من الملحوظ أن التفكير النهضوي العربي حكمه منطق التقليد، حيث لم يفكر في إبداع مشروع نهوض يبنى ويشيد، بل اتجه إلى التفتيش عن مشروع نهوض جاهز للنقل والاستيراد. حيث تنزع التيارات الفكرية السائدة في واقعنا الثقافي إلى اتخاذ مرجعياتها المذهبية الجاهزة أفقا وسقفا لمطلب النهوض، فالرؤى النهضوية المنتظمة في تيار التحديث كالتيار الليبرالي مثلا تجده يقول بوثوقية مذهبية إن النهضة لا تتحقق إلا بتطبيق الليبرالية. والتيار اليساري الاشتراكي الذي شاع خلال القرن العشرين يرى أن لا نهضة إلا بالاشتراكية، والرؤى المنتظمة في تيار التأصيل سادها هي أيضا هذا الوعي المذهبي الوثوقي، فالنموذج السلفي مثلا يرى أن لا نهضة إلا بإعادة إنتاج نفس مواصفات الاجتماع الإسلامي الذي تجسد في لحظة تاريخية ماضية. إن التفكير في النهضة من مدخل مذهبي جاهز نراه عائقا أمام حركة النهوض، وليس حافزا لها. ومن ثم فالخلل الأكبر في فهم ماهية النهضة يكمن في هذه النظرة المذهبية إلى السؤال الذي سقط في فخه مختلف مشاريع النهوض، سلفية كانت أو متغربة، فأنتجت رؤى وثوقية تكبل فعل النهضة ولا تحفزه. بينما سؤال النهوض ليس بالسؤال الذي يستلزم جوابا مذهبيا، بل هو سؤال تاريخي متحرك. وأقصد بالسؤال المتحرك أنه في كل لحظة تاريخية يحتاج إلى جواب خاص ينسجم مع حاجات تلك اللحظة وشروطها الآنية، واستشرافاتها المستقبلية. بمعنى أن سؤال النهضة هو سؤال متحرك مع صيرورة التاريخ، ومرتبط بتحديد دقيق لحاجيات اللحظة، والترتيب لها وفق منظور الأولويات. ومن هذا يأتي رفضنا لكل تمذهب جاهز، يقولب فعل النهوض في استنساخ مرحلة ماضية، أو تقليد لنموذج مستورد. لكن رغم نقدنا لمختلف هذه النماذج والمشاريع النهضوية، فإننا نعتقد أن التعدد في الرؤى له وجه إيجابي، لأنه قد يوفر إضاءات من زوايا متغايرة قد تفيد إذا سادتها صيغة تعاقد اجتماعي سلمي على إدارة الاختلاف، لأنه لا سبيل إلى إنجاز المشروع النهضوي بتفكير أحادي، فالأحادية والنمطية، حتى لو كانت صادرة عن فكرة «صحيحة»، فإن مصيرها إفقار الحياة لا إغناؤها. لكن هذا التعدد نراه يفتقر إلى الامتحان النقدي الفعلي, فرغم أن كثيرا من نتاجات هذه التيارات كانت نقدا صاخبا لبعضها البعض، فإننا نعتقد أن الفكر النهضوي العربي لم ينتقد بعد! وسبب ذلك هو غياب المختبر المجتمعي الذي يسمح بامتحان الرؤى والمشاريع المجتمعية. فماذا نقصد بغياب المختبر؟ إن النهوض بالإنسان والمجتمع ليس بأمر يكفي فيه التخييل والإيغال في التأمل، بل لا بد إضافة إلى فعل التنظير من اختبار محصول النظر وتطويره في جدل مثمر مع الواقع. ولست بهذا القول من دعاة الواقعية الساذجة التي تستهجن النظر والتخييل، بل أعتقد أن حتى النزعة اليوتوبية بما هي ارتحال إلى أفق الخيال كان لها خلال التاريخ البشري قيمة في تحريك الوعي النقدي الرافض للواقع. فكثيرة هي الثورات التي صدرت عن اليوتوبيا الحالمة. لكن في المقابل أيضا، لا بد من الانتباه إلى قيمة الحس الواقعي، وأكبر داع إلى ذلك هو أن اليوتوبي نفسه سرعان ما تتبدى له اشتراطات الواقع وإكراهاته عندما يبدأ في ممارسة فعل التغيير، فتراه يعود إلى نظريته بالتعديل والتبديل. إذن إن مشكلة النهضة لا يمكن أن تعالج معالجة فعلية على أرض الورق، إنما لا بد من جدل الفكر مع أرض الواقع. حيث لا تكفي الرؤية المنطقية بصوريتها وامتثالها للأقيسة والترميز لمعايرة نظرية من النظريات النهضوية. إذ يحق لحامل هذه النظرية حتى لو انتقدتها من جهة النظر، أن يطالب بامتحانها في الواقع، بل أن يحاجج هذا اليوتوبي النهضوي بأنها لو طبقت لتبدلت الأرض غير الأرض، ولقلب الوضع من هذا السائد المتأزم إلى وضع ناهض متقدم. لكن قد يعترض على ما سبق بالقول: إن ثمة معايرة واقعية لمشاريع النهوض، وذلك بالقياس على وقائع مجتمعية غربية مثلا، أو تاريخية ماضية، حيث طبقت هذه النظرية المجتمعية أو تلك. لكن هل يصح اعتبار ذلك وجودا لمختبر الفكر؟ إن الذي يذهل عنه هذا الاعتراض هو ما قلناه سابقا، من أن النظرية النهضوية هي نظرية في بناء الفكر والمجتمع، إنها صناعة الإنسان، وإعادة صياغة لنسيج علاقاته. ومثل هذه الصناعة لا يمكن أن تكون إلا مشدودة إلى سياق الصيرورة، ومن ثم فالنظرية النهضوية التي لا تنصت إلى صيرورة التاريخ ولا تتفاعل معه بتغيير بنيتها النظرية، ستؤول إلى الجمود والموت. لذا فالقياس على التاريخ لا ينبغي أن يكون إلا بحس الاعتبار. كما أن القياس على نظم مجتمعية أخرى لا يجب أن يسقطنا في إرادة استنساخها. فأنساق الثقافات ونظم الاجتماع لا ترتحل بكامل مركبها الحضاري. ومن هنا تبدو ضرورة إنجاز نقلة من مستوى التنظير إلى اختبار الماصدق الواقعي لنظرية النهضة, لكننا إذ نقول ما سبق، نضيف أيضا أن الواقع العربي ينقصه شرط هذه النقلة. أما الذي يمنع تحقق هذا الشرط فهو بعبارة وجيزة «عائق الاستبداد السياسي». لذا فإنجاز النقلة الديمقراطية في السياسة نراه مدخلا لاستنزال الفكر النهضوي من عليائه، وامتحانا فعليا لمقولاته. وهنا نحسب أن فكر النهضة عند مختلف الرواد الأوائل أدرك خطر الاستبداد على النهضة. ولا نعتقد أن هذا الإدراك كان خاصا بعبدالرحمن الكواكبي (1854-1902) الذي أرجع في كتابه «طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد» أصل التخلف إلى «الاستبداد السياسي» الذي ينعته بكونه «أصل الداء». بل حتى الإمام محمد عبده الذي غالبا ما يقارب بوصفه حدد النهضة في المستوى التربوي نجده في أكثر من نص يؤكد على المسألة السياسية وخطر الاستبداد. بل نجده يرجع سبب التخلف والانحطاط إلى انفراد الحاكم بالرأي والقرار، حيث يقول: «إذا دققنا النظر في أدوار الحكومات الإسلامية من عهد الرسالة إلى الآن نجد ترقيها وانحطاطها تابعين لقوة أو ضعف احتساب أهل الحل والعقد وإشراكهم في تدبير الأمة». بل نلاحظه يرادف الفساد بالاستبداد، والصلاح بسنة الاستشارة، فيقول: «عند التدقيق في كل فرع من الدول الماضية والحاضرة بل في ترجمة كل فرد من الملوك والأمراء بل في حال كل ذي عائلة أو كل إنسان فرد نجد الصلاح والفساد دائرين مع سنة الاستشارة أو الاستقلال في الرأي». إن إنشاء الواقع السياسي الديمقراطي مطلب آني اليوم، به يرتهن تأسيس مختبر أفكار النهضة. ** منشور بصحيفة "العرب" القطرية 12 يوليو 2009