كتاب "أسرار حرب أكتوبر في الوثائق الأمريكية" الذي أصدره مركز الأهرام للترجمة والنشر ويتضمن نحو تسعين وثيقة من الوثائق الرسمية الأمريكية التي تم الإفراج عنها نهاية العام الماضي بمناسبة مرور ثلاثين عاما على الحرب. أن الكتاب مثل مناسبة "لإستعادة ذكرى فترة وقف فيها العرب صفا واحدا وفي أتفاق تام يؤيدون فيها مصر وسوريا في حربهما التي شناها في سنة 1973 ضد إسرائيل بغرض تحرير أراضيهم التي كانوا قد فقدوها قبل ذلك بست سنوات في حرب 1967 قضوها في محاولات دبلوماسية فشلت جميعا في إعادة الأرض إلى أصحابها." وتغطي الوثائق المتضمنة في الكتاب الفترة بين شهر مايو 1973 وحتى انتهاء العمليات العسكرية وبدء مفاوضات فض الاشتباك بين مصر وإسرائيل في مطلع شهر نوفمبر. وأضاف الدكتور رشدي أن أول ما لفت نظره في تلك الوثائق هو ذلك "الموقف المشرف الذي وقفه العرب وراء مصر وسوريا" والذي يتبين بشكل واضح من الوثيقة التي تضم محضر الاجتماع بين الرئيس الأمريكي في ذلك الوقت ريتشارد نيكسون ووزراء خارجية أربع دول عربية هي السعودية والكويت والمغرب والجزائر ممثلين لكافة الدول العربية وذلك في السابع عشر من أكتوبر 1973. ففي ذلك الاجتماع "كان العرب يتكلمون في ثقة وفي كبرياء وأكدوا للرئيس الأمريكي وقوفهم خلف مصر وسوريا في حربهم المشروعة حتى جلاء إسرائيل من آخر شبر من الأراضي المحتلة." وكان المتحدث باسم الوزراء العرب في ذلك الاجتماع هو وزير الخارجية السعودي في ذلك الوقت عمر السقاف، كما ساهم في النقاش وزير الخارجية الكويتي صباح الأحمد الصباح الذي ما يزال يشغل هذا المنصب والذي بدت من تعليقاته كيف كان "من أشد المناصرين لقضية تحرير الأرض العربية." والطريف كذلك أنه في نفس هذه الوثيقة فإن نيكسون أشاد بالرئيس الراحل عبد الناصر أمام الوزراء العرب ووصفه بأنه كان رجل وطني رغم إختلافه مع مواقفه. فهل كان نيكسون يعني ما يقوله بالفعل أم أنها كانت مجرد جملة تهدف إلى أستمالة ضيوفه في البيت الأبيض. "شتان الفرق بين الأمس واليوم. فبالأمس كان العرب في وحدة أكدوها بالأفعال قبل الأقوال، وقامت كافة الدول العربية وبلا استثناء واحد بدعم الحرب ،فقامت اليمن بالمشاركة من خلال إغلاق بوغاز باب المندب. كما أرسلت ليبيا والجزائر والعراق الأسلحة والعتاد والجنود. وأمدت السعودية ودول الخليج وليبيا والجزائر مصر وسوريا بالأموال لشراء الأسلحة." كما شدد على أهمية القرار العربي في ذلك الوقت بوقف ضخ النفط والامتناع عن توصيله إلى الدول الغربية التي أمدت إسرائيل بالأسلحة أو سهلت وصولها إليها. أما النقطة الثانية شديدة الأهمية التي كشفت عنها الوثائق فكانت ذلك الدور الكبير الذي لعبه وزير الخارجية الأسبق ومستشار شئون الأمن القومي هنري كيسنجر في إدارة وتشكيل نتائج هذه الحرب. فلقد كان كيسنجر هو المحرك الأول لعملية إمداد إسرائيل بالسلاح لتعويض خسائرها الكبيرة في بداية الحرب ومساعدتها من اجل استعادة تفوقها العسكري. وبجانب العوامل الشخصية التي كانت تربط كيسنجر بإسرائيل لكونه يهودي الديانة، فلقد أشار الدكتور رشدي إلى أهمية النظر إلى حرب أكتوبر في إطار الحرب الباردة التي كانت تدور بين الولاياتالمتحدة والاتحاد السوفيتي في ذلك الوقت، وتشديد كيسنجر لدى سعيه لإقناع أقطاب الإدارة على ضرورة مساندة إسرائيل بكل قوة على عدم إمكانية السماح لأحد حلفاء واشنطن بأن يلقى هزيمة على يد سلاح سوفيتي يحارب به العرب. وأشار كذلك إلى الدور شديد الأهمية لكيسنجر –والذي وصفه مترجم الكتاب بأنه ينطبق عليه وصف المؤامرة- في السماح لإسرائيل بخرق موعد وقف إطلاق النار الذي كان قد أتفق عليه شخصيا مع القيادة السوفيتية في العشرين من أكتوبر وذلك لكي تتمكن من تحسين موقفها العسكري وتعزيز موقفها التفاوضي في مرحلة لاحقة. وأدت هذه المؤامرة التي يثبتها محضر إجتماع بين كيسنجر ورئيسة وزراء إسرائيل في ذلك الوقت جولدا مائير في 22 أكتوبر إلى تشديد الحصار على قوات الجيش الثالث على الضفة الغربية للقناة بعد تمكن القوات الإسرائيلية بقيادة رئيس الوزراء الحالي أيريل شارون من العبور إلى تلك الضفة فيما يعرف باسم ثغرة الدفراسور. وأضاف الدكتور رشدي أن الوثائق الأمريكية تكشف كذلك كيف أن كيسنجر سعى إلى التهرب من تنفيذ توجيهات الرئيس نيكسون شخصيا، وكيف انتابته حالة من الغضب العارم عندما وصلته رسالة منه يقول فيها أن لديه تفويض كامل للتوصل إلى أتفاق مع السوفيت حول وقف إطلاق النار. ورأى كيسنجر أن ذلك التفويض حرمه من حرية المناورة في مفاوضاته مع السوفيت وعدم تمكينه من إطالة أمدها تحت دعوى حاجته إلى العودة واشنطن والحصول على توجيهات جديدة من الرئيس الأمريكي. وأدت مواقف كيسنجر الرعناء وتحيزه المطلق لإسرائيل إلى تهديد سياسة الوفاق التي تمكن هو شخصيا من التوصل لها مع السوفيت وذلك بعد أن شعرت القيادة في موسكو أن "الأمريكيين يشجعون إسرائيل على خرق وقف إطلاق النار لتوسيع رقعة الأرض التي كان قد احتلوها على الضفة الغربية من قناة السويس وإلحاق هزيمة كاملة بالعرب." أن من يقرأ الوثائق الرسمية الأمريكية سوف يلحظ بلا شك "تلك النظرة الدونية التي كان يرى بها كيسنجر العرب وقوله أن لديهم "نوع من الرومانسية الغامضة التي تجعل من الصعب التعامل معهم." ولم يصدق كيسنجر أن عند العرب من الشجاعة أو القدرة ما يمكنهم من بدء الحرب. وعندما بدأت كان على ثقة أنهم سيهزمون. وحتى بعد أن أثبت العرب قدرتهم في أول أيام الحرب وأنزلوا بالإسرائيليين الخسائر الضخمة في الرجال والعتاد، فلقد ظل واثقا من قدرة الإسرائيليين على هزيمة العرب. ولذا كان سعيه لتأجيل إتخاذ مجلس الأمن لقرار يدعو فيه لوقف إطلاق النار بعد قيام الحرب بأيام وذلك لإعطاء فرصة لإسرائيل لاستخدام قدراتها لصد هجوم المصريين والسوريين وحتى لا تدخل إسرائيل في مفاوضات وقف إطلاق النار وهي في حالة تراجع." أن ما لم تجب عنه الوثائق الأمريكية، وكذلك العديد من الكتب الأخرى التي صدرت في مصر وتناولت حرب أكتوبر، "هو سبب تغير مسارها من نصر كبير لصالح العرب استمر لنحو أسبوعين إلى حالة تراجع ملحوظ أدت إلى عودة الجولان مرة أخرى إلى السيطرة الإسرائيلية بعد أن تحررت واختراق القوات الإسرائيلية للخطوط المصرية وعبورها قناة السويس واستيلاءها على أراض غرب القناة." أن أهم ما دفعه لترجمة هذا الكم من الوثائق هو إنتماءه لجيل يقترب أو تجاوز العقد الرابع من العمر، ولكن هذا الجيل لا يعرف سوى القليل عن تفاصيل حرب أكتوبر وأهميتها مقارنة بالأجيال السابقة التي عاشت تلك الفترة وعاصرت السنوات الصعبة التي سبقتها في أعقاب هزيمة 1967 وبجانب المشاهد المعتادة لجنود مصر البواسل وهم يعبرون قناة السويس في قواربهم وعدد من الأفلام التلفزيونية التي تتحدث عن الحرب، فإن الأجيال الحديثة لا تدرك إلى حد ما مدى أهمية حتى ذلك المشهد الخاص بعبور القناة وكيف أنه كان يمثل عملا شبه مستحيل كانت كافة الأطراف الدولية في ذلك الوقت وعلى رأسها قوات الاحتلال الإسرائيلي تستبعد تماما وقوعه. كما أن المكتبة العربية تفتقد تماما مثل هذا النوع من الوثائق التي تحكي تفاصيل الحرب من خلال أرشيف وزارة الخارجية الأمريكية ومجلس الأمن القومي والبيت الأبيض وتحتوى محاضر لقاءات هامة عقدها كيسنجر مع السوفيت والمصريين والإسرائيليين. ولكن العامل الأكثر أهمية الذي دفعه لترجمة الوثائق هو أنها مثلت ردا ماحقا لكل الإدعاءات الغربية والإسرائيلية بأن العرب لم يتمكنوا من تحقيق انتصار في تلك الحرب وذلك في محاولة واضحة لزرع الهزيمة في نفوسهم وجعلهم يفقدون الثقة في قدراتهم، وهي أكبر هزيمة يمكن أن يلحقها عدو بخصمه. فمن خلال الوثائق الأمريكية يتضح حجم الخسائر الكبيرة التي لحقت بإسرائيل والتي كان سببها الأول تلك الحالة المفرطة من الغرور التي شعر بها قادتها في أعقاب حرب 1967، وكيف أن الحرب كان يمكن أن تتطور إلى هزيمة كاملة للدولة الصهيونية لو لم يسرع كيسنجر بالدفع نحو مد إسرائيل بكافة أنواع الأسلحة الأمريكية ليس فقط من خلال الجسر الجوي الشهير ولكن كذلك من خلال جسر بحري مماثل جلب لها المئات من الأطنان من المعدات الثقيلة. ولعل ما يؤكد ذلك هو موقف كيسنجر نفسه في الأيام الأربعة الأولى من الحرب حيث كان يصر حتى يوم العاشر من أكتوبر على ضرورة قيام القوات المصرية والسورية بالإنسحاب إلى خطوط ما قبل اندلاع الحرب، وهو ما وصفه خالد داود بأنه كان مطلب يقترب من حد العبث لأنه كان يتجاهل تماما أن العرب كان يخوضون حرب تحرير وليس حرب عدوان للاستيلاء على أراضي الغير. ولكن بسبب حالة الثقة العمياء التي كانت تسيطر على كيسنجر في قدرات إسرائيل على هزيمة العرب، فإنه برر موقفه ذلك بالزعم أنه لو لم ينسحب العرب إلى خطوط الخامس من أكتوبر، فإن إسرائيل كانت ستلحق بهم هزيمة قاسية وستحتل المزيد من الأراضي العربية، وبالتالي فإن مطلبه كان لصالح العرب وليس ضدهم! ولكن فقط في اليوم الخامس من الحرب (ووقفا لكتاب كيسنجر الأزمة والذي قام مراسل الأهرام بترجمته أيضا العام الماضي ونشرته الأهرام كاملا في ما يزيد عن أربعين حلقة) وبعد أن أيقظه سفير إسرائيل لدى واشنطن سيمحا دينيتز في منتصف الليل ليخبره بحجم الخسائر الفادحة التي لحقت بالجيش الإسرائيلي، تخلى كيسنجر عن ذلك المطلب السخيف وبدأ في تغيير إستراتيجيته للمطالبة بوقف إطلاق النار والبدء في مد إسرائيل بكميات هائلة من السلاح. كما لفت نظر مترجم الوثائق كذلك حجم الشبه الكبير بين المواقف الأمريكية من الصراع العربي الإسرائيلي عام 1973 والموقف الحالي، لدرجة أنه يتم ترديد نفس المقولات الحجج التي وضعها كيسنجر منذ ذلك الوقت. ففي محاضر الاجتماعات المختلفة التي جمعت بين كيسنجر ومائير وكذلك بينه وبين نيكسون كان الوزير الأمريكي الداهية يصر على أن القرار 242 الذي صدر في أعقاب حرب 1967 لا يعني بأي حال من الأحوال ضرورة انسحاب إسرائيل من كافة الأراضي العربية التي تم احتلالها في ذلك الوقت، وأن المطلوب هو الانسحاب من "أراضي" وفقا للنص الإنجليزي من القرار وليس من "الأراضي" كما يشير النص العربي. كما أن الموقف الأمريكي الذي لم يتغير منذ ذلك الوقت أيضا هو أن أي أراضي يتم الانسحاب منها ستتم عبر التفاوض بين إسرائيل وكل دولة عربية منفردة على حدة وليس بشكل جماعي، والأهم وفقا لمصالح إسرائيل الأمنية. وقبل الاجتماع الذي تم بين نيكسون ووزارء الخارجية العرب في 17 أكتوبر، والتي أشار لها الدكتور رشدي، جرت مكالمة هاتفية بينه وبين كيسنجر نصحه فيه الأخير بعدم تقديم أن مواقف أو اقتراحات جدية لهم بشكل جماعي، وأن يسعى لاستمالة الوزير السعودي السقاف في إجتماع منفرد كان سيجري بينهما في وقت لاحق. كما أن كيسنجر، وبسبب النظرة الدونية التي كان يتعامل بها مع العرب، لم يكن يتوقع مطلقا أن يقدم السعوديين أو حلفاء واشنطن في منطقة الخليج على اتخاذ قرار المقاطعة العربية وبقي مقتنعا حتى اللحظة الأخيرة أنهم لا يوجد لديهم الشجاعة الكافة للإقدام على هذه الخطوة. ومن بين الحجج التي يستخدمها الأمريكيون في مفاوضاتهم مع العرب منذ ذلك الوقت وحتى الآن كلما تعلق الأمر بإسرائيل هو عدم قدرتهم الضغط عليها بدعوى أنها ديمقراطية، ولا يمكن لحكوماتها اتخاذ قرارات منفردة كما هو الحال في الدول العربية. ولكن الواقع أن أمريكا تبقى هي الدولة الوحيدة القادة على الضغط على إسرائيل وإجبارها على الانصياع، وكان هذا هو ما قام به كيسنجر حين أمر مائير بالالتزام بوقف إطلاق النار بعد تصاعد الأزمة مع السوفيت وفك حصار الجيش الثالث. كما تكشف الوثائق الأمريكية الخاصة بحرب أكتوبر كذلك، وفقا لخالد داود، على حقيقة هامة أخرى خاصة بعملية صنع القرار في الولاياتالمتحدة والذي دائما ما يميزه الانقسامات بين الإدارات المختلفة، بين معتدلين ومتشددين. وفي الوقت الذي تتبنى فيه وزارة الخارجية حاليا موقفا معتدلا بشأن حرب العراق ويدعو إلى استعادة تحالفات الولاياتالمتحدة مع بقية دول العالم، بعكس وزارة الدفاع التي تمتلئ بالمحافظين الجدد الذي دفعوا لهذه الحرب الأخيرة، فإن الموقف كان مختلف تماما في حرب 1973. ففي ذلك الوقت كانت الخارجية بقيادة كيسنجر هي صاحبة المواقف المتشددة، بينما كان القادة المدنيون وكذلك العسكريون في وزارة الدفاع هم من عارضوا بشدة ذلك الانحياز الأعمى لإسرائيل وإصرار كيسنجر على مدها بكافة أنواع الأسلحة. كما عارض العسكريون بقوة في وزارة الدفاع استمرار إسرائيل في حصار الجيش المصري الثالث وقيامها بمنع وصول المؤن والأدوية إليه وكذلك إصرارها على قيام جنوده بتسليم أسلحتهم قبل فك الحصار عنه. وفي جميع الأحوال، فإن صاحب القرار الحقيقي فيما يتعلق بسياسة الولاياتالمتحدة أثناء حرب أكتوبر لم يكن الرئيس نيكسون الذي كان مشغولا بمشاكله الداخلية وتحديدا فضيحة وترجيت، بل كان كيسنجر بلا منازع. وكان كيسنجر أيضا هو الذي أقترح افتعال أزمة مع الاتحاد السوفيتي بلغت درجة رفع حالة الاستعداد النووي أثناء الحرب، ليس لأن الموقف كان يستدعي ذلك، ولكن فقط في محاولة فشلت سريعا للتغطية على مشاكل نيكسون الداخلية. وفي عام 1998، أتهم معظم الساسة الأمريكيون الرئيس السابق كلينتون بافتعال أزمة مع العراق والقيام بضربه في عملية ثعلب الصحراء ليس لأنه كان هناك ضرورة لذلك، ولكن لمحاولة التغطية على فضيحة مونيكا لوينسكي الشهيرة. وأخيرا، فإن الوثائق تكشف أنه كما يوجد الآن انقسام حاد بين الولاياتالمتحدة وما يسمى بدول أوربا القديمة حول حرب العراق، فكذلك كان الحال إبان حرب أكتوبر 1973، عندما عارضت فرنسا وألمانيا وكذلك بريطانيا موقف كيسنجر المتحيز تماما لإسرائيل وهو ما أثار غضبه الشديد لدرجة دفعته للقول بأن هذه الدول تتخذ موقفا معاديا للولايات المتحدة.