رئيس جامعة جنوب الوادي: لا خسائر بالجامعة بسبب سوء الأحوال الجوية وتعطيل العمل غدًا    مكتبة مصر العامة بالأقصر تحتفل بالذكرى ال42 لتحرير سيناء.. صور    وزير الصحة يهنئ إيهاب هيكل ومجلس «أطباء الأسنان» للفوز في انتخابات النقابة    إزالة 27 حالة تعدٍّ على أراضي الدولة ضمن حملات الموجة ال 22 في الشرقية    جامعة القاهرة تناقش دور الملكية الفكرية في تحقيق أهداف التنمية المستدامة    غدًا.. قطع المياه عن قريتين ببني سويف لاستكمال مشروعات حياة كريمة    محافظ كفرالشيخ: استلام 47 ألف طن بشون وصوامع الأقماح    مصر تستهدف بيع أصول حكومية قيمتها 3.6 مليار دولار بالعام المالي المقبل    «الجارديان» عن مسؤول أممي: العدوان الإسرائيلي على غزة خلف 37 مليون طن من الأنقاض    الإمارات تستقبل دفعة جديدة من الأطفال الفلسطينيين الجرحى ومرضى السرطان    برقم مثير.. محمد عبد المنعم ومعلول يبصمان على ثنائية تاريخية في الأهلي    قائمة باريس سان جيرمان لمباراة لوهافر بالدوري الفرنسي    بيريرا يكشف حقيقة رفع قضية ضد حكم دولي في المحكمة الرياضية    تفاصيل 9 ضوابط استعدادًا لامتحانات الشهادة الإعدادية    وزير التعليم ومحافظ الغربية يفتتحان معرضًا لمنتجات طلاب المدارس الفنية    طبيب نفسي يوضح الأسباب وراء قضية مقتل طفل شبرا    الإعدام والمؤبد للمتهمين باللجان النوعية في المنوفية    وزيرة التضامن: فخورة بتقديم برنامج سينما المكفوفين بمهرجان الإسكندرية للفيلم القصير    علي الطيب يكشف تفاصيل دوره في مسلسل «مليحة»| فيديو    الليلة.. أصالة تلتقى جمهورها فى حفل بأبو ظبي    أهمية وفضل حسن الخلق في الإسلام: تعاليم وأنواع    الصحة: فرق الحوكمة نفذت 346 مرور على مراكز الرعاية الأولية لمتابعة صرف الألبان وتفعيل الملف العائلي    رئيس البرلمان العربي يكرم نائب رئيس الوزراء البحريني    محافظة القاهرة تكثف حملات إزالة الإشغالات والتعديات على حرم الطريق    السيسي يتفقد الأكاديمية العسكرية بالعاصمة الإدارية ويجري حوارًا مع الطلبة (صور)    التنمية المحلية: تدريب 2034 قيادة علي منظومة التصالح في مخالفات البناء بالمحافظات    كرة اليد، موعد مباراة الزمالك والترجي في نهائي بطولة أفريقيا    مديرية الشباب بالشرقية تنفذ دورات لطرق التعامل مع المصابين    خالد بيبو: لست ناظر مدرسة «غرفة ملابس الأهلي محكومة لوحدها»    «شريف ضد رونالدو».. موعد مباراة الخليج والنصر في الدوري السعودي والقنوات الناقلة    بعد فتح التصدير.. «بصل سوهاج» يغزو الأسواق العربية والأوروبية    «السياحة»: زيادة رحلات الطيران الوافدة ومد برنامج التحفيز حتى 29 أكتوبر    رئيس جهاز العاصمة الإدارية يجتمع بممثلي الشركات المنفذة لحي جاردن سيتي الجديدة    تعليم الإسكندرية تستقبل وفد المنظمة الأوروبية للتدريب    سياحة أسوان: استقرار الملاحة النيلية وبرامج الزيارات بعد العاصفة الحمراء | خاص    تحرير 134 محضرا وضبط دقيق بلدي قبل بيعه بالسوق السوداء في المنوفية    قوافل بالمحافظات.. استخراج 6964 بطاقة رقم قومي و17 ألف "مصدر مميكن"    استمرار حبس عاطلين وسيدة لحيازتهم 6 كيلو من مخدر البودر في بولاق الدكرور    أبو الغيط: الإبادة في غزة ألقت عبئًا ثقيلًا على أوضاع العمال هناك    هيئة شئون الأسرى الفلسطينيين: الوضع في سجون الاحتلال كارثي ومأساوي    حان وقت الصفقة.. تحرك جديد لعائلات الرهائن الإسرائيليين في تل أبيب    بسبب البث المباشر.. ميار الببلاوي تتصدر التريند    وزيرة التضامن توجه تحية لمهرجان الإسكندرية للفيلم القصير بسبب برنامج المكفوفين    خبيرة: يوم رائع لمواليد الأبراج النارية    الليلة.. أحمد سعد يحيي حفلا غنائيا في كندا    وسط اعتقال أكثر من 550.. الاحتجاجات الطلابية المناهضة لإسرائيل بالجامعات الأمريكية ترفض التراجع    بيان عاجل لهيئة كبار العلماء السعودية: لا يجوز الحج في هذه الحالة ويأثم فاعله    «بيت الزكاة» يستقبل تبرعات أردنية ب 12 شاحنة ضمن حملة إغاثة غزة    متصلة تشكو من زوجها بسبب الكتب الخارجية.. وداعية يرد    مستشار الرئيس الفلسطيني: عواقب اجتياح رفح الفلسطينية ستكون كارثية    هل يوجد تعارض بين تناول التطعيم وارتفاع حرارة الجسم للأطفال؟ هيئة الدواء تجيب    الكشف على 165 مواطنًا خلال قافلة طبية بالزعفرانة وعرب عايش برأس غارب    طلب إحاطة يحذر من تزايد معدلات الولادة القيصرية    أفضل دعاء تبدأ وتختم به يومك.. واظب عليه    وزير الخارجية يتوجه إلى الرياض للمشاركة في أعمال المنتدى الاقتصادي العالمي    إشادة دولية بتجربة مصر في مجال التغطية الصحية الشاملة    "كنت ببعتله تحياتي".. كولر يكشف سر الورقة التي أعطاها ل رامي ربيعة أثناء مباراة مازيمبي    عمل نفتخر به.. حسن الرداد يكشف تفاصيل مسلسل «محارب»    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



كيف يُكتب تاريخ مصر؟ .. وثائق محبوسة فى بطن الدولة.. وشهادات منحازة.. ووقائع مخفية أو مشوهة

تتزايد فى أيامنا تلك شهادات المثقفين، والسياسيين الذين يعبرون عن كل الاتجاهات، وما بين ناقد أو ناقم على الأوضاع الحالية، وبين مؤيد لسياسات الدولة ومسيرتها، وبين نظرة موضوعية تحاول الإلمام بما يحدث على أرض الكنانة وترصده، يتأتى السؤال: هل يمكن لتلك الكتابات أن تؤرخ لما يحدث فى مصر من وقائع فى تلك الفترة، التى تمثل منعطفًا خطيرًا فى تاريخها؟
 وهل يجوز الاعتماد على وجهات النظر الشخصية فى توثيق تاريخنا؟ وماذا عن تاريخنا فى سنوات القرن الماضى الذى شوه معظمه، وحذف بعضه، وبعد الضجة التى أحدثتها رواية «عزازيل» التى تتناول فترة مهمة من تاريخ مصر القديم فى القرن الخامس الميلادى، بات السؤال الأهم هل لدينا فى مصر تاريخ موثق؟
«هناك ثلاث مدارس فى كتابة التاريخ، مدرسة «ما قال لى وقلت له» دون وجود أى دليل على صدق ما يقال، ومدرسة «يا عوازل فلفلوا»، وتعنى أن يكتب التاريخ شخص يسعى لإغاظة شخص ما بإعلاء شأن أحد، أو الحط من شأن آخر، أما المدرسة الثالثة فهى التى تعتمد على الوثائق الصحيحة، ولذا فهى مدرسة موضوعية علمية».
 هكذا لخص الكاتب أنيس منصور طرق كتابة التاريخ فى أحد مقالات عموده «مواقف» لنتساءل بأى الطرق يكتب التاريخ فى مصر وبخاصة فى ظل تراجع الطريقة الأخيرة فى عملية «التأريخ» التى تختلف عن «التاريخ»، فالأولى تعنى كما يقول المتخصصون، كتابة الأحداث بشكل يعتمد على الوثائق والسجلات الرسمية.
 أما الثانية فتعنى صياغة التاريخ بأسلوب أدبى، يكون أقرب للسيرة الذاتية، كما لا يخلو من مظاهر الانحياز مهما كان حرص كاتبها على الموضوعية، وبما أننا نعانى فى مصر من قضية الوثائق والحصول عليها، نجد أن تاريخ مصر الحديث، كتب بإحدى طريقتين ذكرهما الكاتب أنيس منصور من دون الثالثة، والنتيجة هى ضياع أجزاء كاملة من تاريخنا، أو تشويهها وافتقادنا لحقيقة ما وقع بها من أحداث، ليس فيما يتعلق فقط بما وقع قبل الثورة فى عهد أسرة محمد على باشا، ولكن فى فترات أخرى غيرها.
 ولعل رواية «عزازيل» للدكتور يوسف زيدان التى تناولت جزءًا من تاريخ الكنيسة المصرية فى بداياتها الأولى فى القرنين الرابع والخامس الميلاديين، وأثارت الكثير من الجدل من قبل الكنيسة المصرية لتعرضها لبعض مظاهر العنف التى تميزت بها تلك الفترة، أكبر دليل على ذلك، فالكنيسة هاجمت الرواية واعتبرتها غير صحيحة، بينما أكد علماء المصريات القديمة مثل دكتور وسيم السيسى صحة ما جاء بها من وقائع، وهو ما يعنى أن التحيز فى كتابة التاريخ لا يعنى التحيز لشخص فقط، ولكنه يعنى التحيز لفترة ما أيضًا.
وهو ما أكده دكتور يوسف زيدان، مدير مركز المخطوطات بمكتبة الإسكندرية بقوله: «لم نفعل ذلك فى تاريخنا المسيحى فقط، ولكن فى تاريخنا الإسلامى أيضًا، لنسبغ على رجال الدين هنا أو هناك، هالة من التقديس، حتى لو تسبب ذلك فى تزييف التاريخ، أو إسقاط أجزاء منه، ولذا تبرز قيمة الوثائق والمخطوطات الخاصة بكل عصر أو حقبة زمنية لتمنحنا صورة أقرب للحقيقة عن ذلك العصر».
وتعتبر قضية الوثائق فى مصر قضية شائكة، لا من حيث ضعف مواد القانون الذى ينظم العمل بها فقط، ولكن من حيث عدم وجود ما يضمن الاحتفاظ بوثائق كل حقبة زمنية بشكل يضمن كتابة تاريخها بشكل دقيق، وعلى الرغم من إقرار الحكومة المصرية مؤخرًا مشروع قانون لحماية المخطوطات والوثائق القومية، يلزم جميع الجهات التى تمتلك مخطوطات، بتقديم بيان عنها إلى دار الكتب والوثائق، سواء كانت جهات رسمية أو خاصة أو أفرادًا، ويعاقب كل من يبدد أو يهمل المحافظة على المخطوطات أو يحاول إخراجها خارج مصر، إلا أنه فى نفس الوقت لا يلزم الجهات الرسمية خاصة السيادية منها، كالخارجية والداخلية، ورئاسة الجمهورية، والمخابرات، بتسليم ما لديها من وثائق، والإفراج عن تلك الوثائق بعد فترة زمنية، لتكون متاحة لكتاب التاريخ بشكل يعيد الذاكرة للتاريخ المصرى، ويحميه من وجهات النظر التى باتت هى كل مصادره الموثقة.
يذكر أن الوثائق يحكمها فى مصر قانون رقم 356 لسنة 1954، الذى تضمن إنشاء دار الوثائق التاريخية القومية الحالية، ومنح وزير الثقافة سلطة إصدار قرار الاستيلاء على الوثائق التى توجد لدى الأفراد أو الهيئات، ولكنه سمح للوزارات والهيئات السيادية فى مصر بالاحتفاظ بالوثائق الخاصة بها فى أرشيفها الخاص، وهو ما يعنى غياب وثائق مهمة كمحادثات ومخاطبات رئيس الدولة، ووثائق الخارجية، والنتيجة كما قال دكتور صابر عرب، رئيس دار الوثائق عدم تسلم الدار لوثائق رسمية من تلك الجهات منذ عام 1968، أى أن تاريخ واحدة من أهم الحقب التاريخية فى مصر غير مسجل بوثائق رسمية.
«بسبب القصور فى القانون القديم، كان التفكير فى القانون الجديد فى محاولة لحل مشكلة الوثائق التى باتت تعيق عملية توثيق التاريخ فى مصر وكتابته بشكل علمى»، هكذا تحدث دكتور خالد عزب المسؤول الإعلامى لمكتبة الإسكندرية، المنوط به شراء وجمع الوثائق فى المشروع الذى تتبناه المكتبة، والذى أضاف: «المشكلة فى القانون الجديد هى ذلك التعارض بينه وبين نص الدستور، الذى يقر مبدأ حرية الملكية الشخصية.
فبعض الأفراد يرثون صوراً أو مكاتبات نادرة عن آبائهم، فهل يجوز بموجب القانون الجديد انتهاك ملكيتهم لها، والحصول عليها لإيداعها بدار الوثائق؟ ومن خلال تجربتى التى بدأتها منذ أكثر من عامين لشراء وجمع أكبر عدد ممكن من الوثائق، اكتشفت أن هناك سوقاً واسعة الأرجاء للوثائق، تبدأ من ورثة بعض الشخصيات المهمة التى لا تعرف قيمة الوثيقة التى لديها، وتنتهى بالتجار المتخصصين فى هذا المجال، وفى اعتقادى أن تلك السوق لن تنتهى إلا إذا سادت الشفافية فى عمل المؤسسات التى عليها تسليم ما لديها من أوراق لدار الوثائق».
لا أحد يعرف على وجه التحديد من هم تجار الوثائق فى مصر، وأين يمكن الوصول إليهم، ولكن الشىء المؤكد أن دار الوثائق فقدت بالسرقة عددًا من وثائقها، مثل وثائق الحجاز المتعلقة بحملة إبراهيم باشا نجل محمد على، فى الحجاز بطلب من الإمبراطور العثمانى للقضاء على الدولة السعودية الأولى، ووثيقة نادرة للإمام الشافعى تحمل خاتمه الخاص واختفت عام 2002، كما أن هناك تضاربًا كبيرًا فى عدد الوثائق التى تحتفظ بها دار الكتب والوثائق القومية فى مصر.
 فبينما سبق للدكتور صلاح فضل رئيس دار الكتب الإعلان منذ عدة سنوات أنها لا تتجاوز 50 ألف وثيقة، فإن الدكتور صابر عرب رئيس دار الكتب والوثائق القومية الحالى أعلن فى مطلع العام الماضى أن عددها يقترب من نحو 100 مليون وثيقة، وأن هذا الرقم لا يشكل سوى 15٪ فقط من المخطوطات والوثائق المصرية، بينما تتوزع بقية تركة المخطوطات فى مخازن الوزارات والمؤسسات الحكومية المختلفة بأسلوب يستحيل معه الحفاظ على تلك الوثائق.
 وهو ما يستدل عليه من حديث الدكتور عبدالعزيز حمودة المستشار الثقافى الأسبق لمصر فى واشنطن، والذى قال فى أحد مقالاته عن واقع الوثائق بمصر: «كانت مكتبة الكونجرس الأمريكية، قد دعت لمؤتمر عالمى، بالاشتراك مع مؤسسة أحمد زكى، يمانى الثقافية، للتدارس حول واقع المخطوطات الشرقية، والخطط المستقبلية، لصيانتها وترميمها والحفاظ عليها، وشاء حظى العاثر أن أدعى، بحكم عملى وقتها، لحضور فعاليات ذلك المؤتمر، الذى تسابق المتحدثون، بلا مبالغة، وهم عدد كبير من أساتذة الاستشراق وعمالقته فى العالم كله، بالإضافة إلى عدد من العلماء العرب، والشرق أوسطيين، فى تأكيد مأساوية واقع الوثائق والمخطوطات المصرية، العربية والتركية والفارسية، الموجودة فى دار الكتب المصرية، وكان كلما قام أحد المشاركين بالحديث عن واقع تلك الوثائق المأسوى فى مصر غصت فى مقعدى، خاصة مع ما لديه من أسانيد».
واقع دار الكتب والوثائق وما تتعرض له الوثائق فيه من إهمال هو مبرر الكثيرين ممن يروجون لعدم جدوى تسليم الوثائق لتلك الدار، وهو ما ينفيه دكتور صابر عرب، المسؤول عنها، بالقول إن الدار تم تطويرها منذ عدة سنوات لتصبح على أعلى مستوى، من حيث صيانة الوثائق وأرشفتها، مؤكداً أنه لا مانع من تسليم الوثائق والمخطوطات للدار التى باتت تضم بين جنباتها متخصصين فى هذا المجال، مشيرًا إلى أنه سيتم نقل جميع الوثائق إلى دار الكتب القديمة فى باب الخلق بعد الانتهاء من سن القانون الجديد.
وإذا كانت الوثيقة تعرف بأنها كل ورقة أو مكاتبة رسمية عليها أختام الدولة فى فترة ما، أو بعض الأوراق غير الرسمية التى تخص القادة، أو الزعماء، أو المسؤولين فى الدولة، وتعبر عن موقف أو حالة أو رأى فى قضية ما، كالخطابات على سبيل المثال، فإن السؤال المهم: لماذا لا يقوم المسؤولون فى مصر، خاصة الوزراء منهم، بتسليم ما لديهم من أوراق ووثائق عقب خروجهم من مناصبهم؟
 على سبيل المثال، وثائق مصر فى عهد الرئيس جمال عبدالناصر، والتى تحتفظ بجزء كبير منها ابنته دكتورة هدى عبدالناصر، وقامت فى العيد الخمسينى للثورة عام 2003، بإهداء دار الوثائق بعضاً نادراً من تلك الوثائق الخاصة بوالدها وبالثورة، ومازالت تحتفظ بالباقى منها، والكاتب محمد حسنين هيكل، الذى شغل العديد من المناصب فى الحقبة الناصرية، ويمتلك من الأوراق والمكاتبات والوثائق ما جعله يعلن منذ نحو العامين، عن إنشاء مؤسسته التى سيضع بها تلك الوثائق، التى قدرتها إحدى الجهات الدولية منذ عدة أعوام بمبلغ 3 ملايين جنيه إسترلينى، وعرضت شراءها ولكنه رفض.
وهو ما طرح السؤال وقتها، لماذا لم يقم هيكل بتسليم تلك الوثائق؟ وهل من حقه الاحتفاظ بها؟ الإجابة جاءت على لسان دكتور صلاح فضل، رئيس دار الكتب والوثائق السابق، الذى يقول: «موقف الأستاذ هيكل وطنى ومسؤول، فقد عرف منذ بداية حياته قيمة التوثيق، حتى إنه كان يكتب ملخصاً بكل حواراته، ويحتفظ بالقصاصات، ويوثقها، ليعرف كيف يعود إليها فى الوقت المناسب.
 وبحكم موقعه من الرئيس عبدالناصر كانت تصله بصفة مستمرة وثائق الدولة، كما حصل على الكثير منها بحكم علاقاته الداخلية والخارجية، والقصور الحقيقى فى المشهد الخاص بالوثائق حالياً، لا ذنب فيه للأستاذ هيكل، ولكن على المسؤولين الصامتين على قانون الوثائق الحالى، حيث لا إجبار على المؤسسات، أو الوزارات السيادية، بتسليم ما لديها من أوراق رسمية، حتى نحمى ذاكرة الوطن من الغيبوبة التى أصابتها، فنحن لا نملك وثائق رسمية لحرب اليمن، وتداعياتها بشكل رسمى، أو نكسة يونيو، أو ما جرى وراء الستار فى معاهدة السلام مع إسرائيل، أو تفاصيل الحرب على الجماعات الأصولية، ذات الفكر المتطرف، وغيرها من القضايا.
وفى اعتقادى أن بعض الجهات السيادية، التى تخشى على سمعة رجالها السابقين، هى التى تضغط لمنع وصول تلك الوثائق، إلى الجهات المختصة، وتضغط لمنع صدور القانون، والدليل أن تلك الوثائق لا توجد فى الوزارات والجهات المعنية، ولكن فى حوزة المسؤولين أنفسهم، فكل مسؤول يترك منصبه، يصطحب معه ما فى حوزته من أوراق، والنتيجة تلك الغيبوبة، التى نعاصرها فى تاريخنا المصرى، منذ أكثر من خمسين سنة».
الكارثة الحقيقية، أن أهم وأخطر وثائق مصر التاريخية لا تزال خارج دار الوثائق، ومنها على سبيل المثال وثائق قصر القبة، الذى جمعت فيه وثائق الديوان الملكى فى بداية عهد الثورة، ووثائق بداية العهد الجمهورى، رغم وجود قانون يلزم مختلف الجهات بإيداع الوثائق التاريخية، بدار الوثائق التاريخية بعد مرور عدد معين من السنين، يتراوح بين 15 و30 سنة.
 ويصدق نفس القول على وثائق وزارة الداخلية، الخاصة بالنشاط السياسى منذ العهد الملكى، وكذلك وثائق وزارة الخارجية التى تحتفظ بها منذ مطلع القرن الماضى، ولا يستطيع الباحثون استخدام أرشيفها، رغم أن وثائق الخارجية البريطانية، مثلاً، مفتوحة للاطلاع بعد انقضاء 30 سنة، وكذلك وثائق الخارجية الأمريكية.
ولا أحد ينسى تلك الضجة التى قامت فى مصر عقب عرض مسلسل «الملك فاروق» فى شهر رمضان قبل الماضى، وبعيداً عن نواحى الاختلاف والاتفاق على المسلسل، فالواضح أن المصريين دهشوا مما جاء بالمسلسل من أحداث ووقائع، كثيراً ما قرأوا عنها، بشكل مغاير لما حدث بالفعل.
فالحقبة الملكية فى كتب التاريخ المصرى هى حقبة فاسدة تمتلئ بالموبقات، ولم يكن بها أى مظهر من مظاهر التقدم والرقى والإنسانية، والملك سكير يشرب الخمر ليل نهار، ويطارد النساء أينما كُنَّ، وهو ما جعل تاريخ مصر الحديث تاريخاً تنقصه الدقة والحقائق، كما تقول دكتورة لطيفة سالم، أستاذ التاريخ الحديث بجامعة بنها، بقولها: «عندما قررت وضع كتابى عن الملك فاروق، ورغم دراستى الموضوعية لتلك الفترة بحكم عملى كأستاذ للتاريخ، فإننى قررت السفر إلى إنجلترا، حيث قضيت عاماً كاملاً فى الخارجية البريطانية، للاطلاع على الوثائق الخاصة بتلك الفترة، لعلمى باستحالة الحصول على تلك الوثائق من مصر.
وهناك ورغم ما قد يقال عن أن الاعتماد على تلك الوثائق عبر عن وجهة نظر واحدة، إلا أنها كانت تتسم بالحياد، مقارنة لما ذكر فى كتب التاريخ المصرى عن تلك الفترة، فالملك فاروق لم يحتس كأساً واحدة من الخمر طيلة حياته، كما كان يعانى من العجز الجنسى، الذى كان يأتى له بعلاجات من الهند، وفى اعتقادى أن كتابة التاريخ لها مواصفات، فلابد أن يُعتمد على المنهجية والأسلوب العلمى فى كتابته، ولا يعتمد على المشاهدة، أو كتابة المذكرات، أو الوثيقة فقط. فالوثائق الرسمية وغير الرسمية تحتمل الصدق والكذب، ولا يجب الاعتماد عليها وحدها، فالبيانات العسكرية التى صدرت فى حرب 1967 هى وثيقة رسمية، ولكنها قد تحمل الكثير من المغالطات».
أهمية عدم الاعتماد على الوثيقة وحدها فى كتابة التاريخ، أمر سبق لدكتور يونان لبيب رزق المؤرخ الراحل أن حدثنى عنه قبل وفاته، مشيراً إلى واقعة حدثت فى عهد السلطان المملوكى الغورى، الذى عثر على وثيقة من عهده تنص على قيام بعض الأشخاص فى هذه الفترة بهبة السلطان ممتلكاتهم التى ورثوها عن ذويهم، حررت من قبل قاضى القضاة، وقام السلطان الغورى ببناء الجامع والمدرسة اللذين يحملان اسمه فى تلك المنطقة التى باتت تعرف باسم «الغورية»، إلا أن المصادر التاريخية، أكدت أن السلطان الغورى استخدم نفوذه وسلطانه فى إجبار هؤلاء الأعيان على التنازل عن ممتلكاتهم الخاصة تحت وطأة التعذيب والإهانة، وليست هبة منهم إلى السلطان.
 ولذا، وكما كان يرى دكتور يونان، فإن التاريخ ليس ملكاً للمؤرخ أو صاحب المنصب أو الصحفى، ولكن هو ملك لكل من يمتلك الشروط الجيدة للكتابة، حيث الوثائق والمعلومات، واستخدام المنهج بجانب الخبرة، فى تفسير وتحليل المعلومات التى يحصل عليها، مع ذكر الظروف المحيطة بالحدث والابتعاد عن الخواطر الشخصية والأهواء الذاتية فى الكتابة.
وعلى الرغم من وجود أكثر من محاولة لكتابة تاريخ مصر المعاصر، بشكل محايد فى عهد كل من الرئيسين جمال عبدالناصر، والسادات، إلا أن كلتا التجربتين لم تكتملا، كانت المحاولة الأولى فى عام 1964 حينما صدر قرار وزير الثقافة والإرشاد القومى وقتها، الدكتور محمد عبدالقادر حاتم، بإنشاء مركز دراسات التاريخ القومى، وكان تابعاً لهيئة الاستعلامات، ثم تغير اسمه بقرار وزارى آخر فى عام 1967، ليصبح «مركز وثائق وتاريخ مصر المعاصر»، وبات يتبع الدكتور ثروت عكاشة، وزير الثقافة حينها، ثم تم ضم المركز إلى دار الكتب والوثائق القومية فى عام 1968.
 وفى عام 1996 تم حذف كلمة «وثائق»، لفصل الاختصاصات بينه وبين دار الوثائق القومية، وصار اسمه الحالى «مركز تاريخ مصر المعاصر»، ولكن لا يشعر به سوى المتخصصين، أما المحاولة الثانية فكانت فى عهد الرئيس السادات عام 1971، حينما تشكلت لجنة لكتابة التاريخ، ولكنها لم تكمل عملها لأسباب غير معروفة.
«أيديولوجية النظام الحاكم تلعب دوراً فى أن يكتب التاريخ بما يتفق مع هذه الأيديولوجية، ليس فى مصر وحدها ولكن فى العديد من دول العالم، التى تتبنى الفكر الواحد».. هكذا فسر الكاتب صلاح عيسى عدم وجود نسخة منقحة من تاريخ مصر.
وأضاف: «لقد حدث ذلك فى الاتحاد السوفييتى السابق، عندما تشكلت لجنة وكُتب التاريخ طبقاً للتفسير المادى له، كذلك فى العراق وسوريا، كُتب التاريخ تبعاً للأيديولوجية القومية، التى يتبناها حزب البعث، وهنا فى مصر كُتب التاريخ فى الستينيات استناداً للميثاق، وبناء على توجهات الحقبة الناصرية التى تبنت فكر القومية العربية، على عكس فترة حكم الرئيس السادات الذى تبنى دعوة (مصر للمصريين)، وفى النهاية ليس لدينا تاريخ واضح المعالم بلا تحيز، وما لدينا آراء متناقضة هى مذكرات شخصية تروى رؤى أصحابها».
أمة بلا تاريخ يوثق ماضيها، هى أمة بلا حاضر محدد المعالم، ومستقبل مرسوم الخطوات، فما بالنا ونحن بتنا أمة بتاريخ يروى نصف الحقيقة أو بعضها أو يقدمها لنا مشوهة، أليس من حق أجيال مصر الحالية والآتية أن يقرأوا تاريخهم بلحظات مجده وانكساراته، هفواته وتجلياته، أشخاصه بكل مميزاتهم ونقائصهم؟ سؤال نتركه للقائمين على أمرنا، علهم يدركون أهمية التاريخ الحقيقى.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.