هل دخل الدكتور محمد مرسي حرباً شرسةً مع التيارات والفصائل والائتلافات الثائرة دون أن يبتغي لذلك سبيلاً ؟ بالطبع لا ، فهو كرئيس للجمهورية يعلم تمام العلم الذي يشارف اليقين بأنه يحمل أمانة عظيمة لا يسعى لأية إثارة شعبية ضده لاسيما وأنه يعلم غضبة الميادين التي تحترف الضجر وتأبى الصمت . ولكن مصر وحدها هي الدولة التي تهوى صناعة الرفض يتجلى ذلك في الممارسات الثورية التي تظهر يوماً بعد يوم عقب تولي الدكتور محمد مرسي رئاسة الجمهورية . فبقدر ما يحاول الدكتور مرسي جاهداً أن يبدو بعيد الصلة إعلامياً عن جماعة الإخوان المسلمين التي تعاني رفضاً مطلقاً من بعض الفصائل السياسية في مصر ، إلا أن الداعمين له قبيل إعلان نتيجة انتخابات رئاسة الجمهورية من المعتصمين في الميادين هم أنفسهم الذين رفضوا قرار الرئيس بعودة مجلس الشعب المنحل ، ورأوا في ذلك إعادة إنتاج لعهد مبارك السياسي حينما كان ينفرد بإصدار بعض القرارات السيادية التي لا تقبل مراجعة أو مناقشة. في الوقت نفسه الذي خشيت فيه التيارات الليبرالية الهوية أن يكون قرار عودة المجلس ولو بصورة موقتة حتى يفصل القضاء المصري في مصيره من جديد ، هو غلبة تسيد جماعة الإخوان المسلمين وذراعة السياسي حزب الحرية والعدالة لسدة السلطة التشريعية بغير منازع أو مغالب أو شريك . ورغم هذا الهاجس الذي لم يقارب اليقين السياسي حتى الآن إلا أن هناك أيضاً قوى سياسية دينية أخرى وجدت غضاضة في عودة البرلمان لعمله . وبين رأي المواطن البسيط الذي لم يجد خيراً في مجلسه الذي انتخبه من قبل ، وبين رفض القوى السياسية لانفراد الرئيس بهذا القرار لاسيما وأن الدستور الجديد لم تتم صياغته ومن ثم لم تتحدد بعد صلاحيات الرئيس المعلنة ، تقف الميادين الثائرة كفرس رهان يحدد بوصلة المشهد السياسي الراهن . بل وأصبح الرئيس نفسه وجهاً لوجه في مواجهة أولئك المواطنين الذين لم يعرفوا بعد للهدأة طريقاً . وعليه كان من المفترض وهذا طبعا من باب إسداء النصيحة للسيد الرئيس لأن يتعرف على آراء المواطنين والثائرين بالميادين والتي تتزايد مطالبهم مع كل صباح ، وخصوصاً أن الميادين الثائرة كانت بانتظار برلمان وطني ثوري يعبر عن مطامحهم ومطالبهم التي في سبيل تحقيقها استشهد الكثير من المصريين لكن كان البرلمان بجلساته العلنية مخيبة للآمال بل سأذهب بعيداً برأيي في أنها كانت مشاهدتها أيضاً مضيعة للوقت . ودون الخوض في السياق القانوني لبطلان عودة مجلس الشعب من عدمه ، أعتقد أن الرئيس مرسي حينما قرر تلك العودة للبرلمان المنحل كان يظن أنه بذلك سيكسب ود الميادين التي لا تعرف الهدوء لمطالبها ، وأظنه أنه استسلم لللافتات المرفوعة بالميادين وقت تأديته لليمين الدستوري بميدان التحرير وربما اعتقد أن جموع المعتصمين والثائرين كانوا يرغبون في ذلك ، لكن الحقيقة هي أن جماعة الإخوان المسلمين وحزب الحرية والعدالة وحده هو الذي كان يرغب في ذلك ، والدليل القاطع لهذا الظن أن فئة كبيرة من أعضاء المجلس المنحل ظهرت على الفضائيات طيلة شهر كامل ينددون بجلساته وأعماله ، بل ولقد شاهدنا جميعا بعض البرلمانيين وهم يعلنون أن هذا المجلس هو أسوأ برلمان جاء في تاريخ مصر وهم شهود عيان على ذلك. وإذا تجاوزنا قرار السيد رئيس الجمهورية بشأن عودة المجلس الذي كان منحلاً منذ شهر تقريباً ، فإننا لابد وأن نرصد حركة التموجات السياسية في الميادين الثائرة والتي بدت الآن في مواجهة الرئيس ، فإذا كان الشعب المصري بصفة عامة انقسم إلى فئات لها مطالب فئوية خاصة بهم كمدرسين أو عمال مصانع أو أكاديميون أو غير ذلك ، فإن الميدان بحكم طبيعته يحمل هماً جماعياً ومطالب شعبية لا تقتصر على فئة بعينها ، مثل ذلك لم نجد مثلاً لافتة بالميدان تحمل أية إشارات للانفلات الأمني لأن الميادين الثائرة من طبيعتها التكوينية أكثر الأمكنة آماناً واطمئناناً ، لكن رغم ذلك تظل تلك الميادين صاحبة الشرعية المطلقة ورمزاً نهائياً للسيادة والخيار الشعبي الذي يقصم ظهر منافسه ، هذا رغم وجود سلطات تشريعية وتنفيذية رسمية بالبلاد. لكن على مر التاريخ القصير لثورة يناير البيضاء والميدان يلعب دوراً مؤثراً في تحريك المشاهد السياسية والاجتماعية في مصر ولا أدعي قولاً بأن الميادين الثائرة كانت حكماً فاصلاً في الكثير من القضايا السياسية الشائكة التي شهدها الوطن. باختصار شديد على الدكتور محمد مرسي بوصفه رئيساً للجمهورية أن يدرك دوماً حركة تلك الميادين التي لا تزال ثائرة وترفض السكينة أو التأجيل المؤقت لمطالبها ، ولكم أنا وغيري شديد التعاطف والمشاركة الوجدانية للرئيس مرسي فيما يواجهه من مشكلات وتركة ثقيلة ورثها عن نظام مبارك القديم ، غير غافل أيضاً عن قوى وتيارات كثيرة تسعى في الخفاء لتقويض حكم الرئيس بل وتحاربه سراً وعلانية لإجهاض أية محاولات للنهوض بهذا الوطن . وعليه فإن أقسى ما يواجهه الرئيس المنتخب بشرعية الصناديق هو أن الشعب برمته أصبح جبهة معارضة بخلاف العهود السابقة الذي كان فيه الرئيس وحزبه الوطني قادراً على مواجهة أية تشكيلات معارضة لسياساته ، أما اليوم فالأمر بات مرتبكاً وأكثر توتراً ، فبين تيارات إسلامية غالبة ، وأخرى ليبرالية حزبية ، يظهر التيار الثالث دون تحديد واضح لرؤيته ومعالمه ، وقوة عسكرية لا تزال في عقل المواطن هي الحاكم الفعلي للبلاد والمسيطر على شئونه الداخلية ، وكل هؤلاء دونما استثناء يطلبون ود الميادين الثائرة ليل نهار ، أما الرئيس فهو بحق إلى إجراءات مباشرة تسمح له التواصل بغير حجاب أو وسيط مع معتصمي الميادين والذين يرفضون بحق مغادرة ساحة نشاطهم والخروج مع من خرج نحو القصر الرئاسي للمطالبة بحقوقهم . وسيظل الميدان هو كلمة السر أو الشفرة الكودية للحراك السياسي في مصر .