في غمرة احتفاء المصريين واحتفالهم بثورة يوليو1952 لايتذكرون ماطمره النسيان من تاريخهم المديد من احتجاجات وثورات علي الاحتلال والطغيان والعوز والمسكنة, لو وضع بعضها فوق بعض لتلاشي الاعتقاد الزائف بأنهم شعب يصبر علي الضيم صبرا طويلا, أو أنه ضحية لثقافة سياسية سلبية ترسبت في العقول والنفوس إما بفعل الفرعونية السياسية, حيث تأليه الحاكم في مصر القديمة, أو بحكم متانة الدولة المركزية وقوتها لتحكمها في موارد الري في بلد زراعي, ثم في مصادر الدخل والثروة, أو من جراء الجغرافيا التي أهدت مصر واديا ضيقا منبسطا سهل التحكم في تفاصيله وناسه, وصحراء جرداء الهارب إليها لامحالة هالك, أو حتي بفعل الفهم الخاطيء للدين, الذي يوجد نوعا من الخنوع والخضوع والاستكانة, وتأجيل الحصاد إلي العالم الآخر. ويكفينا برهانا علي هذا أن أول ثورة في تاريخ الإنسانية جرت علي ضفاف النيل العظيم, وكانت من الشمول والقوة إلي درجة أنها هزت ضمائر, وأثارت اندهاش كل من فتشوا في ماضي مصر ووثائقها, باعتبارها أول دولة عرفها البشر. وكان السبب الرئيسي لهذه الثورة العارمة, التي وقعت خلال فترة حكم بيبي الثاني, هو تفشي الظلم واتساع الهوة بين الطبقات, حيث كانت قلة متخمة من فرط الشبع, وكثرة تعاني من قسوة الجوع, الذي بلغ مداه, حيث أكل الناس العشب, واكتفي بعضهم بشرب الماء, وعز علي الطير أن يجد مايملأ به جوفه, بعد أن نفدت الغلال من الصوامع, وتركت الماشية تهيم علي وجوهها, فهجم الناس عليها وذبحوها والتهموها, حتي فنيت, ووصل الأمر إلي حد أن الناس كانوا يخطفون القاذورات من أفواه الخنازير. وحين اشتد الجوع بالناس هاجموا بضراوة قصور الحكام والأثرياء, فقتلوا من فيها, ونهبوا مابها, وأشعلوا النيران في كثير منها, وصار الشعار الذي يسري في البلدات الرابضة علي ضفتي النيل هو: لنقص أصحاب الجاه من بيننا. وفي أتون هذه الفوضي سقط الحكم بعد أن انهارت الدواوين والمحاكم ونهبت سجلاتها, وذبح كبار الموظفين وصار من بقي منهم علي قيد الحياة بلا كلمة مسموعة, وعاشت مصر بلاحكام لمدة تصل إلي ست سنوات, فانتشرت عصابات السرقة والقتل, وأفلست الخزانة العامة, ولم ينج قصر الملك نفسه من النهب. ومنذ هذه الثورة العارمة, ومصر لم تهدأ رغم ظاهرها الذي فسرناه كثيرا بأنه سلسلة من السكون والخمود, لكن الحركة المصرية هذه لم تأخذ طريقا واحدا, إنما تنوعت بين الثورات والهبات والتمرد وبين العناد والعصيان والمقاومة والإصرار الصارم علي التمسك بالثوابت الوطنية, رغم تعاقب المحتلين, بل استدراج هؤلاء رويدا رويدا حتي يذوبوا في الروح الثقافية المصرية القوية, وهذه الروح جعلت مصر تحافظ علي استقلالها الكامل لزمن مديد يربو علي ثلاثة آلاف وخمسمائة عام من عمرها المعروفة وقائعه لدينا والذي يصل إلي خمسة آلاف عام. وهذا الاستقلال إما كان مصريا خالصا حكمت فيه البلاد أسر منها, أو أسر أجنبية, تمصرت, وتشربت روح هذا البلد العريق, وأدركت أنه أمة كاملة, ولذا قطعت تقريبا الحبل السري بينه وبين الإمبراطورية الكبيرة, أو خففته حتي صار رفيعا واهيا. وقد حدث هذا أيام الإغريق والرومان, وفي زمن العباسيين والعثمانيين. وكان هذا الاستقلال في جله الأعظم ثمرة لروح مصر الوثابة, أو ثورتها المستمرة بأشكال متنوعة, فبعد الثورة ضد بيبي الثاني, قام المصريون عن بكرة أبيهم ضد الهكسوس الغزاة, فخلعوهم من أرض النيل خلعا, وطردوهم إلي عمق الصحراء البعيدة, ثم جاءت ثورة من نوع آخر, أخذت منحي دينيا وفلسفيا وفنيا خالدا, وقامت علي أكتاف إخناتون, الذي نادي بالتوحيد في وجه تعدد الآلهة, وثار ضد الطقوس الوثنية, التي استغلت الدين في ظلم البشر, وتأليه الحكام, ولو قدر لهذه الثورة أن تنجح, لتغير تاريخ العالم برمته, ولما غزا الأشوريون مصر تزعم باسماتيك ثورة ضدهم حتي هزمهم, وأقام علي أنقاضهم حكم الأسرة السادسة والعشرين, التي سلمت الراية لأسرة بعدها خاضت هبات شعبية جارفة ضد الفرس المحتلين, دفع فيها المصريون ثمنا غاليا من أرواحهم الزكية, في سبيل الحفاظ علي نظام حياتهم وطرق معاشهم, التي حاول الفرس تدميرها, حتي جاء الإسكندر الأكبر فأخرجهم من بلادنا, لكنه حل محلهم في احتلالها. وجاء الدور علي الرومان ليذوقوا نوعا آخر من كفاح المصريين, الذين وجدوا في تمسكهم بالمسيحية نوعا من الاحتجاج ضد وثنية الرومانيين, وقطيعة رمزية كاملة وعميقة مع منطقهم الاستعماري. فلما اعتنق امبراطور الرومان المسيحية, وجعلها الدين الرسمي لإمبراطوريته مترامية الأطراف, وجد المصريون أنفسهم أمام مأزق شديد, لكنهم سرعان ماوجدوا مسارا لمواصلة كفاحهم, حين ميزوا مذهبهم الديني عن مذهب الرومان, فتواصل النضال ضدهم, وقدم الأقباط شهداء لاحصر لهم, ولم تتراخ عزيمتهم في الدفاع عن رؤيتهم الدينية, رغم مغالاة أعدائهم في اضطهادهم, بل أشعلوا حركات مقاومة متفرقة, فيما هب الصعيد في ثورة عارمة ضد حكم دقلديانوس. وأزاح المسلمون ظلم الرومان عن المصريين, لكن قيام الحكام الأمويين والعباسيين بتحويل الدين إلي أيديولوجيا, قاد بعض أمرائهم إلي التعسف مع الرعية, فرفض المصريون هذا التعسف, ولم يكن الرفض مقتصرا علي المسيحيين, بل المسلمين سواء من أصل قبطي أو من العرب الذين سكنوا مصر قبل ظهور الإسلام بزمن طويل. لكن مصر ولدت ثورات من نوع جديد, حين أخذت علي عاتقها الدفاع عن الشرق وعن الإسلام في مواجهة المغول والصليبيين, من دون أن تنسي الاحتجاج ضد ظلم بعض الحكام الفاطميين والمماليك والأتراك, ووصل الأمر إلي ذروته حين خلع علماء مصر خورشيد باشا, الوالي العثماني, وعينوا محمد علي بديلا عنه. وتصدي المصريون للحملة الفرنسية(1798 1801) ببسالة وشجاعة, بعد هزيمة المماليك بسيوفهم الصدئة أمام مدافع جيش نابليون, وحدث الشيء نفسه لحملة فريزر الإنجليزي1807 الذي انهال أهل رشيد, رجالا ونساء, علي حملته ضربا من كل مكان, وبأي أدوات ممكنة, حتي فر هاربا. وتحدي أحمد عرابي الخديو توفيق دفاعا عن حقوق الضباط المصريين, ثم قاد الفلاحين في مقاومة عسكرية ضد الاحتلال الإنجليزي, ورغم هزيمته, فإن ما أقدم عليه ألهب الشعور الوطني لدي المصريين, فشنفوا آذانهم إلي محمد فريد ومصطفي كامل, اللذين دعيا إلي الثورة, وتحقق الأمل مع سعد زغلول ورفاقه في ثورة1919 الخالدة, التي شاركت فيها كل فئات الشعب المصري, مختلفة الأعمار والنوع والمستوي الاجتماعي والدين, فحصد المصريون استقلالا نسبيا ودستورا رائعا, وتعبد الطريق أمام ثورة يوليو1952, التي إن كانت قد بدأت بانقلاب عسكري, فإنها لم تلبث أن تحولت إلي ثورة اجتماعية كاملة. إن هذا التاريخ الطويل يحمل في جوفه ثورة دائمة, لكنها كثيرا ما توارت خلف تحضر المصريين, وكراهيتهم للفوضي, وقدرتهم علي صهر الغريب, وإجادتهم فن المقاومة بالحيلة, وثقتهم في تدينهم وثقافتهم, فبدا جل تاريخ مصر نارا تستعر تحت الرماد, لايراها إلا كل ذي عقل فهيم, وبصيرة نافذة. عن صحيفة الاهرام المصرية 23/7/2007