لا يكفي في مجال تشخيص التخلف العربي القيام بمسح عام للأسباب الداخلية والخارجية, بل لابد من إجراء دراسات متعمقة لا تكتفي بأن تلمس سطوح الظاهر, وإنما تتعمق نشأتها وتطوراتها عبر الزمن. وقد حاول عدد من الكتاب العرب معالجة إشكالية النهضة متبنين في ذلك مناهج متنوعة, ومركزين علي جوانب متعددة. ومن بين الكتب الهامة التي تعرضت للموضوع كتاب' محيي الدين صبحي' الذي نشر عام1997 عن دار نشر رياض الريس في بيروت, وعنوانه' الأمة المشلولة', وكان الهدف منه تشريح الانحطاط العربي. وأصدر نفس المؤلف كتابا آخر يكاد أن يكون الجزء الثاني لكتابه الأول بعنوان' عرب اليوم: صناعة الأوهام القومية'. وفي نفس السياق نشر الدكتور' ماهر الشريف' كتابا هاما عنوانه' رهانات النهضة في الفكر العربي' نشرته دار المدي عام2000 وهو يتضمن دراسات عميقة عن خطاب النهضة. وأصدر الدكتور' حامد خليل', كتابه عن' الحوار والصدام في الثقافة العربية المعاصرة', عن دار المدي عام.2001 ولو طالعنا كتاب' ماهر الشريف' عن رهانات النهضة لوجدناه يصدره بمقدمة مهمة عن' النهضة والتنوير وتجدد الاهتمام بهما'. وترجع أهميتها إلي أنه استطاع في صفحات محدودة أن يثير أهم الإشكاليات التي طرحتها النهضة, وأن يتعقب مسارها, وأن يتأمل أسباب فشلها في النهاية, من خلال اقتباسات موفقة من عدد من المفكرين العرب الذين انشغلوا كل بطريقته في ممارسة النقد الذاتي العربي. ويبدأ السؤال الرئيسي: متي ظهرت إشكالية النهضة العربية؟ ونعرف سلفا الخلاف الشديد بين المؤرخين والعلماء الاجتماعيين فيما يتعلق بتحديد اللحظة التاريخية_ إن صح التعبير- التي بدأت فيها شرارة النهضة العربية. الرأي السائد كان إلي زمن قريب أن هذه اللحظة تتمثل أساسا في احتكاك المجتمع المصري المملوكي المتخلف بالحضارة العربية في الصراع الدامي الذي تم بين الحملة الفرنسية بقيادة نابليون والمجتمع المصري. النظرية التقليدية تقول: إن الحملة كانت أشبه بالحجر الثقيل الذي حرك بحيرة الركود المملوكية, وكانت أشبه بالمقدمة التي تلقفها من بعد' محمد علي', لكي يؤسس مصر الحديثة بناء علي مشروع حضاري كامل, مازال محل خلافات بين المؤرخين في تقويمه. غير أن النظرية التقليدية تحدتها نظرية راديكالية صاغها باقتدار المؤرخ الأمريكي الماركسي' بيتر جران', في كتابه الشهير' الجذور الإسلامية للرأسمالية', الذي ذهب فيه_ من خلال دراسة مصر في النصف الثاني من القرن الثاني عشر إلي أن الحملة علي عكس ما يقال- أجهضت نهضة وطنية مصرية خالصة, تجلت أساسا في نمو ملحوظ للرأسمالية التجارية, رافقه تطور فكري في دراسات اللغة والأدب والفقه. ولا يدخل ماهر الشريف في هذا الجدال المهم من أجل حسمه لأنه يؤثر تأثيرا واضحا علي نشأة ومسار النهضة, ولكنه يقرر أن إشكالية النهضة العربية ظهرت في مطلع القرن التاسع عشر' بعد أن بدأ العرب والمسلمون يمتلكون الوعي بتخلفهم, ويدركون حاجتهم للنهوض بعد عصور طويلة من الانحطاط'. وفي رأيه أن الاحتكاك المباشر بالغرب لعب دورا رئيسيا في ظهور هذه الإشكالية التي صار يتبلور حولها فكر عربي, ويري عدد من الباحثين أن حقل هذا الفكر قد امتد إلي الحرب العالمية الأولي, في حين ينظر آخرون إلي' طه حسين' في كتابه' مستقبل الثقافة في مصر' الصادر عام1938, باعتباره أخر المعبرين عن هذا الفكر. كان السؤال الرئيسي المطروح: لماذا تخلف العرب والمسلمون وكيف ينهضون؟ للإجابة عن هذا السؤال توزع مفكرو النهضة_ كما يقرر' ماهر الشريف' علي تيارين رئيسيين: تيار الإصلاح الديني من جهة, وتيار ليبرالي غلب عليه إلي حد كبير الطابع العلماني من جهة ثانية. غير أن' ماهر الشريف' يسوق ملاحظة علي قدر كبير من الأهمية, مفادها أنه قد جمعت بين هذين التيارين علي الرغم من اختلاف المنطلقات_ قواسم مشتركة عديدة. في مقدمة هذه القواسم المشتركة الاقتناع بأهمية العلم وضرورة الاستناد إلي العقلانية, والقاسم المشترك الثاني هو الدعوة إلي الانفتاح علي العالم والاقتباس المشروط عن الغرب. والقاسم المشترك الثالث هو تبني مبادئ الحرية والعدل والمساواة وسلطان القانون, والاقتناع بأن الإصلاح أو التغيير أو التحديث, يجب أن يتم عن طريق التدرج لا عن طريق الطفرة, وألا يكون فوقيا, بل إن تكون له صفة مجتمعية شاملة, بحيث يشمل النظام السياسي وأوضاع المرأة وقضايا اللغة والتربية والتعليم, وطرائق حياة الناس وأخلاقهم. وإذا تأملنا في هذه القواسم المشتركة بين التيار الديني الإصلاحي والتيار الليبرالي, لأدركنا علي الفور أن أنصار التيارين قد قبلا في الواقع نموذج مشروع الحداثة الغربي, كمشروع حضاري قابل للاحتذاء. ألم يقم هذا المشروع_ كما يؤكد ذلك عالم الاجتماع الإنجليزي الشهير انتوني جيدنجز في كتابه المهم' نتائج الحداثة'- علي الفردية والعقلانية والاعتماد علي العلم والتكنولوجيا, وتبني مفهوم وضعي في ممارسة العلم الاجتماعي, وبناء مجتمع مدني حي يتوسط الفضاء السياسي بين الفرد والدولة؟ غير أن' ماهر الشريف' يقرر في ملاحظة مهمة ان النهضة كإشكالية اختفت تدريجيا من ساحة الفكر العربي لتحل محلها إشكالية الثورة. وربما كان في هذا التحول التاريخي_ الذي له أسباب جد متعددة_ جذر من جذور التخلف العربي الراهن! ذلك لأن الثورة كما تجسدت في الخمسينيات في نظم سياسية, وسواء كانت ناصرية أو بعثية, خيبت الآمال في الواقع في تحقيق الوعود العظمي للنهضة العربية الأولي, وأهمها حرية الوطن, والمواطن, تأسيس الدستور كوثيقة أساسية تحدد العلاقات بين السلطات, وتقرر حقوق المواطن وواجباته, والنهوض الحضاري العام في مجالات التعليم والاقتصاد والثقافة, في فضاء يتسم بالحرية, ولا تمارس فيه الدولة القهر ضد المواطنين. وفي محاولته تشخيص أسباب فشل الثورة التي حاولت- علي أنقاض مشروع النهضة- أن تقود مسيرة التحديث العربي, يعتمد ماهر الشريف علي ثلاثة كتاب مصريين هم: إسماعيل صبري عبد الله, وبهاء طاهر, وجابر عصفور. بالنسبة لإسماعيل صبري عبد الله الذي نشر مقالا مهما في مجلة' المستقبل العربي' عام1992 عنوانه' نحو نهضة عربية ثانية: الضرورة والمتطلبات', يقرر أن النهضة العربية الأولي قام بها الناس وليس الحكومات. وكان من سماتها أيضا ظهور مفكرين كبار جمعوا بين الثقافتين التراثية والمعاصرة. غير أنه_ كما يقرر- من المؤسف أنه بعد الحصول علي الاستقلال السياسي انشغل السياسيون بالصراع علي السلطة. وأساسا بالأساليب غير المشروعة واستخدام القوة. كما انشغل المثقفون بالتأثير علي السلطة كتأثير مباشر متخطين ضرورة التأثير في الناس وتكوين الرأي العام. أما' بهاء طاهر' في كتابه' أبناء رفاعة: الثقافة والحرية' الصادر عام1993, فهو يرجع سبب الانتكاسة إلي ما يسميه بظاهرة' التراجع الثقافي' وظهور' المثقف الموظف' علي حساب' المثقف المفكر', وهو هذا المثقف الذي يتولي تجميل أفكار القيادة السياسية والترويج لها, لا ذلك الذي يعارضها أو يقومها. وأخيرا يري' جابر عصفور' في كتابه' هوامش علي دفتر التنوير' الصادر في عام1994, أن أجيال التنوير المتلاحقة واصلت جهودها منذ بداية عصر النهضة حتي نهاية الأربعينيات, حيث بدأت محنة التنوير ودخل في عصر الانحسار بالتوازي مع قيام' الدولة التسلطية'. غير أن' ماهر الشريف' يختلف مع' جابر عصفور' في مسألة انحسار الروح التي سادت عصر النهضة, وهو يردها إلي العشرينيات, حيث حدثت_ كما يقول- قطيعة فكرية بين التسامح والانفتاح, والحرية والتعددية, والاقتناع بنسبة الحقيقة وبأهمية التفاعل الحضاري, والتي كانت كلها سمات المناخ الثقافي النهضوي, لتسود اتجاهات أخري تميزت بالتعصب والانغلاق والواحدية والتشبث بالحقيقة المطلقة والتشكك إزاء الآخر, وكان ذلك بداية انتكاسة التنوير. وفي تقديرنا أن هذا الخلاف لا يمكن حسمه إلا بالتحليل الدقيق للخطاب الفكري من العشرينات حتي الوقت الراهن, حتي نرصد مؤشرات' القطيعة الفكرية' التي يشير إليها' ماهر الشريف' لو كانت قد حدثت فعلا, بالإضافة إلي تحديد الرموز الفكرية للتيارات الانغلاقية الفكرية. وأيا ما كان الأمر, فيبدو أن هناك إجماعا بين عدد يتكاثر من الباحثين والمفكرين, حول أن عصر الثورة العربية_ حتي ولو لم يصرحوا بذلك بوضوح_ كان أشبه بوضع التاريخ العربي بين قوسين, تم فيه تجميد مكتسبات عصر النهضة العربية, في مناخ زاعق حفل بالشعارات البراقة. غير أن الحصيلة التاريخية النهائية تكشف في الواقع عن فشل ذريع في توجيه مسيرة التحديث التي حلت بشكل غوغائي محل مسيرة الحداثة, التي كانت تهدف في التحليل النهائي إلي تحرير المواطن من كل القيود, لكي يعيش كريما في وطن حر مستقل. من هنا جاءت أهمية أن نستعيد فكر النهضة العربية لكي نحدد مقولاته الرئيسية عبر ممثليه من رواد الفكر العربي الحديث.