحالة التكاملية لنجاح المشروع الصهيوني هي ضرورة اندماج" إسرائيل" سياسيا واقتصاديا مع المحيط العربي الكبير الذي يلف ارض فلسطين من كل صوب وحدب ،من خلال التطبيع أولا مع نظمها الرسمية التي تتكفل الأخيرة بدور تطبيع شعوبها من خلال طرح البرامج الثقافية والإعلامية وغيرها وعبر آليات محدد بشأن هذا الغرض . والهدف الذي تنظر إليه "إسرائيل" والحركة الصهيونية بمجملها حتى اليوم.
ولا شك أن الحركة الصهيونية استطاعت أن تحقق الجزء الأكبر من مشروعها الاستيطاني الاحلالي على المساحة الأعظم والاهم من ارض فلسطين التاريخية، إذ هي لم تلتزم بقرار التقسيم رقم 181 الصادر عن الجمعية العمومية للأمم المتحدة سنة 1947 ، والداعي إلى إقامة دولتين يهودية وأخرى عربية على أن يكون الجزء المخصص لليهود مساحته 56,6 % مقابل 44 % تقريبا للعرب من مجمل مساحة فلسطين الكلية ، بل إن الحركة الصهيونية في عام 48 ، سيطرت عمليا وميدانيا على ما يربو عن 78 % من ارض فلسطين التاريخية ، رغم أن واقع اليهود الديموغرافي قبيل قرار التقسيم لم يكن ليتجاوز نسبة 30 % من مجمل سكان فلسطين، واضعين في الاعتبار حركة الهجرة اليهودية المسهلة والمدبرة من الحركة الصهيونية والانتداب البريطاني منذ مطلع القرن العشرين ،إن لم يكن قبل ذلك تدقيقا وتحديدا .
ومع سيطرة إسرائيل على المساحة الكبيرة والزائدة عن ما جاء في قرار التقسيم من مجمل مساحة ارض فلسطين ، وتسابق العديد من الدول الغربية وأمريكا وروسيا ذات التوجه والطموح في وضع وتثبيت موطئ قدم سيطرة في المنطقة العربية الإسلامية في المبادرة بالاعتراف بهذا الكيان والضغط من اجل تسريع عملية الاعتراف به وتوسيعها، لتكون" إسرائيل" هذه الأداة الإستراتيجية المتقدمة في تحقيق طموحات هذه الدولة الاستعمارية أو تلك في السيطرة والتمكن من ثروات وإمكانيات المنطقة في النواحي الاقتصادية والأمنية والإستراتيجية وغيرها . ولقد تم في تلك المرحلة بالفعل انجاز مهمة شرعنة الكيان من قبل الدول والقوى التي صنعته ورعته عبر المؤسسة الدولية التي تسيطر عليها هذه الدول الكبرى .
لكن الهدف الأم والاستراتيجي الأساس بالنسبة للحركة الصهيونية بقي هو كيفية الوصول إلى الدولة اليهودية النقية على كامل ارض فلسطين التاريخية في المرحلة الأخيرة والنهائية . ولاشك أن هذا الهدف الذي بقي ملازما للحركة الصهيونية والكيان الصهيوني المعبر عنه بدولة" إسرائيل" منذ قيام الأخيرة وحتى هذه الأيام .والوصول إلى هذا الهدف الاستراتيجي النهائي والذي تراوغ وتضلل" إسرائيل" بشأن حقيقته، يتطلب حسب وجهة النظر الإسرائيلية لكي يتم تحقيقه ومن ثم يرى النور ما يلي:-
1-لابد من التخلص من العبء الأخلاقي والقانوني وحتى الإنساني في جوانبه المادية من قضية اللاجئين الفلسطينيين ، والوصول إلى موقف نهائي يتم فيه إلغاء جوهر قضية اللاجئين المتمثل بحق العودة إلى أراضيهم وبيوتهم التي هجروا منها عام ثمانية وأربعين . وأما بالنسبة لعبء التعويض المادي فهذا تطمح "إسرائيل" إلى تحميل الدول العربية والمجتمع الدولي مسؤولية التشارك في تحمله وتقاسم نفقاته التعويضية .
2-لابد من الحصول على الشرعية العربية والإسلامية ،وأساسا وفي المقدم منها الفلسطينية في منح الصفة الطبيعية والقانونية للكيان الصهيوني من خلال الاعتراف بحقه في الوجود ، وجهة الشرعية هنا هو النظام والجهات الرسمية المسئولة لتقوم هذه الأخيرة بمهمة تطبيع الشعوب على الاعتراف بهذا الكيان المسمى "إسرائيل".
3-هذا كله يتطلب مشروع مخطط استراتيجي فيه خطوات ومراحل تكتيكية ، البعض من هذه الأخيرة هو بمستوى الاستراتيجيا أو التكتيك الفائق الدرجة . ولا شك أن هذا المشروع لتمرير المخطط السابق هو ما كان ولا يزال يسمى بعملية السلام الذي كان أول فصولها في كامب ديفيد في أواخر السبعينيات ،ومن ثم في مدريدوأوسلو في العقد الأخير من تسعينيات القرن المنصرم .
وفي سياق الهدف الاستراتيجي المتمثل في تحقيق الحلم الصهيوني بالدولة اليهودية على كامل ارض فلسطين التاريخية ،والوصول إلى الحالة العربية والفلسطينية ومحيطهما الإسلامي رسميا وشعبيا بالاعتراف بهذه الدولة والتطبيع معها كاملا لتحقيق واقع اندماجها وتواصلها معه، رأت" إسرائيل" تساندها أمريكا وبعض الدول الأوروبية في مشروع السلام خطا استراتيجيا وأساسيا لتحقيق ذلك، وتحديدا منذ أوسلو في عام 1993 وذلك على النحو التالي :-
1-يجب أن تكون مرجعية العملية السلمية تحتمل أكثر من تفسير وتأويل ؛ بحيث يصب الأمر في خانة الصراع والنزاع على الأراضي المحتلة عام 67 ، وليس بانسحاب "إسرائيل" من هذه الأراضي كثمن لعملية السلام التي قيل أنها قائمة في حينها على مبدأ الأرض مقابل السلام ، وكذا الأمر بالنسبة لقضية اللاجئين الفلسطينيين التي لم تحدد لها مرجعية واضحة تتسق على الأقل مع ما جاءت به الشرعية الدولية المتمثلة بالقرار الشهير 194 لسنة 1948 ، الداعي إلى تمكين اللاجئين الفلسطينيين من حقهم في العودة والتعويض أو التعويض لمن لا يرغب في العودة والعيش بسلام مع جيرانه . ولهذا كانت المرجعية لعملية السلام الفلسطينية الإسرائيلية القرارين الدوليين 242 ، 338 ، باعتبار أنهما فضفاضان في معاني نصوصهما ويحتملان وجوه عدة ، يفسر احدها ايجابيا لصالح الطرف الأقوى في المعادلة الدولية والإقليمية ، وهو هنا بالتأكيد "إسرائيل" .
2-من الضروري جدا - وفقا للرؤية الإسرائيلية والأمريكية- أن تقود هذه العملية السلمية بالشروط الأمريكية والإسرائيلية ذاتها المسبقة عليها إلى تحقيق الهدف التكتيكي ذي المسار الاستراتيجي بشرعنة الاحتلال على الأجزاء المهمة جدا من الأراضي المحتلة عام 67 ، باعتبار أنها بالنسبة ل"إسرائيل" مجال حيوي لا غنى عنه . وهذا ما حصل في نهاية كامب ديفيد 2000 ،حينما أرادت إسرائيل من عرفات التسليم بحقائق الاستيطان والتهويد في الضفة الغربيةوالقدسالشرقيةالمحتلة ؛ بحيث تكون صورة الدولة المستقلة التي كان يتطلع إليها الراحل عرفات على شكل كيان ذاتي لا سيادة له :لا على مياه أو بر أو جو أو حدود وغيرها ، فضلا عن انه مقطع الأوصال جغرافيا وتبعا لذلك سكانيا .
3-وضعت أمريكا و"إسرائيل" مسبقا واحتياطا في اعتبارهما رفض عرفات للتسوية على الشاكلة السابقة ، ولذلك ومن باب التحضير ليوم الرفض العرفاتي ، استطاعت أمريكا و"إسرائيل" فرض قيادات فلسطينية على المستويين السياسي والأمني كاستحقاق لأوسلو ومساره من أن ينحرف عن البوصلة المرسومة له . وهذا ما ظهر جليا باغتيال عرفات بالسم في عام 2004 ، ومن ثم فرض هذه القيادة الجديدة التي تنادي من يومها بان التفاوض خيار تاريخي واستراتيجي لا يسقط أبدا وان وصل الاستيطان ذروته وتهويد القدس مستويات متقدمة وخطيرة جدا .
وفي النقطة الأخيرة تكمن الخطورة بوجود القيادة التي تقبل بالتسوية ضمن الشروط الأمريكية والإسرائيلية لها ، والتي تعني التسليم بما يتمخض عنه فقط المشروع التفاوضي المؤدي إلى كيان مقطع الأوصال يفتقد كليا إلى شروط البقاء والحياة السياسي السيادي والاقتصادي فضلا عن الاستمرار الطبيعي في السياقين الثقافي والاجتماعي ، وهذا واضح من مرجعية خريطة الطريق ورؤية بوش وما يتركه الجدار من الضفة الغربية ، وفي هذا لا اعتراض من قبل قيادة التفاوض الفلسطينية لا نظريا ولا عمليا بالتوقف عن المفاوضات في ظل الهجمة الاستيطانية في الضفة والقدس برغم جلسات ولقاءات التفاوض التي انعقدت قبيل وبعيد لقاء انابوليس في نهاية تشرين الثاني 2007 .
ولان القيادة في رام الله تقبل بما هو ممكن في سياق إستراتيجية التفاوض الأحادية والمجردة من خيار المقاومة والعنف المسلح ، وهذا يعني ما هو اقل من الحد الأدنى على مستوى الأراضي المحتلة وقضية اللاجئين الفلسطينيين ، فان هذه القيادة حاولت إلغاء أو إبعاد مشروع حماس السياسي حتى في سياق الحد الأدنى الذي كان قد طرحه الشيخ ياسين كحل مرحلي وانتقالي . وكان ذلك( سياسة إلغاء أو إبعاد مشروع حماس السياسي) في سياق مرحلتين،انضمت إليها ثالثة مؤخرا وتحديدا بعد أحداث 14 حزيران 2007، أما هذه الثالثة فهي في طور التهيئة للتنفيذ:-
الأولى : محاولة احتواء حماس في منظومة السلطة الفلسطينية من خلال التوقع بعدم فوزها بأغلبية وإنما بأقلية غير مؤثرة في المجلس التشريعي وفي المنظومة السياسية للسلطة الفلسطينية، ليتم بالتالي تمرير التسوية باسم الشرعية .
الثانية : محاولة إبعاد حماس بعد فوزها الكاسح في انتخابات كانون الثاني عن المشهد السياسي الفلسطيني الرسمي بالقوة سياسيا واقتصاديا و وبالعنف كخيار أخير وبالتعاون مع جهات إقليمية ودولية عديدة .
أما المرحلة الثالثة التي لم تنفذ عمليا بعد ، فهي مرحلة القضاء أو على الأقل إضعاف حماس في غزة ، ولا اقصد هنا بالطبع خطوات الإضعاف التي تجري في الضفة الغربية أو في قطاع غزة من حصار سياسي واقتصادي وإنساني حاد ، فهذا قائم وجار على قدم وساق ، وإنما اقصد هنا مرحلة إضعاف أو القضاء على حماس بالمعنى العسكري من خلال اجتياح إسرائيلي واسع هذه المرة .
والهدف النهائي من القضاء على حماس سواء في الضفة أو غزة باعتبارها الطرف الأساسي والرئيس في المقاومة ، إنما يأتي من اجل تنفيذ ما يتم الاتفاق عليه سرا بين المفاوض الفلسطيني والإسرائيلي بعد لقاء انابوليس ، فلا يعقل أن يكون هناك أكثر من عشرين لقاءا بين احمد قريع وتسيبي لفني ، وأكثر من خمسة لقاءات بين عباس وأولمرت لمجرد اللقاء والتصافح وتبادل الابتسامات وشرب القهوة والثرثرة ، فيبدو أن هناك طبخة تم إعدادها في السر بين الطرفين ، ولكنها مؤجلة وموضوعة في الثلاجة لحين تهيئة الطاولة للوليمة المنتظرة على حد تعبير المحلل السياسي أمنون ابراموفيتش من القناة الثانية العبرية. وعلى هذا نفهم جليا لماذا يرفض عباس الحوار مع حماس ، ومن ثم يتحدث عن العودة المؤجلة إلى العمق العربي في حال فشلت المفاوضات ووصلت إلى طريق مسدود.
ومن هنا فإننا ننظر بأهمية بالغة وكبيرة إلى التغيير الإقليمي الاستراتيجي المأمول والمتوقع على صعيد نشوب مواجهة ربما تبدأ بحزب الله ولا تنتهي بحماس أو حتى سوريا ، يكون فيها تطور ايجابي تاريخي واستراتيجي في تراجع المشروع الصهيوني وقوته الردعية ، واثبات على مصداقية المقاومة في تحقيق المنجزات الوطنية والقومية .
انه أمل بتمكن حزب الله من الانتقال من الحرب الساكنة إلى المتحركة من خلال حسم بري تحرر فيه مزارع شبعه وربما أجزاء من شمال فلسطين ، يساعد على ذلك تحييد سلاح الجو الإسرائيلي من خلال منظومة دفاع جوي محكم. ولعلها المفاجأة الإستراتيجية التي تحدث عنها السيد حسن نصر الله في إحدى خطاباته السابقة. إن هذا التغيير الاستراتيجي القادم على مستوى المنطقة كفيل بإيقاف ووضع حد للمخطط الذي يستهدف قوى المقاومة الفلسطينية في غزة والضفة الغربية .
إن خطورة مشروع التسوية الذي يجري إعداده سرا في القدسالمحتلة وبمباركة أمريكية وأوروبية وعربية: انه يراد منه حشر الفلسطينيين في كيان خانق بكل ما تحمل الكلمة من معنى سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وحياتيا ؛ بحيث يكون ممرا تكتيكيا مهما لهجرة الفلسطينيين طواعية من القدس و الضفة الغربية مستقبلا إلى دول الجوار بما فيها دولة البديل الأردنية التي فكر شارون باحتلالها في عام 2003 من اجل هذا الغرض ،كما صرح بذلك في وقت سابق من هذا الشهر رئيس الوزراء الأردني الأسبق عبد السلام المجالي ، وبهذا – لا سمح الله – يتحقق الحلم الصهيوني ب"الدولة اليهودية" على كامل على ارض فلسطين التاريخية .
ولعل مطالبة "إسرائيل" بشرط الاعتراف ب"يهودية الدولة" كشرط إضافي في لقاء انابوليس ، ما يشي بذلك ويشير إليه بوضوح . ويبدو أن المفاوض الفلسطيني لا مشكلة له مع شرط الاعتراف ب"يهودية الدولة" ،ولا حتى مع ما يجري من توسع رهيب للاستيطان في الضفة والقدس ، وغيرها من الجرائم الإسرائيلية بحق الشعب الفلسطيني ، والدليل هو استمراره في المفاوضات . وفي كل الأحوال ،لماذا الاستغراب ، طالما أن الخيار الاستراتيجي والتاريخي للتفاوض السياسي والدبلوماسي المجرد هو الخيار الأوحد والوحيد من بين كل الخيارات! .