منذ عُرف الشعراء، عرف جنونهم الذي قد يقود بعضهم إلى الانتحار للتعبير عن موقفه. ولا يستبعد أبدا أن يكون بُعد مبدع ما (شاعرا كان أو روائيا) عن المشهد الأدبي عموما أو العمل الإبداعي خصوصا موقفا متعمدا. ولنطرح السؤال بشكل آخر، هل حقا يملك المثقف كل هذه القوة في عصر تدخل الرقمية فيه في تفاصيل حياتنا؟ في عصر تضيق فيه الحريات على المثقف وتفتح الأبواب للغوغاء؟ هل الوسط الأدبي كما يصفه البعض مستنقع آسن حقا؟ أم أن مثقفينا لا يملكون الوعي الكافي بمسؤولياتهم تجاه أنفسهم؟ ولا يملؤهم غير الترف والكسل العام؟ إن اعتزال المبدع أو انقطاعه عن العمل الإبداعي ظاهرة خطيرة وقديمة أيضا. وللوقوف على بعض الضوء كان لا بد لهذا الملف من أن يُفتح. لا يدري عم يكتب الشاعرة العراقية الشابة المقيمة في بريطانيا ورود الموسوي ذات تجربة مهمة في الشعر خصوصا بعد صدور ديوانها الأول «وشم عقارب» الذي قوبل بالاحتفاء في الكويت والبحرين حيث أقامت في نوفمبر الماضي أمسيتين شعريتين لتوقيع الديوان، تقول معلقة على هذا الموضوع: قبل الدخول الى اسئلتك.. عليّ أن اطرق ولو بخفة على مسألة المبدع شاعراً أكان ام قاصاً ام روائياً ام ناقداً.. في كل المجالات هناك مبدع جاد وهناك الذي يتخذ من الادب وسيلة ليصل الى غاية ما.. ولا تستغرب لو قلتُ لك ان الشق الثاني يكثرون وبشدة في الكويت والسعودية والبحرين.. باعتبارها الدول الاكثر فاعلية مع المشهد الشعري.. هناك من يتخذ من الادب متنفساً للملل الذي يعانيه.. أو غاية لإشباع رغبة ما.. أو للشهرة..! وهذا النوع من الكتاب بلا شك هم الاغلب وهم ايضاً المبتعدون جدياً عن المشهد الثقافي لبعدهم عن الثقافة.. بل هؤلاء لا يفهمون معنى الأدب الحقيقي. والى اسئلتك.. وللرد عليها لابد من تقسيم الاجوبة الى اربعة اقسام: اولا: تقول في سؤالك هل حقا يملك المثقف كل هذه القوة في عصر تدخل الرقمية فيه في تفاصيل حياتنا؟ من المفروض ان يكون الجواب نعم المثقف له سلطة الحضور وما الانترنت والعالم الرقمي الا وسيلة لإيصال ابداع المبدع ومواقفه.. بل هي الباب الاوسع لايصال افكاره لكننا نرى المثقف اليوم يكتفي بنشر يومياته أو شتائمه أو قصائده المحشوة بالزوائد وهذا يفسح المجال لما اسميتهم بالغوغاء. ثانياً: تقول ايضا بعرض السؤال في عصر تضيق فيه الحريات على المثقف وتفتح الأبواب للغوغاء؟ الغوغاء في كل مكان وفي كل مجال لا في الادب والثقافة فحسب.. في السابق حين كانت مجلة الاداب ومجلة شعر اللتان نشرتا لكبار الشعراء والادباء.. كانتا بمنزلة منبر لايصال صوت المثقف.. وفي ذاك الوقت كان ايضاً ممن سقطوا من حقيبة الشعر والادب.. أي غوغاء ودخلاء على الجانب الادبي الجاد.. لكن هناك اصواتاً ظلت ولمعت واستمرت..اذن الاديب الجاد هو الذي يشتغل على نصه وعلى ذاته من العمق ومن الاساس لا ان يقرأ لادونيس ودرويش فقط ليغازلهما بكتابته أو يقلدهما تحديداً وبعدها يطلع علينا بديوان شعر ويصفق له الجميع لشاعريته!! أن تكون جاداً عليك ان تبدأ من الصفر وتتعلم اصول الادب قديمه وحديثه.. قد يعترض البعض على كلامي ليقول مالنا والقديم..؟ نحن ابناء اليوم نتعلم ما نحتاجه فقط.. واقول من لا جذور له لا ثمر له..! ثالثاً: كانت الحريات ضيقة نعم.. لكن مع ثورة النت والفضاء الحر انعدمت الرقابة تدريجياً.. الا فيما يخص الكتب.. وسؤالك هل الوسط الأدبي كما يصفه البعض مستنقع آسن حقا؟ والجواب: بكل بساطة الوسط الثقافي هو وسط اجتماعي اولاً.. بمعنى هناك افراد ينتسبون إلى الحقل الاجتماعي اولا ومنه ينتمون إلى الحقل الثقافي ثانياً.. حين يجتمعون في مكان ما سيشكلون مجتمعاً ثقافياً هو مصغّر عن مجتمعهم الاكبر.. فإن كان الوسط الاجتماعي اسناً وضحلاً فالنتيجة ستكون مجتمعاً ثقافياً ضحلاً.. لأن الافراد لا يعكسون الا بيئتهم.. وكونهم مثقفون لا يعني انسلاخهم عن بيئتهم.. بالعكس.. نسبة تشوههم اكبر لأنهم الاكثر قراءة والاكثر تأثرا بالاداب الاخرى.. وفي المجتمعات العربية تحديداً.. تكون نسبة تشوه المثقف اكبر لأنه فاقد لهويته بل ناقم على هويته العربية أو الشرقية فتراه يعرج خلف كل ماهو غربي.. ولك أن تتصور مقدار التشوه الذي يحدث والذي يعتبرونه في جلساتهم «ثقافة».. من دون وعي منهم بتأسيس ثقافة جادة نابعة من محيطهم ووسطهم وبيئتهم.. من دون التفكير باخذ افكار الاخر وتطبيقها على بيئتهم.. من دون التفكير بالاشتغال الذهني والفكري والفلسفي لك كمثقف.. وهي دلالات ستنعكس فيما بعد على النص الذي يحمل اسمك...!! رابعاً: أم أن مثقفينا لا يملكون الوعي الكافي بمسؤوليتهم تجاه أنفسهم؟ ولا يملؤهم غير الترف والكسل العام؟ بلا شك نعم.. من الصعب جدا ان ترى اليوم مثقفاً جاداً يملك قضية جادة يحاول الدفاع عنها.. المثقف اليوم والخليجي تحديداً لا يدري عما يكتب.. لأنه لم يصل بعد الى العمق الانساني فيسبره داخل نصه.. ولم يصل الى معاناة حقيقية يستطيع من خلالها تمرير افكاره.. ففي الكويت بدأت الكتابات تكثر وتشيع حول الرقيب والرقابة والسبب انه اصبح مادة يُكتب عنها.. وجد الكاتب الكويتي اخيراً قضية تستحق الاثارة.. أو كثرة قصص الشذوذ الجنسي عند البنات.. لأنها اصبحت ظاهرة عامة تطالعك في المتاجر وفي الاسواق.. اغلب الشعراء يتقصون اثر الجسد.. وما زال كل شعراء العرب يتقصون جسد المرأة لا لشيء فقط لأنه مادة تلهمهم نصاَ.. والعكس صحيح بالنسبة للمرأة الشاعرة أو الروائية أو القاصة.. ما زال المثقف غير مثقف بفهم ذاته اولا وفهم محيطه وفهم مشاكله..نعم ما زال المثقف الخليجي - إن وجد -مثقف مترف جداً لا يطمح إلى التغيير. اخيراً حين نستطيع تحديد هوية الابداع.. نستطيع تحديد هوية المبدع ومنه نستطيع اثبات هوية المثقف الجاد من غيره... اقامة الامسيات والنشاطات ليست دليلاً ابداعياً.. بقدر ماهي زحزحة للجامد والراكد.. وتواصل اجتماعي ثقافي. عثرات وعقبات بينما يرى القصاص والمصور الكويتي يوسف ذياب خليفة، الذي أصدر مجموعتين قصصيتين الأولى «العين الثالثة» والثانية «افكار عارية» التي صدرت مؤخرا عن دار الفارابي ومنعت رقابيا فوق وصولها إلى معرض الكتاب السابق: يضطر المبدع العربي مثله مثل باقي الناس إلى العمل لكسب لقمة العيش وكثيرا ما يكون مجال عمله مختلفا تماما عن مجال إبداعه خاصة في مجتمعاتنا العربية على عكس المبدعين الغربيين الذين يخصصون جل وقتهم لإبداعهم بسبب وجود احترام وتقدير الناس هناك لما يقدمونه من فنون ومؤلفات فيقبلون على شرائها مما تعود على المؤلف بمصدر رزق يكفيه عن الحاجة إلى القيام بعمل روتيني هذا إن لم يصبح ثريا ولعل قصة مؤلفة سلسلة روايات الساحر «هاري بوتر» أبلغ دليل على ذلك. ولا ننسى أن الحياة لا يمكن توقع ما تأتي به من مواقف صعبة وظروف قاسية على المبدع خاصة إذا كان رب أسرة، ورغم وجود فترات هادئة في سير الأيام يكون بمقدور المبدع وقتها أن ينتج ويطور في مجاله لكن تأتي عثرات وعقبات اجتماعية تجعله يبتعد لفترة معينة من الوقت إما عن الإنتاج أو عن الوسط الثقافي بشكل عام. لابد من تفهم خصوصية وتميز نفسية المبدع اللتين في الغالب تأتيان مختلفتين عن باقي الناس فالتمرد الفكري على كل ما هو رتيب ومكرر والرغبة في تحقيق الجديد والمختلف والغريب ليس لأجل الشهرة ولكن لتجديد معنى الحياة عن طريق تقديم مفهوم أكثر تطورا للمفهوم السائد عن الحياة وكل ما يتعلق بالبشر وهذا الشيء يتعرض لمحنة كبيرة وخطورة الفقد بسبب اضطرار المبدع أن يسجن نفسه في عمل روتيني فكريا قبل أن يكون جسديا ليحصل على راتب يساعده في تقديم إبداعه للمجتمع وفي أغلب الأحوال من دون وجود مردود مادي كاف فتجده يبتعد لفترة حتى يستجمع قوة إبداعية ومادية ليستطيع أن يقدم شيئا جديدا خاصة إذا كان يؤمن بالكيف أكثر من الكم. بينما القاصة الكويتية وعضو مجلس الإدارة في رابطة الأدباء استبرق أحمد التي أصدرت مجموعة قصصية واحدة «عتمة الضوء» والتي فازت بجائزة ليلى العثمان لإبداع الشباب في القصة القصيرة والراوية في دورتها الأولى منذ أربع سنوات، تقول: إطار فردي تدرك أن الإبداع حاله ابتكارية لا تراود الجميع بديموقراطية، رهافة حس متمايزة في التقاط سهم الفكرة المغايرة، ورصده في فضاء منطلق للآخر، مراحل تضع المبدع في حالة من التشظي، وإزاء سؤال يحمل تفريعات متعددة حول مسؤولية المثقف عن التغيير، ووقوعه بين فكي القدرة والعجز، أجدني أعترف أن المثقف يعمل غالبا في إطار جهده الفردي ضمن منجزه الكتابي إلا أن ذلك جهد خافت لإزاحة الركود وتفعيل الأهداف عبر وقت يحترف البطء ويستلزم وعيا عاليا للمجتمع، بينما في عمله وفق أي منظومة تشتغل على تضافر الجهود غالبا تجد أن العراقيل توضع من قبل مثقف آخر مناهض ولديه معاييره الخاصة، وتشيّد الخلاف مزيحة المقاصد الطيبة، هنا الكل تنطفئ الحكمة لديه إزاء سلطوية الرأي، الوعي الذي ندعيه يصاب بعطب غبش الرؤية للمسارات المتفرقة، ثم من هم كهنة البقعة الآسنة؟ مرآة الواقع تظهر أننا بأكملنا نصنع المشهد ونبني أصنامه ونأنف من التجديد ونرتاب منه والكثير من التصورات الباهتة والمحبطة نتداولها عن الوسط الأدبي ونكرسها بتعمد وتارة بلا دراية منا بشيء من المبالغة أحيانا، المسؤولية جماعية دائما وتخاذلنا في مواجهة الذات وكل من يستعذب عفونة الراكد ويدافع عن ظلمته ويحاجج في سبيل إلغاء بصيص التصويب مدعيا انه المعتنق الوحيد للحقيقة المطلقة هنا مكمن الخطأ والخطيئة وذلك ينطبق على أي مجال آخر، فالركون لحالة سلبية تامة من دون الانتقال للإيجاب من خلال فكرة ترتحل عبر النص أو عمل جماعي أمر يؤسف له، مع يقين أن كلا الجهدين سيجعل المبدع في مواجهة قصاص الفرق المصلحية، أما بخصوص قوة المثقف المتلاشية في الحياة الرقمية فأرى أنها أيضا أوجدت وسائل أخرى للتعبير والانتقال في ظل النهوض التكنولوجي الذي ساهم بالالتفاف على رقيب خائب ذي مزاجية سافرة وضامر التأثير وتبقى كيفية تسخير هذه الوسائل في اتجاه الاستفادة منها هي القائمة، أخيرا لكل حالة خصوصيتها في الابتعاد عن الإبداع والبعض التهمه غبار الحياة اليومي وتصحّرت منابعه، الآخر فقد إيمانه بصوت الكلمة، وهناك من وهّن من مناطحة الجمود، وهناك من توقف فقط عن النشر رغبة في التريث بنصه، هكذا تجد فعل واحد /صارم في مواجهة حزمة أسباب توقف المسيرة ولا تتوقف عن إنبات غيرها. أخيرا يبقى عزوف عشرات المبدعين «المتغيبين» عن المشاركة في هذا الملف دليلا آخر لاتساع هذه البقعة في المشهد الثقافي. المصدر: جريدة "القبس" الكويتية. بتاريخ: 12 مايو 2008.