عندما كنا صغارا كان اللغز المفضل لدى البعض هو: ما هى الدولة التى لو قرأتها بالمقلوب أو بالمعدول ستكون النتيجة واحدة؟ وكانت الإجابة دائما «ليبيا». ومنذ ذلك الحين وحتى الآن إذا قرأت ليبيا بالمعدول أو المقلوب فهى كما هي، لم يتغير شيء. ولكن هذا ليس مقالا عن ليبيا، هذا مقال عن المقالات التى هى شبه كلمة «ليبيا»، مقالات تملأ الصحف، وإن قرأتها من الأول إلى الآخر أو من الآخر للأول، أى بالمقلوب أو بالمعدول، فالنتيجة واحدة، مجرد رص كلام منمق. المهم هو جملتان فى أول القفص، من مدرسة «وش القفص» وبعدهما «كلام فشنك» لا منطق يحكمه، أو كما نقول فى الصعيد «كلام ملوش راس ولا رجلين». أو بلغة العصر كلام منزوع الدسم. أتقن الكتاب عندنا كتابة هذا النوع من المقالات بتجميع لما كتبته بعض الصحف الغربية أو باستهلال المقال بالإشارة إلى كتاب أجنبى أو الاستشهاد بمقولة كاتب غربي، كما كان يستشهد جماعتنا فى الإذاعات العربية بما كانوا يسمونه «من أقوال الكاتب الساخر جورج برنارد شو»، وإن كنت تعيش فى صعيد مصر، حيث كنت أعيش، يخيل إليك وأنت الذى لم تتح لك فرصة الاطلاع على آداب الغرب، أن المذيع أو معد البرنامج ملم بالآداب العالمية، فتأخذك حالة من الانبهار بثقافته العالية، ولكن وبعدما أتيح لى التعلم فى بلاد الغرب، وقرأت توافه كتب الغرب والجاد منها، عرفت أن هناك سلسلة كتب تباع على الأرصفة من مدرسة من أقوال «جورج برنارد شو» ومن أقوال أوسكار وايلد ومن أقوال تشيرشل، الخ. بعد أن قرأت بعضها اكتشفت أنها ما يكرره جماعتنا فى العالم العربي، فربما هم لا يتعبون أنفسهم فى قراءة جورج برنارد شو الأصل، أو ديكينز أو ييتس، فقط يشترون هذا الكتاب الذى سعره خمسون بنسا، فيه أشهر الأقوال لهؤلاء، يرددونها علينا، وكنا ننبهر بها. أما اليوم وقد قرأنا أصول الكتب ولم نقرأ الملخصات أو مختارات الأقوال، فلم يعد هذا النوع من الحديث يبهرنا. كان كتابنا العظام يتحدثون عن نيويورك وعن الأممالمتحدة وعن ذلك الباب الصغير الذى فى مبنى الأممالمتحدة والمصمم خصيصا بطريقة تجعل أعظم الزعماء ينحنى عند دخوله، وقيل لنا إنه عندما اصطحب الرئيس الأميركى ضيفه الزعيم الخالد جمال عبد الناصر إلى الأممالمتحدة، كما ذكرت فى مقال سابق، فحاول أن يدخله من هذا الباب حتى ينحنى الزعيم ولكن ناصر رفض الدخول من هذا الباب لأن الزعماء من أمثاله لا تنحنى لهم قامة. وذهبت إلى نيويورك وإلى الأممالمتحدة خصيصا باحثا عن هذا الباب الصغير، فلم أجده. هذا كلام كتبه جيل من الصحافيين العرب، مستندين على أن جمهورهم لا يقرأ ولا يسافر، أما الآن والجمهور قد تعلم وسافر، فلنكتب مقالات تشبه القارئ الجديد المطلع والمتعلم والمثقف، مقالات صريحة وواضحة، ليست من النوع الذى يشبه «ليبيا»، فلا فرق إن قرأتها من الأول إلى الآخر أو إن قرأتها بالمقلوب أو بالمعدول.