أنظمة الحكم فى أى بلد تشبه شوارعه، هكذا كتبت فى مقالى فى جريدة الشرق الأوسط فإذا رأيت شوارع نظيفة وحمامات عامة نظيفة فتأكد أنك فى بلد ديمقراطى يمج بالحياة السياسية والاهتمام بالشأن العام فى حين إذا رأيت شوارع متسخة وأكوام قمامة وحمامات عامة تجعلك تفرغ ما فى بطنك من الغثيان، فأنت بكل تأكيد أمام نظام سلطوى أو فى مجتمع ماتت فيه السياسة بمعنى موت اهتمام الناس بالشأن العام، الزبالة فى أى بلد هى (ترمومتر) السياسة. باختصار جوهر الفكرة هو أن الحياة مجالان، المجال الخاص الذى يشمل أمورنا الشخصية وبيوتنا، والمجال العام الذى يشمل الأمور العامة للوطن وشوارعنا، وحدائقنا، لدى معظم البشر لاشك أن المجال الخاص غالبا ما يكون نظيفا، فالناس يهتمون بنظافة أنفسهم وملابسهم وبيوتهم، ويرون فى ذلك مصلحة لهم، أما المجال العام ونظافته فهو أمر يختلف من بلد إلى آخر ويعكس طبيعة النظامين السياسى والثقافى لدى المجتمع والدولة. ففى الدول الديمقراطية تكون هناك حالة من التماهى بين العام والخاص، أى إذا دخلت البيوت وجدتها نظيفة، وأن مشيت فى الشوارع كانت نظيفة أيضا، أما فى الدول الديكتاتورية فيكون البيت نظيفا ومحافظا على أنواره وزينته بينما يكون الشارع متسخا ومليئا بالقمامة، ويسرق فيه الناس لمبات أعمدة الإنارة أو يكسرونها فهناك حالة من العزلة بين المواطن والوطن.. المواطن يريد بيته نظيفا لأن الأمر يخصه ولا يكترث بوطنه إن كان قذرا لأنه شأن لا يخصه بل يخص النظام الديكاتورى فقط والذى هو ضدها أصلاً، هناك الدول "النص نص" التى لا هى ديكتاتورية ولا هى ديمقراطية، فى هذه البلدان يكون البيت نصف نظافة والشارع نصف نظافة أيضا، نوع جديد من الأنظمة اصطلح عليه بالأنظمة التسلطية، أو شبه التسلطية، يكون البيت فيها غير نظيف تماما لأن النظام الأبوى يخلق عند الأطفال حالة من الاهتمام المؤقت، اهتمام بنظافة البيت فى وجود الأب، وخلق فوضى فى البيت لحظة غيابه، شىء أشبه بوجود البوليس فى الشارع وعلاقته بالنظام والفوضى التى تسيطر لحظة اختفائه، ولو كان مجرد اختفاء مؤقت لتناول وجبة غداء.. النظرية هنا هى أنه يمكننا تصنيف المجتمعات والدول وعلاقة المجتمع بالدولة فى معادلة السياسة والزبالة. وجود زبالة فى الشارع يعنى أنه لا اهتمام بالسياسة، لأن المجال العام أصبح مقلبا للنفايات، النفايات بأنواعها المختلفة، النفايات المادية ونفايات القول وقبيحه، وكما تستمع كركبة الصفيح فى مقلب الزبالة تسمع كركبة نفايات القول والصياح والشتائم فى المجال السياسى، اتساخ الشارع واتساخ المراحيض العامة ووسائل المواصلات يعنى أنك فى مجال سياسى يعانى من حالة انسداد حادة وحتاج إلى سباكة حادة وربما يحتاج إلى تغيير المواسير كلها. هذه العلاقة بين (العام) و(الخاص) مضطرية حتى فى عمران مبانينا، ففى معمار الواجهة فى دول ما بعد الاستعمار، نلحظ ما يمكن تسميته بمعمار الزيف، أى معمار الواجهات الذى يعنى ويزين واجهة المنزل ويترك داخله خربا، عمران فساد وزيف لا عمران اتساق.. وبذا يفرز هذا المعمار منظومة قيمية تؤكد المظهر لا المخبر. فى مصر وهى أكبر بلد عربى يدور اليوم حديث ساخن حول القمامة التى ملأت الشوارع فى عديد من المحافظات لكنه حديث مفكك لا يربط بين الأشياء وبعضها البعض، فهم يتحدثون عن الزبالة وكأنها شىء منفصل عن السياسة رغم أن أساس السياسة هو فهم معنى المجال العام، أو مساحات الاهتمام المشترك بين المواطنين فإذا رضى الإنسان بأن يكون المجال السياسى مقلب قمامة فيجب ألا يتذمر عندما يكون الميدان العام كذلك، قرأت وشاهدت فى مصر كيف أن هناك وزارات وإدارات حكومية تستجلب شركات أجنبية لتنظيف الشوارع والمكاتب أى أن الأجنبى هو من يدير لنا المجال العام ويتحكم بنظافته، إذا كان هذا هو الحال فى عالم الزبالة، فلماذا نضجر يا ترى عندما يكون الحال كذلك فى السياسة؟.. أى إذا كانت دولنا مازلت تحتاج إلى شركات أجنبية للنظافة، فما معنى ما حققناه من استقلال ما دمنا غير قادرين على تنظيف شوارعنا؟. إن الحديث عن الزبالة والسياسة فى بلداننا هو حديث عن صلب السياسة، ولكن فى المجتمعات المغلقة يصبح الحديث تلميحا لا تصريحا، فبدلا من الحديث عن سياسة ملوثة ومتسخة تجدنا نتحدث عن الزبالة، وكأنها أمر منفصل.. الحقيقة هى أن الأمرين ملتصقان وأن السياسة فى معظم الأحيان أقرب إلى الزبالة منها إلى النظافة، إذن المعركة الدائرة فى بر مصر حول الزبالة هى فى جوهرها معركة سياسية بامتياز، ولمن يرى غير ذلك حق الرد على الفكرة لا على الشخص.