صدر مؤخرا عن دار كنوبف بلندن كتاب "انحطاط الإمبراطورية البريطانية وسقوطها" للمؤرخ بيرس بريندون، ويقع في 794 صفحة من القطع المتوسط. لا يتردد بريندون في القول أن الكثير من الأزمات التي يشهدها العالم اليوم وفي مقدمتها تلك الأكثر اشتعالا في أفغانستان والعراق تجد جذورها فيما يسميه ب"السلام البريطاني"، أي بالصيغة التي عمدت بريطانيا على أن تتركها وراءها قبل الجلاء عن البلدان المعنية، وحيث يختلط في كل مرة التاريخ والمأساة. ووفقا لصحيفة "البيان" الإماراتية يحدد المؤلف تاريخ 1871 كبداية للمرحلة التي يدرسها في انحطاط الإمبراطورية البريطانية ثم سقوطها، ويختار تاريخ "اكتمال" ذلك في عام 1997 أي عندما جرى نقل السلطة في هونغ كونغ من بريطانيا إلى جمهورية الصين الشعبية. وكانت الإمبراطورية البريطانية "الشرقية" قد امتدت من مصر إلى هونغ كونغ حيث مارس فيها التاج البريطاني ممثلا بحكومة بريطانيا وجيشها هيمنة كاملة لا يقاسمه فيها أحد على مساحات شاسعة تقارب 11000 مليون ميل مربع، كما تشمل حوالي ربع سكان المعمورة آنذاك، وكانت تلك الإمبراطورية قد بلغت ذروة قوتها في نهايات القرن التاسع عشر. لكن البدايات الحقيقية لخلخلة تلك الإمبراطورية يمكن تحديدها في فترة ما بين الحربين العالميتين حيث كانت شعوب عديدة، قد شرعت بثورات تحرر وطني والمطالبة بجلاء الاستعمار البريطاني. وهذا ما يدرسه المؤلف في قسم مكرس لسنوات 1919-1929. أما مرحلة بدايات انهيار الإمبراطورية البريطانية فقد بدأت فعليا بعد الحرب العالمية الثانية التي خرجت منها بريطانيا منتصرة ولكن مدمرة إلى حد كبير اقتصاديا حيث تراجع دورها ودور فرنسا أيضاً بعد أن كانتا في عداد القوى الكبرى ذات الصوت القوي على المسرح العالمي في الفترات السابقة. ويحدد المؤلف عام 1947 كبداية النهاية بالنسبة للمشروع الإمبريالي البريطاني. ففي تلك السنة وصلت الهند إلى نيل استقلالها الوطني كتتويج لمسيرة النضال السلمي التي قادها المهاتما غاندي. وكان الفصل الختامي في انهيار الإمبراطورية البريطانية هو تسليم هونغ كونغ للسيادة الصينية. ومن الآثار الباقية بقوة بعد نهاية الإمبراطورية البريطانية يحدد المؤلف خاصة اللغة الانجليزية التي تعامل فيها لفترة من الزمن جزء هام من البشر بحكم العلاقة مع المركز الاستعماري البريطاني وظلّت موجودة في مختلف البلدان بعد جلاء الاستعمار. وكان المركز الذي اكتسبته الولاياتالمتحدة الأميركية، والمستعمرة الانجليزية السابقة في العالم عاملا إضافيا في الانتشار الهائل للغة الانجليزية على صعيد لا سابق له طيلة مسيرة التاريخ الإنساني كله. هذا إلى حد يمكن معه القول اليوم أن العولمة معادلة ل"اللغة الانجليزية مضافا إليها الثورة الرقمية-ميكروسوفت". لكن يتم التأكيد أن خسارة المستعمرات الأميركية كانت الضربة الأكبر لتلك الإمبراطورية. كما كانت المنافسة الفرنسية أحد العوائق التاريخية في الفترات الأولى. لكن مفعول المنافسة تضاءل قليلا مع عامل التفوّق الذي حققته البحرية الملكية البريطانية بفضل الثورة الصناعية وبسبب الضعف النسبي للقوى الأوروبية المنافسة خلال القرن التاسع عشر. ويعود المؤلف على مدى صفحات عديدة إلى الحرب العالمية الأولى، التي قامت على خلفية المنافسة بين القوى الإمبريالية الأوروبية. تلك الحرب أنهت وجود إمبراطوريتين كبيرتين، هما الإمبراطورية العثمانية والإمبراطورية العثمانية والإمبراطورية النمساوية-الهنغارية، كما أنها "خربت" بريطانيا تقريبا. ويشرح المؤلف على مدى العديد من الصفحات كيف أن الأزمات المعاصرة في الشرق الأوسط نجد امتدادها في "وزارة الخارجية" البريطانية. ذلك أن بريطانيا، وأثناء انسحاب جيشها من الهند وبرمانيا وسيلان وماليزيا، حاولت أن تعزز مواقعها في الشرق الأوسط. وينقل عن انتوني ايدن قوله إن الدفاع عن منطقة شرق حوض المتوسط هي "مسألة حياة أو موت بالنسبة للإمبراطورية البريطانية". وكان بلفور قد أعطى قبل ذلك وعده لليهود بفلسطين في منظور زرع ركيزة لتوجهات بلاده للمنطقة.