في الذكرى الأربعين لمحاولة حرق المسجد الأقصى (أغسطس 1969) ، ومع تصاعد جهود تهويد القدس ، يصبح من حقنا مسلمين ومسيحيين أن نتساءل عن مستقبل المدينة السماوية ، وفي الإجابة عن مثل هذا السؤال ، لا يمكن بأي حال من الأحوال أن نفصل مستقبل القدس عن مستقبل القضية الفلسطينية ، ولا عن مسيرة الصراع العربي الصهيوني ، كما أنه من الخطورة بمكان أن تختزل القضية الفلسطينية في استعادة القدس ، بما تحتويه من مزارات دينية ومعابد للديانات السماوية الثلاث ، دون تحرير باقي التراب الفلسطيني والقضاء على المشروع الصهيوني ، إذا أدركنا تلك المقدمة ، صار بوسعنا أن نتعامل بشكل علمي عملي مع السؤال الملح : ما هو مستقبل مدينة القدس الشريفة ؟ على المدى القريب ، وحتى تتحرر فلسطين كاملة (إن شاء الله) ، وتعود "مدينة السماء" إلى المؤمنين ، نلمس عدة محددات يرتبط بها مستقبل القدس ، أهمها : (أ) تمسك الاحتلال الصهيوني بالقدس عاصمة موحدة : " ليس من حق أحد فينا التفريط في هذه المدينة ، فهي أقدس أقداس اليهود وقد حررناها بثمن باهظ من دماء اليهود ، ولا نسمح لأحد بأن يترك هذه الدماء هدرا .." (شاءول موفاز رئيس الأركان الأسرائيلي السابق في اجتماع لمجلس الوزراء الصهيوني 19 سبتمبر 2008) في الوقت الذي يقنع فيه المفاوضون العرب بالقدسالشرقية لتكون عاصمة للدويلة الفلسطينية التي يحلمون بها ، ويتنازلون فيه عن القدسالغربية ، وباقي فلسطينالمحتلة ، نجد المحتل الصهيوني يتجاوز الواقع السياسي والجغرافي الذي نتج عن الاحتلال ، وينادي بالقدس الموحدة عاصمة "أبدية " للدولة الصهيونية ، ونجده يحظى في ذلك بالتأييد من الرعاة والحلفاء الغربيين ، وعلى رأسهم الولاياتالمتحدة ، صحيح أن كلاما دار في الفترة الأخيرة من حكومة أولمرت المنصرفة عن تقاسم المدينة مع الفلسطينيين في إطار تسوية دائمة للصراع ، وأن نقاشات حادة دارت بهذا الشأن في الوسط السياسي الإسرائيلي ، وأن الإذاعة العامة في الدولة الصهيونية نقلت في مارس الماضي تصريحات لأولمرت ، تؤكد أن السلام (الاستسلام) لن يتحقق ما لم يُعطَ الفلسطينيون جزءا من المدينة المقدسة ليكون عاصمة للدويلة الفلسطينية ، ولكن في النهاية يبقى ذلك كله من قبيل الخداع السياسي ، والتصريحات التي تظهر صاحبها في ثوب العقلاني المحب للسلام ، فالواقع ، وطبيعة الدولة الصهيونية ، يجزمان بأن الاحتلال لن يسمح للفلسطينيين بدولة ، وأن الصهاينة لن يتنازلوا عن جزء من القدس ، فمشروع توسعي وظيفي مثل المشروع الصهيوني لا يمكن أن يقبل بحدود ، ولا بكيان سياسي حقيقي للفلسطينيين ، ولا يمكن له بحال أن يتنازل عن المدينة التي يستمد المشروع الصهيوني مشروعيته الدينية منها . استراتيجيا ، لا تتمتع القدس بالأهمية التي تجعل التمسك بها مصيريا للدولة الصهيونية ، والوزن الحقيقي للمدينة هو الوزن الديني لمدينة تحتوى تراثا لدينيا لأصحاب الديانات السماوية الثلاث الباقية ، والصهيونية الدينية ، التي تمثل ركنا من أركان المشروع الصهيوني ، لا تستطيع التخلي عن حلم "الهيكل " ، الذي يدشن بناؤه تحقيق الوعد التوراتي ، ونبوءات العهد القديم . جزء كبير من الدعاية للمشروع الصهيوني يقوم على مكانة " أورشليم " في الدولة الصهيونية ، لذا نجد مخططات تهويد المدينة تتسارع ، والعدوان الديموجرافي والمعماري يطرد ، وتحذيرات مفتى المدينة وعلمائها من هدم الأقصى تنطلق من حين لآخر ! تمثل المدينة ، كذلك ، بكنائسها ومزاراتها التابعة للمذاهب المسيحية الثلاث ، موضوعا لعلاقات سياسية واقتصادية مع المؤسسات الدينية الغربية ، فالدولة التي ترعى مقدسات مسيحيي العالم من الطبيعي أن تحظى بالاعتراف من العالم المسيحي ، وأن يُكن لها مسيحيو العالم الغربي المودة ، وأن تتوطد العلاقات بين الفاتيكان (القيادة الروحية العالمية) وبين الدولة الصهيونية ، وأن يزور البابا الأماكن المقدسة تحت حماية اليهود الصهاينة ومباركتهم . قيام الدولة الصهيونية على المقدسات الدينية في المدينة ، ورعاية تلك المقدسات ، يمثل مكسبا معنويا كبيرا لا يمكن للصهاينة التخلي عنه مختارين بحال من الأحوال ، دعك من المكاسب الاقتصادية من السياحة الدينية التي تتدفق على المدينة ، وما يجاورها من مدن ترتبط في الوجدان الديني المسيحي بعيسى (عليه السلام) ، وحياته في فلسطين . لهذه الأسباب مجتمعة ، يصعب أن نتخيل أن يتنازل المشروع الصهيوني عن القدس ، أو يقبل بقيام دويلة فلسطينية تتخذها عاصمة لها ، مهما تردد من أقوال الساسة والكتاب والمحللين الصهاينة ، وحتى لو صدق الساسة وقبلوا تقسيم القدس ، فإن الشارع الإسرائيلي في أغلبيته ضد فكرة التقسيم ، استطلاعات الرأي تؤكد ذلك ، واختيارات الإسرائيليين في الانتخابات الأخيرة تؤكد ذلك . من تلك الاستطلاعات ، استطلاع أجراه مركز "بيجن-السادات" للدراسات الاستراتيجية ، في مارس 2008 ، وكانت النتيجة أن 71% من المستطلعين رفضوا أي تقسيم للمدينة مقابل 21% أيدوا ذلك ، و8% لم يبدوا أي رأي، كما رفض 62% من المستطلعين مناقشة وضع القدس في إطار مفاوضات ما يسمونه "السلام" . ومع حكومة صهيونية جديدة ، أشد وضوحا وصراحة في احتلالها واغتصابها للحقوق ، ومع أمثال نتنياهو وليبرمان ، يختفى مجرد التلويح بتقسيم المدينة ، فليبرمان حين يرسم حدود مدينة القدس ، يُبقي "الحوض المقدس" تحت السيطرة الإسرائيلية الكاملة مع منح حرية العبادة لأبناء الديانات الثلاث . "الحوض المقدس" مصطلح صهيوني ، يمثل الحد الأدنى والخطوط الحمراء في التعامل الصهيوني مع قضية القدس ، ويضم "الحوض" ، حسب المصادر اليهودية ، جميع المواقع الدينية اليهودية – التي يدعونها – في القدس ، وهي : البلدة القديمة ، ووادي قدرون ، وجبل الزيتون . هذه المواقع لا يمكن بحال من الأحوال التنازل عنها ، كما قال أولمرت ، وكما قال ليبرمان ، وكما سيقول رؤساء الحكومات التالية ، فماذا يتبقى من القدس بعد هذا الحوض المقدس ؟ نعود ونذكر أننا ضد تقسيم فلسطين ، وليس القدس وحدها ، وضد أي حل لا يعيد فلسطين كاملة لأهلها ، ولكننا نتناول هذا الفرض من باب الجدل مع من يدعون لتقسيم المدينة ، وجعلها عاصمة للدويلة الفلسطينية التي يلهثون خلفها . (ب) جهود تهويد القدس : في خطوة نحو إعلان القدس عاصمة للدولة الصهيونية ، وكوسيلة لإضفاء شرعية دينية وتاريخية (زائفة) على تلك الدولة ، يسعى المحتل الصهيوني ، بقوة ، نحو تهويد القدس ، فالهوية العربية الإسلامية التي صبغت القدس منذ عشرات القرون ، تصادم الادعاءات الصهيونية ، وتقاوم المشروع الاستيطاني الصهيوني ، وليتحقق ذلك المشروع في صورته الكبرى ، لابد أن تتغير تلك الهوية ، وأن تنتحل المدينة المقدسة هوية يهودية تاريخية ، وأن يتم ذلك عبر : الاستيطان ومصادرة الأراضي .من أهم الخطوات التي يتخذها الاحتلال لتهويد القدس ، زيادة الاستيطان اليهودي في المدينة على حساب أهلها من المسلمين والمسيحيين العرب ، حتى يأتي الوقت الذي تصبح فيه أغلبية سكان المدينة من المستوطنين اليهود ، فيسهل ابتلاعها في المشروع الصهيوني ، وجعلها عاصمة للدولة . وفي الوقت الذي تتم فيه مصادرة الأراضي المقدسية ، للتوسع في الاستيطان اليهودي ، يقوم الاحتلال بتطويق التجمعات السكنية الفلسطينية والحد من توسعها ، مع تهديد بعض تلك التجمعات بالإزالة ، وبث الرعب في نفوس فلسطينيالقدس وضواحيها ، من خلال الاعتداءات المتكررة عليهم من قبل المستوطنين المدججين بالسلاح ، وفي السياق ذاته ، يسعى الاحتلال لعزل القدس وضواحيها عن محيطها الفلسطيني في الشمال والجنوب ، وقطع التواصل الجغرافي بين أنحاء الضفة الغربية ، وتقسيمها لقطع متناثرة ، ليستحيل عمليا أن تكون القدس عاصمة لأي دويلة فلسطينية في الضفة والقطاع . تهجير الفلسطينيين وسحب الهويات منهم : فالقدس لن تتسع للمستوطنين اليهود والعرب معا ، وإن كان لا بد أن يرحل أحد الفريقين ، فسيكون التهجير والطرد وسحب الهويات من نصيب العرب يقينا ، وهي السياسة المعتمدة لدى الاحتلال ، لا فارق بين جولدا مائير ، أو شارون ، أو شيمون بيريز ، أو ليبرمان ، وإن كانت جولدا أكثر رفقا بفلسطينيالقدس ، فقد أوصت ، وهي رئيسة اللجنة الوزارية لشئون القدس عام 1973 ، بألا يتجاوز الفلسطينيون 22% من مجموع سكان القدس ، أما شارون فقد صرح في الذكرى الثامنة والثلاثين لاحتلال القدسالشرقية (2005) ، بأن القدس ملك لإسرائيل وأنها لن تكون بعد اليوم ملكا للأجانب ، أما بيريز الحريص على رداء صديق العرب ، الراغب في السلام ، فقد سبق أن أعلن ضرورة تهجير العرب من القدس ، وصدرت تصريحات بالمعنى نفسه من ساسة إسرائيليين آخرين . وها نحن اليوم (*)، وفي الأشهر الماضية ، نرى قوات الاحتلال ترسل الإخطارات لهدم عشرات المنازل العربية في أحياء القدس العريقة ، وطرد مئات الأسر منها، ونرى الحكومة الجديدة نتنياهو/ليبرمان/باراك تعلن مرحلة متقدمة من تهويد القدسس وطرد أهلها ، وتسن قوانين أسوأ من قوانين الطواري والانتداب ، مثل القانون الذي يفرض غرامة باهظة على المقدسي الذي يملك بيتا غير مرخص ، ويقوم بتأجيره أو تسكينه أو منحه لشخص مقدسي آخر حتى لو كان من أفراد العائلة نفسها ، وتفرض الغرامة نفسها على الطرف الآخر ، ويجري هدم البيت لاحقاً. الحفريات تحت الأقصى: فإذا كان الأقصى هو الرمز الديني والتاريخي الأكبر في المدينة ، وإن كان من العسير هدمه بشكل مباشر ، خشية عواقب ذلك ، فإن الحفريات حول المسجد ، وفتح الأنفاق تحته ، تعد خطوة تمهيدية ، ووسيلة لتحقيق ذلك الهدف يوما ما ، بشكل قد يبدو قدريا غير متعمد ، وقد شهدت السنوات الخمس الأخيرة تصاعدا في الحفريات ، دعت مؤسسة "الأقصى للوقف والتراث " للتحذير من مضاعفات الحفريات الاسرائيلية تحت محيط المسجد الأقصى ، خاصة بعد الانهيار الذي وقع في مدرسة البنات التابعة للأونروا في الأول من فبراير الماضي (2009) ، على بعد أمتار جنوب الأقصى ، وأعربت المؤسسة عن خشيتها من وقوع انهيارات في المسجد أو المباني المجاورة بسبب الحفريات الخطيرة التي تجري . وبجانب الحفريات ، هناك الاعتداءات والاقتحامات التي يتعرض لها المسجد من المستوطنين الصهاينة ، وقوات الاحتلال ، والعدوان على المصلين ، وفرض الحصار عليهم ، وغيرها من وسائل التضييق والتعنت . (ج) الضعف العربي ونهج الاستسلام والتفاوض في مقابل التمسك الصهيوني بالقدس ، والسعي الدءوب لتهويدها ، نجد العرب الرسميين ، في مجملهم ، يعلنون أن السلام هو خيارهم الاستراتيجي ، الذي لا بديل له ، وأن التفاوض هو وسيلتهم الوحيدة ، وإن كانوا لا يملكون القوة التي تمكنهم من فرض شروطهم على الصهاينة في ذلك التفاوض ! وإن كان التفاوض على جزء من الحق ، ومع قوم لا يفهمون غير لغة القوة ! وإن طال التفاوض عشرات السنين ، ازداد العدو فيها توحشا وعدوانا ! وإن كانت الشعوب العربية في أغلبيتها تؤيد المقاومة وتنادي بها ! بل نجد أنظمة في دول عربية كبرى عربية تحارب المقاومة ، وتنسق مع الدولة الصهيونية والولاياتالمتحدة في الجهود الرامية لمحاصرة المقاومين ودفعهم لنهج التفاوض والاستسلام ! ومع إن الدول العربية التي صالحت الدولة الصهيونية ، وعقدت معها المعاهدات ، أعلنت أنها تفعل ذلك لالتقاط الأنفاس ، وبناء قوتها الاقتصادية والعسكرية ، بعد أن استنفد الصراع الطويل قواها ، فإن ذلك الهدف المعلن لم يتحقق ، ما حدث هو العكس : تردٍ في مجمل الأوضاع الاقتصادية والسياسية لتلك الدول ، واتساع الفجوة العلمية والعسكرية التي تفصل العرب في مجملهم عن الدولة الصهيونية ، واختلال ميزان القوى اختلالا فادحا ، ينذر باحتمالات بالغة الخطورة في حال نشوب صراع مسلح مع الكيان الصهيوني . والخلاصة أن العرب ينحدرون من ضعف لضعف ، وأن من عجزوا عن حماية بغداد ، ومقديشيو والخرطوم ، لا يتوقع منهم أن يحرروا فلسطين ، أو جزءا غاليا منها ، كالقدس ، هذا إن توفرت لهم النية ، أساسا . (د) غياب العالم الإسلامي عن المعادلة : رغم الموقع الذي تحتله القدس في قلوب مسلمي العالم ، ورغم الأخطار الدائمة التي تهدد المسجد الأقصى ، ورغم أن إنشاء منظمة المؤتمر الإسلامي جاء ردا مباشرا على محاولة حرق الأقصى في أغسطس 1969 ، فإن العالم الإسلامي غائب بشكل فعلي عن معادلة الصراع مع الصهيونية وحلفائها ، وهو غياب راجع إلى عدة أسباب ، منها تحالف أنظمة دول مسلمة كبرى مع الكيان الصهيوني ، مثل تركيا ، وسير دول أخرى في الركاب الأمريكي فيما يخص فلسطين ، والسعي المتواصل لعزل القضية الفلسطينية عن بعديها العربي والإسلامي ، بجعلها صراعا محليا بين الإسرائيليين والفلسطينيين ، يقوم فيه العرب والمسلمون بدور الوساطة ، وعجز منظمة المؤتمر الإسلامي عن أي دور حقيقي في قضايا العالم الإسلامي ، وهو ما نتج عنه في مجمله غياب الرؤية الموحدة التي تجمع العالم الإسلامي فيما يخص القضية الفلسطينية ، وغياب الخطة التي تعين على استعادة فلسطين ، وفي القلب منها القدس . (ه) موقف العالم المسيحي : من الواضح أن العلاقة بين الدولة الصهيونية والفاتيكان تتوثق يوما بعد يوم ، فبعد أن برأ الفاتيكان اليهود من دم المسيح في سنة 1965 ، كانت الخطوة المهمة الثانية : زيارة البابا الراحل (يوحنا بولس الثاني) لمعبد يهودي في روما 1986 ، والتي مثلت سابقة تاريخية فريدة من نوعها في التاريخ الكاثوليكي . وفي سنة 1994 بدأت العلاقات الدبلوماسية الرسمية بين الفاتيكان والدولة الصهيونية ، ومع مطلع الألفية الميلادية الثالثة ، وزيارة البابا الراحل يوحنا بولس للدولة الصهيونية ، آنذاك ، بدأت العلاقات الرسمية بين مجمع الحاخامية الكبرى لإسرائيل وبين الفاتيكان ، وقد قام البابا الحالي بزيارتين لمعبدين يهوديين : في كولونيا بألمانيا (2005) ، ونيويورك (2008) ، وفي مايو / أيار من العام الحالي جرت زيارته الأولى للكيان الصهيوني ، تحت شعار الحج للأماكن المقدسة في القدس وما حولها . ولا شك أن تلك العلاقات في صالح المشروع الصهيوني في المقام الأول ، يحقق من ورائها مكاسب سياسية ودعائية كبيرة ، والأهم أنه يحيد الفاتيكان ، المرجعية الروحية لأغلبية مسيحيي العالم ، في قضية الصراع العربي الصهيوني ، وربما جعله يميل لكفة الصهاينة باعتبارهم القائمين على المقدسات المسيحية في فلسطينالمحتلة ، وفي القلب منها القدس ، ويكفي أن الفاتيكان يعترف بالدولة الصهيونية ويعقد معها الاتفاقيات . أما عن البروتستانت ، الذين يمثلون الأغلبية في دول استعمارية كبرى ، مثل : الولاياتالمتحدة ، وبريطانيا ، فقد تنامى بينهم ما يسمى ب " المسيحية الصهيونية " ، التي ترى في مناصرة الدولة الصهيونية واجبا دينيا ، يعجل بنزول المسيح الذي ينتظرونه ، ولا يتوقع من هؤلاء في مجملهم أي مناصرة حقيقية للعرب والمسلمين في قضية القدس ، أو قضية فلسطين عموما ، فغالبية البريطانيين والأمريكيين على مر العقود يؤيدون الكيان الصهيوني . قد يختلف مسيحيو الشرق العربي في موقفهم من الدولة الصهيونية ، وقد يأخذ مسيحيو مصر موقفا إيجابيا من القضية الفلسطينية ، ولكن يبقى هؤلاء أصحاب صوت ضعيف ، وينعكس عليهم الضعف العام الذي اعترى الأمة العربية منذ أمد ، ويصب تحركهم من أجل القدس في مجمل الجهود العربية من أجل تلك القضية ، وهي جهود نعرف حجمها ، والمتوقع منها . المقاومة هي الحل : إذا كانت أغلب المحددات التي ذكرناها في غير صالح القضية الفلسطينية ، وفي القلب منها القدس ، فما السلاح الأخير الذي يملكه العرب والمسلمون في صراعهم مع الصهيونية ؟ إنه السلاح الوحيد الذي يفهمه الصهاينة ، اللغة الوحيدة التي يستوعبونها ، والمنطق الوحيد الذي يقنعهم : سلاح المقاومة . لقد مرت الأمة بظروف مشابهة ، وربما أشد قسوة ، في تاريخها الطويل ، وليست تجربة الحروب الصليبية منا ببعيد ، ولكن لم يحدث في تاريخنا أن تعرضت المقاومة للتشويه والمحاربة كما يحدث الآن ، كان الملوك والأمراء يتحالفون مع الصليبيين ويقاتلون معهم ، ولكن كان الجميع يعرف ، والصليبيون أنفسهم ، أنها مرحلة وستمر ، وأن الأرض المحتلة ستعود لأصحابها ، ولم يكن في مقدور حاكم عربي واحد أن يسلم بحق المحتل في الأرض ، أو يهنئه على قيام دولة الاحتلال ، أو يعلن أن " السلام " خيار استراتيجي ، ويدعو لقبول الكيان الغاصب في نسيج الأمة ، ولم يكن بوسع فقهاء السلطان في ذلك الزمن أن يصدروا فتاوى الاعتراف بالاحتلال والتطبيع معه ، أو يصافحوا قادة العدو بحرارة وترحاب ، كانت الأنظمة تتفاوت في نهجها مع المحتلين ، حربا ومصالحة ، ولكن في النهاية يبقى أمل التحرير والخلاص ، لا أن تتفاوت في علاقاتها مع العدو ، والرضا بما يقدمه لها كما يحدث يوم ! بقي مبدأ المقاومة /الجهاد ، وظل العلماء والمربون يهيئون النفوس ليوم التحرير ، حتى ظهر القادة الذين حملوا اللواء ، وقادوا المقاومة الشعبية ، وحرروا الأرض . هناك جهود محمومة لتصفية القضية الفلسطينية ، وتثبيت الكيان الصهيوني في المنطقة ، وجعله جزءا "طبيعيا" منها ، وصار قيام دويلة فلسطينية في الضفة والقطاع حلما ، وشعارا مرفوعا ، يمثل أقصى الأماني في الصراع ، ويتولى الإعلام الحكومي الإلحاح على هذا الشعار ، باعتباره الحل الوحيد والممكن ، بل باعتباره :الحل العادل" ، وكأن تحرير فلسطين وعودتها لأهلها ظلم وجور ، وكأنه ميراث يقسم بين الأشقاء ! وللاسف استطاعت هذه الفكرة أن تغزو عقول العامة ، مع اليأس والإحباط الذي يخيم على النفوس ، بل عقول كثير من المثقفين الوطنيين في بلاد العروبة والإسلام ، تحت شعار "الواقعية " ، و"الحلول الممكنة " ، وربما أراد البعض أن يخفف من الفكرة ، فيقول إنه يقبل التقسيم مرحليا ، حتى تتهيأ ظروف التحرير الكامل والشامل ، وبذلك ينجو من الملامة والتشكيك في موقفه . ويبقى المطالبون بالحق الفلسطيني الكامل قابضين على الجمر ، متمسكين بالتحرير الكامل كواجب تمليه العقيدة والشرف والضمير الوطني ، ربما أصبحوا أقلية في النخبة ، ولكن الأمة ستسير خلفهم حتما ، إذا جد الجد ، وتغيرت الظروف ، وخفت القيود . لا مستقبل للقدس بغير تحرير فلسطين ، وقد علمنا التاريخ أن القدس تكون آخر مدن فلسطين احتلال ، وآخرها تحريرا ، ولا تحرير بغير المقاومة ، فهل نجد في حكام الأمة اليوم من يصنع منبرا للأقصى ليخطب عليه يوم التحرير ، كما فعل نور الدين محمود زنكي ؟ ..أشك كثيرا ، ولكني لا أيأس من روح الله . في الذكرى الأربعين لمحاولة حرق المسجد الأقصى (أغسطس 1969) ، ومع تصاعد جهود تهويد القدس ، يصبح من حقنا مسلمين ومسيحيين أن نتساءل عن مستقبل المدينة السماوية ، وفي الإجابة عن مثل هذا السؤال ، لا يمكن بأي حال من الأحوال أن نفصل مستقبل القدس عن مستقبل القضية الفلسطينية ، ولا عن مسيرة الصراع العربي الصهيوني ، كما أنه من الخطورة بمكان أن تختزل القضية الفلسطينية في استعادة القدس ، بما تحتويه من مزارات دينية ومعابد للديانات السماوية الثلاث ، دون تحرير باقي التراب الفلسطيني والقضاء على المشروع الصهيوني ، إذا أدركنا تلك المقدمة ، صار بوسعنا أن نتعامل بشكل علمي عملي مع السؤال الملح : ما هو مستقبل مدينة القدس الشريفة ؟ على المدى القريب ، وحتى تتحرر فلسطين كاملة (إن شاء الله) ، وتعود "مدينة السماء" إلى المؤمنين ، نلمس عدة محددات يرتبط بها مستقبل القدس ، أهمها : (أ) تمسك الاحتلال الصهيوني بالقدس عاصمة موحدة : " ليس من حق أحد فينا التفريط في هذه المدينة ، فهي أقدس أقداس اليهود وقد حررناها بثمن باهظ من دماء اليهود ، ولا نسمح لأحد بأن يترك هذه الدماء هدرا .." (شاءول موفاز رئيس الأركان الأسرائيلي السابق في اجتماع لمجلس الوزراء الصهيوني 19 سبتمبر 2008) في الوقت الذي يقنع فيه المفاوضون العرب بالقدسالشرقية لتكون عاصمة للدويلة الفلسطينية التي يحلمون بها ، ويتنازلون فيه عن القدسالغربية ، وباقي فلسطينالمحتلة ، نجد المحتل الصهيوني يتجاوز الواقع السياسي والجغرافي الذي نتج عن الاحتلال ، وينادي بالقدس الموحدة عاصمة "أبدية " للدولة الصهيونية ، ونجده يحظى في ذلك بالتأييد من الرعاة والحلفاء الغربيين ، وعلى رأسهم الولاياتالمتحدة ، صحيح أن كلاما دار في الفترة الأخيرة من حكومة أولمرت المنصرفة عن تقاسم المدينة مع الفلسطينيين في إطار تسوية دائمة للصراع ، وأن نقاشات حادة دارت بهذا الشأن في الوسط السياسي الإسرائيلي ، وأن الإذاعة العامة في الدولة الصهيونية نقلت في مارس الماضي تصريحات لأولمرت ، تؤكد أن السلام (الاستسلام) لن يتحقق ما لم يُعطَ الفلسطينيون جزءا من المدينة المقدسة ليكون عاصمة للدويلة الفلسطينية ، ولكن في النهاية يبقى ذلك كله من قبيل الخداع السياسي ، والتصريحات التي تظهر صاحبها في ثوب العقلاني المحب للسلام ، فالواقع ، وطبيعة الدولة الصهيونية ، يجزمان بأن الاحتلال لن يسمح للفلسطينيين بدولة ، وأن الصهاينة لن يتنازلوا عن جزء من القدس ، فمشروع توسعي وظيفي مثل المشروع الصهيوني لا يمكن أن يقبل بحدود ، ولا بكيان سياسي حقيقي للفلسطينيين ، ولا يمكن له بحال أن يتنازل عن المدينة التي يستمد المشروع الصهيوني مشروعيته الدينية منها . استراتيجيا ، لا تتمتع القدس بالأهمية التي تجعل التمسك بها مصيريا للدولة الصهيونية ، والوزن الحقيقي للمدينة هو الوزن الديني لمدينة تحتوى تراثا لدينيا لأصحاب الديانات السماوية الثلاث الباقية ، والصهيونية الدينية ، التي تمثل ركنا من أركان المشروع الصهيوني ، لا تستطيع التخلي عن حلم "الهيكل " ، الذي يدشن بناؤه تحقيق الوعد التوراتي ، ونبوءات العهد القديم . جزء كبير من الدعاية للمشروع الصهيوني يقوم على مكانة " أورشليم " في الدولة الصهيونية ، لذا نجد مخططات تهويد المدينة تتسارع ، والعدوان الديموجرافي والمعماري يطرد ، وتحذيرات مفتى المدينة وعلمائها من هدم الأقصى تنطلق من حين لآخر ! تمثل المدينة ، كذلك ، بكنائسها ومزاراتها التابعة للمذاهب المسيحية الثلاث ، موضوعا لعلاقات سياسية واقتصادية مع المؤسسات الدينية الغربية ، فالدولة التي ترعى مقدسات مسيحيي العالم من الطبيعي أن تحظى بالاعتراف من العالم المسيحي ، وأن يُكن لها مسيحيو العالم الغربي المودة ، وأن تتوطد العلاقات بين الفاتيكان (القيادة الروحية العالمية) وبين الدولة الصهيونية ، وأن يزور البابا الأماكن المقدسة تحت حماية اليهود الصهاينة ومباركتهم . قيام الدولة الصهيونية على المقدسات الدينية في المدينة ، ورعاية تلك المقدسات ، يمثل مكسبا معنويا كبيرا لا يمكن للصهاينة التخلي عنه مختارين بحال من الأحوال ، دعك من المكاسب الاقتصادية من السياحة الدينية التي تتدفق على المدينة ، وما يجاورها من مدن ترتبط في الوجدان الديني المسيحي بعيسى (عليه السلام) ، وحياته في فلسطين . لهذه الأسباب مجتمعة ، يصعب أن نتخيل أن يتنازل المشروع الصهيوني عن القدس ، أو يقبل بقيام دويلة فلسطينية تتخذها عاصمة لها ، مهما تردد من أقوال الساسة والكتاب والمحللين الصهاينة ، وحتى لو صدق الساسة وقبلوا تقسيم القدس ، فإن الشارع الإسرائيلي في أغلبيته ضد فكرة التقسيم ، استطلاعات الرأي تؤكد ذلك ، واختيارات الإسرائيليين في الانتخابات الأخيرة تؤكد ذلك . من تلك الاستطلاعات ، استطلاع أجراه مركز "بيجن-السادات" للدراسات الاستراتيجية ، في مارس 2008 ، وكانت النتيجة أن 71% من المستطلعين رفضوا أي تقسيم للمدينة مقابل 21% أيدوا ذلك ، و8% لم يبدوا أي رأي، كما رفض 62% من المستطلعين مناقشة وضع القدس في إطار مفاوضات ما يسمونه "السلام" . ومع حكومة صهيونية جديدة ، أشد وضوحا وصراحة في احتلالها واغتصابها للحقوق ، ومع أمثال نتنياهو وليبرمان ، يختفى مجرد التلويح بتقسيم المدينة ، فليبرمان حين يرسم حدود مدينة القدس ، يُبقي "الحوض المقدس" تحت السيطرة الإسرائيلية الكاملة مع منح حرية العبادة لأبناء الديانات الثلاث . "الحوض المقدس" مصطلح صهيوني ، يمثل الحد الأدنى والخطوط الحمراء في التعامل الصهيوني مع قضية القدس ، ويضم "الحوض" ، حسب المصادر اليهودية ، جميع المواقع الدينية اليهودية – التي يدعونها – في القدس ، وهي : البلدة القديمة ، ووادي قدرون ، وجبل الزيتون . هذه المواقع لا يمكن بحال من الأحوال التنازل عنها ، كما قال أولمرت ، وكما قال ليبرمان ، وكما سيقول رؤساء الحكومات التالية ، فماذا يتبقى من القدس بعد هذا الحوض المقدس ؟ نعود ونذكر أننا ضد تقسيم فلسطين ، وليس القدس وحدها ، وضد أي حل لا يعيد فلسطين كاملة لأهلها ، ولكننا نتناول هذا الفرض من باب الجدل مع من يدعون لتقسيم المدينة ، وجعلها عاصمة للدويلة الفلسطينية التي يلهثون خلفها . (ب) جهود تهويد القدس : في خطوة نحو إعلان القدس عاصمة للدولة الصهيونية ، وكوسيلة لإضفاء شرعية دينية وتاريخية (زائفة) على تلك الدولة ، يسعى المحتل الصهيوني ، بقوة ، نحو تهويد القدس ، فالهوية العربية الإسلامية التي صبغت القدس منذ عشرات القرون ، تصادم الادعاءات الصهيونية ، وتقاوم المشروع الاستيطاني الصهيوني ، وليتحقق ذلك المشروع في صورته الكبرى ، لابد أن تتغير تلك الهوية ، وأن تنتحل المدينة المقدسة هوية يهودية تاريخية ، وأن يتم ذلك عبر : الاستيطان ومصادرة الأراضي .من أهم الخطوات التي يتخذها الاحتلال لتهويد القدس ، زيادة الاستيطان اليهودي في المدينة على حساب أهلها من المسلمين والمسيحيين العرب ، حتى يأتي الوقت الذي تصبح فيه أغلبية سكان المدينة من المستوطنين اليهود ، فيسهل ابتلاعها في المشروع الصهيوني ، وجعلها عاصمة للدولة . وفي الوقت الذي تتم فيه مصادرة الأراضي المقدسية ، للتوسع في الاستيطان اليهودي ، يقوم الاحتلال بتطويق التجمعات السكنية الفلسطينية والحد من توسعها ، مع تهديد بعض تلك التجمعات بالإزالة ، وبث الرعب في نفوس فلسطينيالقدس وضواحيها ، من خلال الاعتداءات المتكررة عليهم من قبل المستوطنين المدججين بالسلاح ، وفي السياق ذاته ، يسعى الاحتلال لعزل القدس وضواحيها عن محيطها الفلسطيني في الشمال والجنوب ، وقطع التواصل الجغرافي بين أنحاء الضفة الغربية ، وتقسيمها لقطع متناثرة ، ليستحيل عمليا أن تكون القدس عاصمة لأي دويلة فلسطينية في الضفة والقطاع . تهجير الفلسطينيين وسحب الهويات منهم : فالقدس لن تتسع للمستوطنين اليهود والعرب معا ، وإن كان لا بد أن يرحل أحد الفريقين ، فسيكون التهجير والطرد وسحب الهويات من نصيب العرب يقينا ، وهي السياسة المعتمدة لدى الاحتلال ، لا فارق بين جولدا مائير ، أو شارون ، أو شيمون بيريز ، أو ليبرمان ، وإن كانت جولدا أكثر رفقا بفلسطينيالقدس ، فقد أوصت ، وهي رئيسة اللجنة الوزارية لشئون القدس عام 1973 ، بألا يتجاوز الفلسطينيون 22% من مجموع سكان القدس ، أما شارون فقد صرح في الذكرى الثامنة والثلاثين لاحتلال القدسالشرقية (2005) ، بأن القدس ملك لإسرائيل وأنها لن تكون بعد اليوم ملكا للأجانب ، أما بيريز الحريص على رداء صديق العرب ، الراغب في السلام ، فقد سبق أن أعلن ضرورة تهجير العرب من القدس ، وصدرت تصريحات بالمعنى نفسه من ساسة إسرائيليين آخرين . وها نحن اليوم (*)، وفي الأشهر الماضية ، نرى قوات الاحتلال ترسل الإخطارات لهدم عشرات المنازل العربية في أحياء القدس العريقة ، وطرد مئات الأسر منها، ونرى الحكومة الجديدة نتنياهو/ليبرمان/باراك تعلن مرحلة متقدمة من تهويد القدسس وطرد أهلها ، وتسن قوانين أسوأ من قوانين الطواري والانتداب ، مثل القانون الذي يفرض غرامة باهظة على المقدسي الذي يملك بيتا غير مرخص ، ويقوم بتأجيره أو تسكينه أو منحه لشخص مقدسي آخر حتى لو كان من أفراد العائلة نفسها ، وتفرض الغرامة نفسها على الطرف الآخر ، ويجري هدم البيت لاحقاً. الحفريات تحت الأقصى: فإذا كان الأقصى هو الرمز الديني والتاريخي الأكبر في المدينة ، وإن كان من العسير هدمه بشكل مباشر ، خشية عواقب ذلك ، فإن الحفريات حول المسجد ، وفتح الأنفاق تحته ، تعد خطوة تمهيدية ، ووسيلة لتحقيق ذلك الهدف يوما ما ، بشكل قد يبدو قدريا غير متعمد ، وقد شهدت السنوات الخمس الأخيرة تصاعدا في الحفريات ، دعت مؤسسة "الأقصى للوقف والتراث " للتحذير من مضاعفات الحفريات الاسرائيلية تحت محيط المسجد الأقصى ، خاصة بعد الانهيار الذي وقع في مدرسة البنات التابعة للأونروا في الأول من فبراير الماضي (2009) ، على بعد أمتار جنوب الأقصى ، وأعربت المؤسسة عن خشيتها من وقوع انهيارات في المسجد أو المباني المجاورة بسبب الحفريات الخطيرة التي تجري . وبجانب الحفريات ، هناك الاعتداءات والاقتحامات التي يتعرض لها المسجد من المستوطنين الصهاينة ، وقوات الاحتلال ، والعدوان على المصلين ، وفرض الحصار عليهم ، وغيرها من وسائل التضييق والتعنت . (ج) الضعف العربي ونهج الاستسلام والتفاوض في مقابل التمسك الصهيوني بالقدس ، والسعي الدءوب لتهويدها ، نجد العرب الرسميين ، في مجملهم ، يعلنون أن السلام هو خيارهم الاستراتيجي ، الذي لا بديل له ، وأن التفاوض هو وسيلتهم الوحيدة ، وإن كانوا لا يملكون القوة التي تمكنهم من فرض شروطهم على الصهاينة في ذلك التفاوض ! وإن كان التفاوض على جزء من الحق ، ومع قوم لا يفهمون غير لغة القوة ! وإن طال التفاوض عشرات السنين ، ازداد العدو فيها توحشا وعدوانا ! وإن كانت الشعوب العربية في أغلبيتها تؤيد المقاومة وتنادي بها ! بل نجد أنظمة في دول عربية كبرى عربية تحارب المقاومة ، وتنسق مع الدولة الصهيونية والولاياتالمتحدة في الجهود الرامية لمحاصرة المقاومين ودفعهم لنهج التفاوض والاستسلام ! ومع إن الدول العربية التي صالحت الدولة الصهيونية ، وعقدت معها المعاهدات ، أعلنت أنها تفعل ذلك لالتقاط الأنفاس ، وبناء قوتها الاقتصادية والعسكرية ، بعد أن استنفد الصراع الطويل قواها ، فإن ذلك الهدف المعلن لم يتحقق ، ما حدث هو العكس : تردٍ في مجمل الأوضاع الاقتصادية والسياسية لتلك الدول ، واتساع الفجوة العلمية والعسكرية التي تفصل العرب في مجملهم عن الدولة الصهيونية ، واختلال ميزان القوى اختلالا فادحا ، ينذر باحتمالات بالغة الخطورة في حال نشوب صراع مسلح مع الكيان الصهيوني . والخلاصة أن العرب ينحدرون من ضعف لضعف ، وأن من عجزوا عن حماية بغداد ، ومقديشيو والخرطوم ، لا يتوقع منهم أن يحرروا فلسطين ، أو جزءا غاليا منها ، كالقدس ، هذا إن توفرت لهم النية ، أساسا . (د) غياب العالم الإسلامي عن المعادلة : رغم الموقع الذي تحتله القدس في قلوب مسلمي العالم ، ورغم الأخطار الدائمة التي تهدد المسجد الأقصى ، ورغم أن إنشاء منظمة المؤتمر الإسلامي جاء ردا مباشرا على محاولة حرق الأقصى في أغسطس 1969 ، فإن العالم الإسلامي غائب بشكل فعلي عن معادلة الصراع مع الصهيونية وحلفائها ، وهو غياب راجع إلى عدة أسباب ، منها تحالف أنظمة دول مسلمة كبرى مع الكيان الصهيوني ، مثل تركيا ، وسير دول أخرى في الركاب الأمريكي فيما يخص فلسطين ، والسعي المتواصل لعزل القضية الفلسطينية عن بعديها العربي والإسلامي ، بجعلها صراعا محليا بين الإسرائيليين والفلسطينيين ، يقوم فيه العرب والمسلمون بدور الوساطة ، وعجز منظمة المؤتمر الإسلامي عن أي دور حقيقي في قضايا العالم الإسلامي ، وهو ما نتج عنه في مجمله غياب الرؤية الموحدة التي تجمع العالم الإسلامي فيما يخص القضية الفلسطينية ، وغياب الخطة التي تعين على استعادة فلسطين ، وفي القلب منها القدس . (ه) موقف العالم المسيحي : من الواضح أن العلاقة بين الدولة الصهيونية والفاتيكان تتوثق يوما بعد يوم ، فبعد أن برأ الفاتيكان اليهود من دم المسيح في سنة 1965 ، كانت الخطوة المهمة الثانية : زيارة البابا الراحل (يوحنا بولس الثاني) لمعبد يهودي في روما 1986 ، والتي مثلت سابقة تاريخية فريدة من نوعها في التاريخ الكاثوليكي . وفي سنة 1994 بدأت العلاقات الدبلوماسية الرسمية بين الفاتيكان والدولة الصهيونية ، ومع مطلع الألفية الميلادية الثالثة ، وزيارة البابا الراحل يوحنا بولس للدولة الصهيونية ، آنذاك ، بدأت العلاقات الرسمية بين مجمع الحاخامية الكبرى لإسرائيل وبين الفاتيكان ، وقد قام البابا الحالي بزيارتين لمعبدين يهوديين : في كولونيا بألمانيا (2005) ، ونيويورك (2008) ، وفي مايو / أيار من العام الحالي جرت زيارته الأولى للكيان الصهيوني ، تحت شعار الحج للأماكن المقدسة في القدس وما حولها . ولا شك أن تلك العلاقات في صالح المشروع الصهيوني في المقام الأول ، يحقق من ورائها مكاسب سياسية ودعائية كبيرة ، والأهم أنه يحيد الفاتيكان ، المرجعية الروحية لأغلبية مسيحيي العالم ، في قضية الصراع العربي الصهيوني ، وربما جعله يميل لكفة الصهاينة باعتبارهم القائمين على المقدسات المسيحية في فلسطينالمحتلة ، وفي القلب منها القدس ، ويكفي أن الفاتيكان يعترف بالدولة الصهيونية ويعقد معها الاتفاقيات . أما عن البروتستانت ، الذين يمثلون الأغلبية في دول استعمارية كبرى ، مثل : الولاياتالمتحدة ، وبريطانيا ، فقد تنامى بينهم ما يسمى ب " المسيحية الصهيونية " ، التي ترى في مناصرة الدولة الصهيونية واجبا دينيا ، يعجل بنزول المسيح الذي ينتظرونه ، ولا يتوقع من هؤلاء في مجملهم أي مناصرة حقيقية للعرب والمسلمين في قضية القدس ، أو قضية فلسطين عموما ، فغالبية البريطانيين والأمريكيين على مر العقود يؤيدون الكيان الصهيوني . قد يختلف مسيحيو الشرق العربي في موقفهم من الدولة الصهيونية ، وقد يأخذ مسيحيو مصر موقفا إيجابيا من القضية الفلسطينية ، ولكن يبقى هؤلاء أصحاب صوت ضعيف ، وينعكس عليهم الضعف العام الذي اعترى الأمة العربية منذ أمد ، ويصب تحركهم من أجل القدس في مجمل الجهود العربية من أجل تلك القضية ، وهي جهود نعرف حجمها ، والمتوقع منها . المقاومة هي الحل : إذا كانت أغلب المحددات التي ذكرناها في غير صالح القضية الفلسطينية ، وفي القلب منها القدس ، فما السلاح الأخير الذي يملكه العرب والمسلمون في صراعهم مع الصهيونية ؟ إنه السلاح الوحيد الذي يفهمه الصهاينة ، اللغة الوحيدة التي يستوعبونها ، والمنطق الوحيد الذي يقنعهم : سلاح المقاومة . لقد مرت الأمة بظروف مشابهة ، وربما أشد قسوة ، في تاريخها الطويل ، وليست تجربة الحروب الصليبية منا ببعيد ، ولكن لم يحدث في تاريخنا أن تعرضت المقاومة للتشويه والمحاربة كما يحدث الآن ، كان الملوك والأمراء يتحالفون مع الصليبيين ويقاتلون معهم ، ولكن كان الجميع يعرف ، والصليبيون أنفسهم ، أنها مرحلة وستمر ، وأن الأرض المحتلة ستعود لأصحابها ، ولم يكن في مقدور حاكم عربي واحد أن يسلم بحق المحتل في الأرض ، أو يهنئه على قيام دولة الاحتلال ، أو يعلن أن " السلام " خيار استراتيجي ، ويدعو لقبول الكيان الغاصب في نسيج الأمة ، ولم يكن بوسع فقهاء السلطان في ذلك الزمن أن يصدروا فتاوى الاعتراف بالاحتلال والتطبيع معه ، أو يصافحوا قادة العدو بحرارة وترحاب ، كانت الأنظمة تتفاوت في نهجها مع المحتلين ، حربا ومصالحة ، ولكن في النهاية يبقى أمل التحرير والخلاص ، لا أن تتفاوت في علاقاتها مع العدو ، والرضا بما يقدمه لها كما يحدث يوم ! بقي مبدأ المقاومة /الجهاد ، وظل العلماء والمربون يهيئون النفوس ليوم التحرير ، حتى ظهر القادة الذين حملوا اللواء ، وقادوا المقاومة الشعبية ، وحرروا الأرض . هناك جهود محمومة لتصفية القضية الفلسطينية ، وتثبيت الكيان الصهيوني في المنطقة ، وجعله جزءا "طبيعيا" منها ، وصار قيام دويلة فلسطينية في الضفة والقطاع حلما ، وشعارا مرفوعا ، يمثل أقصى الأماني في الصراع ، ويتولى الإعلام الحكومي الإلحاح على هذا الشعار ، باعتباره الحل الوحيد والممكن ، بل باعتباره :الحل العادل" ، وكأن تحرير فلسطين وعودتها لأهلها ظلم وجور ، وكأنه ميراث يقسم بين الأشقاء ! وللاسف استطاعت هذه الفكرة أن تغزو عقول العامة ، مع اليأس والإحباط الذي يخيم على النفوس ، بل عقول كثير من المثقفين الوطنيين في بلاد العروبة والإسلام ، تحت شعار "الواقعية " ، و"الحلول الممكنة " ، وربما أراد البعض أن يخفف من الفكرة ، فيقول إنه يقبل التقسيم مرحليا ، حتى تتهيأ ظروف التحرير الكامل والشامل ، وبذلك ينجو من الملامة والتشكيك في موقفه . ويبقى المطالبون بالحق الفلسطيني الكامل قابضين على الجمر ، متمسكين بالتحرير الكامل كواجب تمليه العقيدة والشرف والضمير الوطني ، ربما أصبحوا أقلية في النخبة ، ولكن الأمة ستسير خلفهم حتما ، إذا جد الجد ، وتغيرت الظروف ، وخفت القيود . لا مستقبل للقدس بغير تحرير فلسطين ، وقد علمنا التاريخ أن القدس تكون آخر مدن فلسطين احتلال ، وآخرها تحريرا ، ولا تحرير بغير المقاومة ، فهل نجد في حكام الأمة اليوم من يصنع منبرا للأقصى ليخطب عليه يوم التحرير ، كما فعل نور الدين محمود زنكي ؟ ..أشك كثيرا ، ولكني لا أيأس من روح الله .